ظهرت المجتمعات على حقيقتها كواحدة من فوائد كورونا تحديداً. تنتابنا هذه الأيام مشاعر متضاربة بينما يحاول الكثيرون منا فهم الإيقاع غير المسبوق لزمن يبدو متوقفاً لسبب في غاية الغموض وعدم الوضوح لدرجة أننا نعجز عن رؤيته. لقد باغتتنا هذه الجائحة من حيث لا ندري وتمكنت، لأول مرة على مدار 5 أجيال على الأقل، من شل جوانب هائلة في عالمنا الحديث. ففي بعض البلدان مثل مسقط رأس أبي إيطاليا، قفز عدد المصابين من 1 إلى 50 ألفاً في غضون 30 يوماً فقط. وتلك السرعة التي اتسم بها هذا الوباء لا مثيل لها إلا في بعض أفلام الكوارث على أقل تقدير، التي تُستخدم فيها برامج بصرية عالية الجودة لصنع مؤثرات خاصة ونسج سيناريوهات حول نهاية العالم. إلا أن الواقع هذه المرة قد تفوّق من حيث الأداء والذكاء على أكثر صناع الدراما خيالاً وإبداعاً، كما نرى في عناوين الأخبار اليومية المارة تحت أعيننا في شاشات هواتفنا الذكية التي لا نتوقف عن لمسها، والتي تعد حالياً حلقة الوصل الأكثر موثوقية نحو إحساس شبه مفقود بالاستقرار وما اعتدنا أن نكون عليه، عندما كان ينظر الكثيرون منا إلى عبور الحدود والحريات الشخصية باعتبارها أموراً مُسلَّماً بها.
لذا مع ميل الكثيرين منا افتراضياً إلى الإنكار والغضب، قد نتساءل عن منبع هذا كله، فنجد تعليقات لا طائل منها وغير مؤكدة تصدر يومياً لمهاجمة الصين، كما لو كنا بحاجة إلى كبش فداء يحمل عنا إحساساً بالذنب لا مفر منه، وكأنه شكل من أشكال المساعدة الذاتية يهدف إلى تخفيف شعورنا بالغصة والحيرة. إلا أن هذا الوضع على الرغم من خطورته وجسامته يمثل صفعة قوية لنا تذكرنا بطبيعة المجتمع الذي بنيناه وأصبح متاهة متشابكة ومترابطة من المورّدين حول العالم، الذين وضعوا على مدار العقود الثلاثة الماضية أسس سلسلة التوريد العالمية. فبداية من أنظمتنا الغذائية والمنتجات التي نشتريها، وصولاً إلى سلوكياتنا الاستهلاكية الشائعة واليومية، فإننا لسنا أكثر من انعكاس لنموذج الأعمال الذي يحكم المجتمع حالياً، ولا أقصد من ذلك أي تقليل في الشأن.
ما علاقة هذا بمعرفة فوائد كورونا والجائحة المتفشية حالياً؟
إن تحضُّرنا وسلوكياتنا الجشعة ضد كوكبنا هي التي وضعتنا في مواجهة مباشرة مع الحياة البرية بطريقة لم نشهدها من قبل. كما أن ارتفاع درجة حرارة الكوكب هو الذي يؤدي إلى خلق توازنات جديدة في التنوع الحيوي للكائنات بصورة غير معروفة لنا، ولكنها تخل بتوازن كوكب الأرض نفسه بشكل عام. علاوة على أن ظهور الطبقة الوسطى المتنامية في مختلف البلدان، ومطالبتها المستمرة بتطوير النظام الغذائي والطعام الذي نأكله، هو الذي أدى إلى تفاقم انتشار تربية الحيوانات من أجل الاستهلاك الآدمي، ما استنزف قدرتنا الزراعية استنزافاً يفوق الحدود المعقولة التي يجب أن نلتزم بها، إذا أردنا احترام إمكانات الكوكب بدلاً من قياسها وفقاً لمتطلبات نموذج موزّع دائماً للنمو، على النحو الذي تحدده مؤشرات الاقتصاد الكلي. كما أن وباء عدم المساواة بأقطابه الثنائية أو الثلاثية أو المتعددة، الذي تُوزع فيه الموارد الملموسة وغير الملموسة بشكل غير فعال وغير عادل، هو الذي يفاقم آليات استجابتنا لما يمكن أن تكون استجابة دولية مطلوبة للتحديات العالمية، المتروكة بكل أسف للحكومات المحلية كي تتصدى لها، بدلاً من انتداب جهات موضوعية للتعامل مع طبيعة مشكلات القرن الحادي والعشرين، التي تبدو جميعها شكلاً ومضموناً ذات طابع عالمي ومختلط.
