ما حدث للعالم عندما فاجأنا تشات جي بي تي بإدخال الذكاء الاصطناعي لكل نواحي حياتنا، يذكّرنا حرفياً بما حصل من اضطراب و"كركبة" عالمية عندما فاجأتنا جائحة كوفيد-19. فقد انقسمت الدول والحكومات آنذاك إلى دول مستسلمة توقفت حياتها في التعليم والعمل والإبداع والتقدم، وجمدت في مكانها بانتظار عودة الوضع إلى ماكان عليه، بينما تأقلمت دول أخرى بسرعة، وهي الدول التي كان لديها الاستعداد والبنية التحتية والعقلية الابتكارية، وهو ما ساعدها ليس على الصمود فقط، بل للتحول إلى الإبداع والابتكار وتحقيق نجاحات على الرغم مما كان يوصف بـ "الوضع غير الطبيعي"، ويمكنكم أن تتذكروا مثالاً واحداً فقط، وهو أن دولة الإمارات وصلت إلى المريخ وعقدت معرض إكبسو بنجاح في ظل جائحة كوفيد-19.
وكذلك الأمر، فقد حصل الانقسام والارتباك في المؤسسات والشركات، فمنها من جمد وارتبك، ومنها من انتقل بسلاسة إلى مستوى أفضل من الابتكار والنجاح. نعم، حرفياً، فبعض الشركات كانت جائحة كوفيد-19 بالنسبة لها نقلة نوعية وفرصة تطور غير مسبوقة. وقس على ذلك الأفراد أنفسهم، فالأفراد من أمثالنا أيضاً منهم من تجمّد في مكانه وصار يرثي لحاله لأنه غير قادر على التأقلم مع الوضع الجديد لا في التعليم ولا العمل، بينما ظهرت المهارات المخزنة لدى أفراد آخرين، لتساعدهم على التأقلم بسرعة وتمكنهم من استغلال الأزمة لصالحهم، والبدء بتطوير أنفسهم وتعلم مهارات العمل عن بعد وتعلم مهارات جديدة واتباع مساقات تعليمية عبر الإنترنت استعداداً للمرحلة الجديدة من حياتهم المهنية.
لقد تعلمنا أن التأقلم مع الجديد ومع المفاجآت، هو عقلية ومهارة يمكن التدريب عليها، هذه المهارة التي يسميها المفكر العالمي نسيم طالب "ضد الهشاشة" في كتابه الذي حمل هذا الاسم، يقابلها في العربية عدة تعابير مثل "المرونة"، و"الصلادة"، وهي كلمات تعبر عن العقليات البشرية التي تعود لسابق عهدها وربما تكون أقوى مما كانت عندما تتعرض للاصطدام أو المفاجآت.
وما نلاحظه اليوم أن العبارات التي تكررت على مسامعنا خلال جائحة كوفيد-19، مثل "التأقلم" و"المرونة"، عادت اليوم لتتكرر مع انتشار جائحة الذكاء الاصطناعي، وهي جائحة بالمعنى الإيجابي هنا، لكنها كمفاجأة لا تختلف عن المفاجأة والاضطراب الذي تسببت به مداهمة وباء كوفيد-19 للعالم. وما حصل مع جائحة كوفيد-19 للدول والمؤسسات والأفراد، حصل تماماً مع جائحة الذكاء الاصطناعي عندما ظهر "وباء" تشات جي بي تي 3، ثم المتحور الآخر تشات جي بي تي 4 ثم بارد من جوجل ثم سيل من المتحورات الأخرى التي غمرت حياتنا فجأة، وجعلت الدول والشركات في حالة ارتباك تشبه ما حصل في الجائحة.
وعلى الرغم من أن العالم كان يتحدث دوماً عن احتمال حدوث الأوبئة، لكن بعض الدول والمؤسسات والأفراد فقط كانوا مستعدين لأي مفاجأة، ولأن يحصل الوباء في أي لحظة. وكذلك، ماحصل حينما داهمنا الذكاء الاصطناعي علي حين غرّة، فقد كان العالم يتوقع حدوث انتشار للذكاء الاصطناعي كالوباء، لكننا افترضنا أن ذلك سيحصل بالتدريج. وحينما فوجئنا به، حصلت ذات "الكركبة"، فهناك دول تجمدت في مكانها ولم تعرف ما تفعل، ودول أخرى سارعت وتبنّت التقنيات الحديثة، وبدأت تدرب قياداتها على استخدامها والتحضير لتشريعاتها، وكذلك فعلت المؤسسات والشركات، فبعضها مازال يعيش في عصر ما قبل الذكاء الاصطناعي، وبعضها الآخر كان مرناً ومستعداً للتأقلم وتبني التقنيات الجديدة، فقفز إلى المركب وبدأ يتعلم ويتطور.
وينطبق ذلك على الأفراد أيضاً، فمنّا من تعامل مع الذكاء الاصطناعي -كالعادة- كعدو مشتبه به، وبات تركيزنا على البحث عن ثغراته، بينما قفز فريق آخر من المبادرين الأوائل لبدء تعلمه وإتقانه والتحكم به قبل أن يتحكم بهم.
ما يحصل اليوم برأيي يشبه الانتقال من عصر استخدام الحصان والجمال إلى السيارات والقطارات، ويشبه الانتقال من عصر العمل من دون إنترنت إلى العمل مع استخدام الإنترنت، ويشبه العمل مع الإنترنت قبل ظهور محرك البحث جوجل وبعده.
من ينتظر أو يحاول تجاهل هذه التقنيات الجديدة أو يتأخر في استخدامها، فلن يحقق سوى خلق حاجز يصعب إصلاحه بينه وبين هذه التقنية الجديدة.
هل تذكرون عندما بدأ الإنترنت وتردد بعض الناس باستخدامه؟ وما زال بعضهم يستخدمه حتى اليوم كالطفل الذي يحاول تعلم لغة جديدة؟ هذا ما سيحصل لمن لا يسارع ببدء التدرب والتعلم على هذه التكنولوجيا الجديدة.
ليس عليك أن تركز على أخطاء الذكاء الاصطناعي، بل عليك أن تركز على إيجابياته والأشياء الصحيحة التي يمكن أن يقوم بها، وابدأ بتجريبها واستخدامها في حياتك الشخصية والمهنية دون تردد، فالوقت متاح اليوم "للتخبيص" وارتكاب الأخطاء في أثناء التعلم، لكنه لكن يكون متاحاً لفترة طويلة.