لذا فإن فيروس كورونا هو انعكاس غير مقصود لما آلت إليه مجتمعاتنا، كما أنه انعكاس لاستخفافنا بمخاطر التعقيد المتنامي في نظام قد تخلى عن النماذج الخطية والمنهجية ليصبح شبكة مترابطة من الجهات الفاعلة، القادرة كلها على تحمل المعلومات والقيم والزعزعة على حد سواء. هذه الجائحة هي أحد العواقب غير المقصودة لنظام عزّز -عن طريق التقارب- المخاطر الشاملة لبنية متكاملة متعددة المتغيرات، تتسم بطريقتها الخاصة بأنها غاية في المرونة والدينامية والمطاوعة، ما أثبت فوائد كورونا بالفعل.
لذا في حين أن هذه المقالة لا تهدف إلى الاستخفاف بضرورة وضع آلية للاستجابة الفعالة الفورية نظراً لوصول الفيروس إلى أكثر المراحل خطورة حتى الآن ونظراً لاضطرارنا إلى التعامل مع منظومة رعاية صحية شبه منهارة، إلا أن أي جهد نبذله حالياً سيذهب في اتجاهين منفصلين:
- العلاجات والحلول (الخيار الأول) التي ستعزز من بنية نظام الصحة العامة المعتمد بشكل كبير حتى الآن على النماذج الصناعية للتنبؤ والتوزيع الخطي، التي ظهرت في القرن العشرين كجزء من تحديث المجتمع عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية ونشوء الأسواق الحرة لاحقاً مدفوعة بالإنتاج الصناعي. فقد صُمم هذا النظام عندما كانت الرعاية الصحية تُقدّم إلى نسبة أقل من السكان وعندما كان متوسط العمر المتوقع أقل بكثير.
- العلاجات والحلول (الخيار الثاني) التي ستعزز ظهور هيكل مرجعي نموذجي جديد، مبني على التعاون الدولي وتعددية الأطراف في سلسلة الإمداد الطبي والدوائي، ويهدف إلى بناء قدرات حقيقية ووقائية حول العالم عن طريق استخدام آليات فعالة لإعادة توزيع أعداد كافية من الطواقم والأجهزة الطبية التي ستعمل على نشر الصحة العامة بشكل أكثر عدالة في مختلف البلدان، هذا إلى جانب التعاون الدولي وتبادل الموارد المتاحة بين الاختصاصات المتعددة. باختصار: لا بد من سد الفجوة في منظومة الصحة العامة بأنحاء العالم وإعادة استثمارها في ضوء الاحتياجات الجديدة.
نحن في أمسّ الحاجة إلى معرفة فوائد كورونا وتغيير مفاهيم المواطنين حيال الصحة العامة بعد أن عشنا على تراث من التدخلات العلاجية المصممة لأجل عالم مختلف وطبيعة حياة مختلفة. اليوم، ونحن نواجه واحدة من أخطر الأزمات العالمية في عصرنا، يجب ألا ننسى أن فيروس "كوفيد-19" ليس أكثر من نتيجة مباشرة و(غير) متوازنة لهذا العصر، وأنه مجرد بداية لسلسلة من الأحداث العالمية المُقدّر لها أن تهدم دون قصد أنظمتنا الهشة تحت وطأة وضع طبيعي جديد يفرض نفسه. سوف يستنزف هذا الوضع الطبيعي الجديد جهودنا إذا ما تعاملنا مع أي تحدٍ في المستقبل كدول فردية، أو قد يقوينا ويعزز جهودنا إذا ما تغيرت طريقة تفكيرنا وأدركنا أن المشكلات العالمية تتطلب استجابات عالمية منسّقة، وأننا لا نستطيع المضي قدماً إلا إذا تقاربت أرواحنا كحضارة واحدة، هذا إذا كنا ما زلنا نريد أن تشرق الشمس غداً ونحن تحت سمائها.
اقرأ أيضاً: