هل نبالغ في تقدير سرعة ثورة الذكاء الاصطناعي؟

14 دقيقة
رسم توضيحي: كلافه جتشي

إذا صدقنا المبالغة المفرطة في الدعاية حول الذكاء الاصطناعي، فسنرى أنه على وشك أن يربط أحذيتنا ويدير شركاتنا ويقضي على الجوع في العالم. أقول هذا لأن شركة ماكنزي تتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي ما بين 17.1 و25.6 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي سنوياً؛ هذه رؤية براقة، لكنها في الواقع ضرب من الخيال. وبوصفي مسؤولاً تنفيذياً لشؤون المعلومات يضع الجدوى الاقتصادية في صدارة اهتماماته ويتمتع بخبرة تناهز ثلاثة عقود في تحويل التكنولوجيات الناشئة إلى قيمة اقتصادية حقيقية، فقد شاهدت هذا "الفيلم" من قبل، ونادراً ما كانت النهاية تشبه ما وعد به الإعلان الترويجي. لقد أمضينا 75 عاماً نسأل عما إذا كانت الآلات قادرة على التفكير. وربما كان السؤال الأجدر بالطرح اليوم هو: هل لا نزال نحن قادرين على التفكير؟

على الرغم مما يتمتع به الذكاء الاصطناعي من قدرات هائلة ستعيد تشكيل أنماط حياتنا وعملنا، فهذه التحولات ستحدث بوتيرة أبطأ وستواجه تعقيدات أكثر وستدر أرباحاً أقل على المدى المنظور مما توحي به المبالغة في الدعاية المحيطة به؛ إذ تضخ الشركات مليارات الدولارات في الذكاء الاصطناعي دون وجود عائد استثماري واضح، كما أن النماذج المفتوحة المصدر، مثل التي طورتها شركتا ميتا وديب سيك، تقوض الميزة التنافسية التي تتمتع بها نماذج الأساس التي طورتها كبرى شركات التكنولوجيا الأخرى، مثل منصتي جيميناي وتشات جي بي تي. أما نموذج عمل الذكاء الاصطناعي التوليدي فلا يزال يفتقر إلى مسار واضح نحو تحقيق إيرادات مستدامة، على الرغم مما ينطوي عليه من إمكانات كبيرة.

لن يتحقق التحول الجذري الذي سيحدثه الذكاء الاصطناعي بين عشية وضحاها مثلما يروج البعض، وإن كان هذا التحول قادماً لا محالة؛ إذ نسيء اليوم فهم 6 مفاهيم جوهرية تتعلق بكيفية خلق الذكاء الاصطناعي للقيمة والزمن اللازم لخلقها.

سيستغرق الأثر الحقيقي للذكاء الاصطناعي وقتاً أطول بكثير مما نتصور.

في عام 1987، قال عالم الاقتصاد روبرت سولو مقولته الشهيرة: "يمكنك أن ترى مظاهر عصر أجهزة الكمبيوتر في مختلف جوانب الحياة، ما عدا إحصاءات الإنتاجية". وبعد عقود من الزمن، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يمثل أحدث تجليات هذا التناقض. فعلى الرغم من ضخ استثمارات بمليارات الدولارات في هذا المجال، لم تظهر حتى الآن نتائج واضحة تثبت قدرته على تحسين الكفاءة على النحو المأمول. وقد وجد البنك الاحتياطي الفيدرالي في مدينة كانساس سيتي أن أثر الذكاء الاصطناعي في الإنتاجية لا يزال محدوداً مقارنة بالتحولات التكنولوجية السابقة.

لا تتمثل المشكلة في الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، بل في سقف توقعاتنا؛ فالذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل نماذج اللغة الضخمة، يمثل تكنولوجيا عامة الغرض (جي بي تي)، مع الإشارة إلى أن اختصار "جي بي تي" في اسم "تشات جي بي تي" يرمز إلى أمر مختلف. وقد شهدنا ظهور تكنولوجيات عامة الغرض من قبل، مثل المطبعة والكهرباء والإنترنت، وجميعها اتبع النمط نفسه. ففي كل حالة استغرق الأمر عقوداً حتى أحدثت هذه التكنولوجيات أثرها التحويلي الحقيقي في الاقتصاد. صحيح أن الكهرباء أحدثت ثورة في قطاع التصنيع، لكنها استغرقت 40 عاماً كي تتواءم تصاميم المصانع مع الإمكانات الجديدة. أما الإنترنت فقد ظهرت منذ سبعينيات القرن العشرين، لكن نماذج العمل لم تشهد تغيرات جذرية إلا في العقد الأول من القرن الحالي.

ثمة أسباب وجيهة تدعونا إلى الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي سيسلك المسار الذي سلكته التكنولوجيات السابقة نفسه، أي أنه سيتقدم بخطى بطيئة ولكن ثابتة، وعلى نحو لا مفر منه. على سبيل المثال، يرى عالم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والحائز جائزة نوبل، دارون أسيموغلو، أن 5% فقط من المهام يمكن أتمتتها بطريقة مربحة خلال العقد المقبل، ما سيضيف 1% فقط إلى الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، وهو رقم بعيد كل البعد مقارنة بالتحولات الهائلة التي يتوقعها البعض. ويرى أن التحدي الحقيقي يكمن في أن كلفة الزعزعة وإعادة التدريب والتكامل والحوسبة ستفوق العوائد المتوقعة من أتمتة معظم المهام في أغلب المؤسسات.

فضلاً عن ذلك، فقد جنينا بالفعل ثمار التحول الرقمي السهلة المنال، مثل أتمتة العمليات التشغيلية ورقمنة المعلومات وتحويل العملاء إلى القنوات الرقمية ونقل البنية التحتية الأساسية إلى خدمات الحوسبة السحابية. وقد أسفرت هذه النجاحات المبكرة عن تحسينات ملموسة في الكفاءة. غير أن كل قفزة تكنولوجية جديدة باتت تحقق عوائد أقل مما سبقها، وهو ما يصعب على الذكاء الاصطناعي أو أي تكنولوجيا أخرى إحداث تحسينات واسعة النطاق في الإنتاجية على المستوى الكلي للاقتصاد. فعلى الرغم من الابتكارات التكنولوجية الثورية، مثل الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والحوسبة السحابية، لا تزال وتيرة نمو إنتاجية عوامل الإنتاج الكلية في الولايات المتحدة ضعيفة على مدى العقود الخمسة الماضية؛ إذ لم يتجاوز معدل النمو في الفترة بين 1974 و2024 نصف المعدل الذي تحقق في فترة الازدهار التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. قد يسهم الذكاء الاصطناعي في تعزيز الإنتاجية على المستوى الفردي، لكنه لن يحقق تحسناً ملحوظاً في الإنتاجية على نطاق واسع في المستقبل القريب، وربما لا يحقق أي تحسن على الإطلاق. وقد أوضحت دراسة حديثة أجراها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية بالولايات المتحدة هذا التباين بين التبني وشدة الاستخدام؛ إذ تبين أن 40% من البالغين الأميركيين استخدموا الذكاء الاصطناعي التوليدي، لكن معظمهم استخدمه بمعدلات ضئيلة جداً لا تتجاوز 1 إلى 5% من إجمالي وقت العمل، وعند الجمع بين هذه النتائج وتقديرات المستخدمين للوقت الموفر، يتضح أن أثره الكلي على الإنتاجية لا يتجاوز 1%.

هذا لا يعني أن الذكاء الاصطناعي عديم الفائدة، كل ما هنالك أن قيمته الحقيقية لن تتحقق من خلال تحولات جذرية وفورية، بل عبر إدماجه بأسلوب موجه ومدروس بعناية؛ فالاعتماد على تحقيق نتائج سريعة خلال فترة وجيزة ينطوي على مخاطر كبيرة، مثل إهدار رؤوس الأموال وتعثر جهود الأتمتة وزعزعة استقرار فرق العمل دون داع. ومن ثم، على الشركات أن تركز على الرؤية البعيدة المدى، مثل بناء الأنظمة المناسبة وتدريب الفرق الداخلية واكتشاف الطرق التي تجعل الذكاء الاصطناعي أداة نافعة لأنشطتها.

ثمة تفاؤل مفرط بشأن سرعة تبني كبرى الشركات للذكاء الاصطناعي.

عند طرح تشات جي بي تي، شعر الكثيرون بأنهم أمام معجزة تكنولوجية وثورة وقعت بين عشية وضحاها؛ إذ غصت تقارير أرباح الشركات بعبارات الإشادة بالذكاء الاصطناعي، وانطلقت استثمارات رأس المال المغامر في سباق محموم، وتسابقت العناوين الصحفية في التبشير بتحول فوري وشامل سيحدثه الذكاء الاصطناعي في شتى مناحي الحياة. غير أن هذا النمط من الحماس المفرط ليس جديداً علينا؛ فقد شهدناه من قبل مع ظهور أجهزة الكمبيوتر الشخصية وفقاعة الإنترنت وصعود البلوك تشين، بل وحتى في المراحل الأولى من ظهور الحوسبة السحابية. وعلى الأرجح، سنقع في الخطأ ذاته مجدداً.

نخطئ في تقدير سرعة التحول التكنولوجي بسبب 3 تحيزات معرفية. أولها مغالطة التخطيط التي تجعلنا نستهين بالزمن اللازم لحدوث التحول. وثانيها انحياز التفاؤل الذي يوهمنا بأن عملية التبني ستكون سهلة وسلسة. وثالثها انحياز الحداثة الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأن سرعة انتشار الذكاء الاصطناعي بين المستخدمين الأفراد ستنتقل بسهولة مماثلة إلى البيئات المؤسسية. وعلى الرغم من كل ما يقال عن تحيزات الذكاء الاصطناعي، فغالباً ما نتغاضى عن تحيزاتنا نحن، ويبدو أن هذا التغاضي يتجلى بصورة أوضح في مسألة تبني الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسات؛ فالذكاء الاصطناعي المؤسسي ليس مجرد تكنولوجيا جاهزة للتشغيل المباشر، بل يصطدم بأنظمة عتيقة ومعوقات تنظيمية وثقافات مؤسسية شديدة الحذر ونقص في الكفاءات المتخصصة، فضلاً عن العقبات البيروقراطية في عمليات الشراء. وبالتالي فالعراقيل ليست تقنية بحتة، بل هي منهجية في المقام الأول. لقد استغرقنا قرناً كاملاً لإضافة عجلات إلى الحقائب، فلا تستهن بالقوى الكامنة التي تبطئ وتيرة انتشار التكنولوجيا.

تمثل قصة آي بي إم واتسون هيلث نموذجاً صارخاً يحذر من الإفراط في التوقعات؛ إذ رفعت شركة آي بي إم سقف الوعود إلى أقصاه حين أعلنت أنها "ستهزم السرطان بالتفكير المتقدم" عبر الذكاء الاصطناعي، وراهنت بقوة على أن هذه التكنولوجيا ستحدث تحولاً جذرياً في مجال الرعاية الصحية. لكن بحلول عام 2022، انتهت الحال بمشروع واتسون إلى التفكيك وبيع مكوناته لأطراف متعددة، بعد أن اصطدمت طموحاته بواقع البيانات الطبية المجزأة والتعقيدات التنظيمية الخانقة وصعوبات الواقع العملي؛ إذ رأت المستشفيات أنه غير موثوق واعتبره الأطباء غير عملي، في حين تزايدت التحفظات الأخلاقية بشأنه. ولم يكن فشل مشروع واتسون بسبب الذكاء الاصطناعي نفسه، بل لأن شركة آي بي إم استهانت بصعوبة تطبيق هذا الحل على أرض الواقع.

سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى إحداث تحولات جذرية في العديد من القطاعات، لكن ليس بالسرعة التي اعتدناها في وادي السيليكون، بل ستجري وفق وتيرة تتماشى مع طبيعة العمل المؤسسي، أي بإيقاع أبطأ وعلى مدى زمني أطول وستواجه مستويات من التعقيد والعقبات أعلى مما يظنه معظم الناس. والشركات التي تقع ضحية التحيز وتتجاهل هذه الحقائق سيؤول بها الحال إلى إهدار الموارد والمبالغة في الوعود وتقويض الثقة. وما من شك في أن الرابحين الحقيقيين في هذا المجال لن يكونوا أصحاب الادعاءات الصاخبة، بل الذين يمتلكون الصبر لبناء تغيير حقيقي ودائم.

مبالغة السوق في تقدير قيمة شركات الذكاء الاصطناعي

يرتكب المستثمرون خطأً فادحاً فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي: إذ يتعاملون مع شركات الذكاء الاصطناعي بوصفها شركات برمجيات عالية النمو ولا تعتمد على أصول مادية كبيرة، في حين أن واقعها مختلف تماماً؛ فهي شركات تعتمد بدرجة كبيرة على رأس المال وتتكبد تكاليف عالية وتتطلب بنى تحتية معقدة. وقد وصلت أسعار أسهم هذه الشركات إلى مستويات تفوق قيمتها الفعلية بنسبة 20% إلى 40%، بناءً على توقعات بأرباح مستقبلية لم تتحقق بعد.

لا يقتصر هذا الخلل، من وجهة نظر المسؤولين التنفيذيين، على اعتبار هذا الخلل مجرد سوء تقدير من السوق، بل هو مزلق حقيقي في التنفيذ؛ فالتقييمات المبالغ فيها تولد توقعات غير واقعية تمتد آثارها إلى داخل المؤسسة نفسها؛ إذ تنشأ ضغوط للتحرك بسرعة أو إطلاق مشروعات استعراضية أو إظهار الانخراط في الذكاء الاصطناعي بأي وسيلة كانت. والنتيجة؟ التسرع في طرح المنتجات واختلال الأولويات وتوجيه الاستثمارات نحو الأوهام لا نحو تحسين الأداء التشغيلي. وفي سوق تراهن على المعجزات، تكون الميزة الحقيقية في التروي: أي لدى القادة الذين يفضلون التكامل الفعلي على العروض البراقة ويعلون قيمة النتائج المستدامة على الظهور الآني.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة أوبن أيه آي؛ فهي تسعى للوصول إلى تقييم يبلغ 300 مليار دولار، أي ضعفي تقييم فيسبوك عند طرح أسهمها للاكتتاب الأولي في البورصة وثمانية أضعاف تقييم جوجل عند طرح أسهمها للاكتتاب الأولي بعد احتساب أثر التضخم. ويتعامل المستثمرون معها كما لو كانت شركة برمجيات سحابية ذات هوامش ربحية آخذة في التوسع، لكن الذكاء الاصطناعي ليس نموذج برمجيات كخدمة؛ فتكاليف أوبن أيه آي لا تتناقص مع التوسع بل ترتفع مع ازدياد الطلب؛ فكل استعلام له كلفة، وكل عميل جديد يضيف أعباء إضافية. وتوقعت الشركة نفسها أن تتكبد خسائر قدرها 5 مليارات دولار مقابل إيرادات تبلغ 3.7 مليارات دولار خلال عام 2024.

تكمن المشكلة في أن متطلبات البنية التحتية اللازمة للذكاء الاصطناعي هائلة إلى حد مذهل؛ إذ تخطط شركات ميتا وألفابت وأمازون ومايكروسوفت مجتمعة لإنفاق 300 مليار دولار خلال هذا العام وحده. وتشير تحليلات بيانات التدفقات النقدية والتصريحات العلنية إلى أن نفقاتها الرأسمالية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي قد ارتفعت بنسبة تتراوح بين 40% و60% خلال عامين فقط. وتنفق مايكروسوفت وحدها 80 مليار دولار هذا العام. وتشير التقديرات إلى أن احتياجاتها من القدرة الحوسبية بحلول عام 2028 قد تضاهي استهلاك الكهرباء في دولة كاملة. وقد أدى الاستثمار في هذه البنية التحتية إلى خلق فجوة سنوية في الإيرادات تقدر بنحو 125 مليار دولار يجب على الشركات سدها.

وأيضاً، تسفر المنافسة عن تفاقم الضغوط على هوامش أرباح الذكاء الاصطناعي؛ إذ تسارع نماذج المصدر المفتوح، مثل لاما وميسترال وديب سيك-في3، إلى انتزاع حصص متزايدة من السوق. وقد وصل عدد مستخدمي لاما 3 التابع لشركة ميتا إلى أكثر من مليار مستخدم عبر منصات إنستغرام وواتساب وفيسبوك، دون أي تكلفة تذكر على المستهلكين. في المقابل، تتحمل شركة أوبن أيه آي كلفة كل مستخدم على حدة، كما تفتقر إلى منظومة توزيع مدمجة. وهكذا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى سلعة بوتيرة أسرع من أي دورة تكنولوجيا سابقة، وهي حقيقة أقر بها حتى رئيس مجلس إدارة شركة أوبن أيه آي نفسه.

تواجه القيادات المؤسسية التي تراهن على الذكاء الاصطناعي آثاراً حقيقية وآنية؛ فكثير منهم يتخذون قرارات استثمارية مصيرية استناداً إلى أدوات طورتها شركات قد لا تكون نماذجها التجارية قابلة للاستمرار على المدى البعيد. وفي حال واجهت هذه الشركات تجاوزات في التكاليف أو تباطؤاً في البحث والتطوير أو حتى انهياراً كاملاً، فقد تجد المؤسسات نفسها وقد تقطعت بها السبل وسط مسارات تنفيذ لم تكتمل. والمخاطر هنا لا تقتصر على الجانب المالي فحسب، بل تشمل النواحي التشغيلية أيضاً.

لن يكون الرابحون الحقيقيون في سباق الذكاء الاصطناعي هم الذين يسعون إلى التقييمات الفلكية، بل الشركات التي تدمج الذكاء الاصطناعي في جوانب تمنحها ميزة اقتصادية مستدامة، حيث يسرع هذا الدمج دورات صناعة القرار أو يرتقي بجودة القرارات أو يعيد تصور المنتجات، وذلك كله بعوائد استثمارية قابلة للقياس. فثورة الذكاء الاصطناعي ستكون اختباراً لصبر القادة ومثابرتهم، لا مجرد مغامرة مضاربة.

القيمة المالية الحقيقية لا تكمن في النماذج نفسها.

حتى إذا حققت الشركات المسؤولة عن تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي أرباحاً، فلن تستطيع الحفاظ على ميزتها التنافسية؛ لأن أعظم الابتكارات الثورية في عالم الذكاء الاصطناعي، مثل الشبكات العصبية وآليات الانتباه، ما هي إلا معادلات رياضية، والرياضيات لا يمكن تسجيل براءة اختراع لها.

وهنا يكمن الفرق الجوهري بين الاختراع والابتكار؛ فالاختراع يتمثل في تحقيق اكتشاف علمي، مثل بنية المحول أو خوارزمية جديدة، لكن الابتكار القابل للتوسع يتطلب أكثر من ذلك: التوزيع وهوامش الربح والمواءمة مع متطلبات السوق. ولا يكمن الاختبار الحقيقي للذكاء الاصطناعي في قدرتنا على ابتكار شيء جديد، بل في قدرتنا على إدماجه بعمق في الأنظمة المؤسسية بما يولد قيمة مستدامة وقابلة للقياس.

ولهذا السبب تحديداً، لن تتمكن النماذج من الحفاظ على ميزتها التنافسية، مهما كان مستوى تقدمها؛ فالتعاون المفتوح المصدر والدعم الحكومي للبحث العلمي سيدفعان الذكاء الاصطناعي نحو التحول إلى سلعة شائعة. وما إن يصبح الذكاء الاصطناعي منخفض التكلفة ومنتشر الاستخدام، فلن يعود ملكاً لطرف بعينه؛ فالقيمة الحقيقية لا تكمن في بناء نماذج الذكاء الاصطناعي، بل في كيفية استخدامها؛ فالمردود الحقيقي في الاستخدامات التطبيقية لا في النماذج.

بدأ الذكاء الاصطناعي بالانتقال من بيئة التشغيل في السحابة الإلكترونية إلى الأجهزة الشخصية، حيث لا يحتاج المستخدم إلى دفع رسوم مقابل الاستخدام. على الرغم من أن نظام أبل إنتليجنس للذكاء الاصطناعي لا يزال في مراحله الأولى، فهو مدمج مباشرة في أجهزة آيفون. كما أن بعض نماذج لاما التابعة لشركة ميتا باتت تعمل على أجهزة الكمبيوتر المحمولة.

هذا المسار هو ذاته الذي سلكته الحوسبة السحابية من قبل؛ إذ راهن المستثمرون في البداية على البنية التحتية، مثل منصة أمازون ويب سيرفيسز وأزور وجوجل كلاود، لكن الرابحين على المدى البعيد لم يكونوا مزودي البنية التحتية السحابية، بل الشركات التي دمجت الحوسبة السحابية في سير عملها المؤسسي عبر تطبيقات فعالة. ويتوقع بنك جولدمان ساكس أن تبلغ قيمة سوق البنية التحتية السحابية 580 مليار دولار بحلول عام 2030، في حين ستتجاوز قيمة تطبيقات الحوسبة السحابية 1.38 تريليون دولار، أي أكثر من ضعف ذلك الرقم. ومن المنطقي أن يسلك الذكاء الاصطناعي المسار ذاته.

التطبيقات هي التي تنقل الذكاء الاصطناعي من مجرد نظرية إلى واقع عملي، ومن المختبرات إلى أيدي العملاء. إذ إن تحويل نموذج إلى حل حقيقي مفيد في عالم الأعمال يمثل تحدياً هندسياً يتجاوز بكثير مجرد تشغيل النموذج وإضافة واجهة محادثة إليه، والشركات التي تتمكن من حل مشكلات معقدة ومحددة في قطاعاتها باستخدام هياكل مخصصة للذكاء الاصطناعي، هي من سيصنع القيمة الأطول أمداً. وقد بدأ هذا التحول فعلياً؛ إذ نشهد بروز وكلاء ذكاء اصطناعي في قطاعات متعددة، مثل المنصة القانونية المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي توصف بأنها المحامي الذكي، هارفي، والمساعد الذكي في بيئة العمل، غلين، ومهندس البرمجيات الذكي، فاكتوري، والمساعد الطبي الذكي، أبريدج.

تكمن القيمة الحقيقية للذكاء الاصطناعي في تحويل الخدمات المعتمدة على العامل البشري إلى تطبيقات يسهل توسيع نطاقها وتعمل باستمرار على مدار الساعة، وهنا بالضبط ينبغي ألا ينصب تركيز الشركات المؤسسية على تطوير النماذج، بل على تطبيقها بدقة وفعالية. فالفرصة الكبرى لا تكمن في ابتكار النسخة القادمة من "جي بي تي"، بل في دمج الذكاء الاصطناعي في أسس أعمال الشركة، بدءاً من تصميم المنتجات والعمليات التشغيلية وصولاً إلى الالتزام التنظيمي وإدارة الموارد البشرية والمالية، حيث تؤدي التغييرات الصغيرة المتراكمة إلى نتائج ملموسة.

تفترض شركات كثيرة أن نماذج الأساس ستحقق القيمة المرجوة بمجرد تشغيلها، دون الحاجة إلى جهد إضافي، لكن من دون استثمارات جادة في الأساسيات الصعبة، مثل التطبيقات والتكامل والبنية التحتية للبيانات وإعادة تصميم سير العمل وإدارة التغيير، سيبقى الذكاء الاصطناعي مجرد نموذج أولي براق: مثير للإعجاب في العروض التوضيحية، لكنه يعجز عن التأثير الفعلي على نطاق واسع. والمفارقة أن الشركات التي ستكسب الرهان هي تلك التي تجعل الذكاء الاصطناعي يبدو مملاً؛ أي أن يكون مدمجاً بسلاسة وموثوقاً باستمرار ومحفزاً لتحولات صامتة حيث يجري العمل الحقيقي.

الإفراط في الاعتماد على الشركات الناشئة.

تنصب المبالغة في الدعاية السوقية على شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة، في حين أن كبرى الشركات الراسخة تمتلك الأفضلية الحقيقية في البيئات المؤسسية. فالقضية في الذكاء الاصطناعي لا تتعلق بالقدرة على إحداث زعزعة، بل بالقدرة على الانتشار.

انظر إلى تطبيق مايكروسوفت تيمز. لم تكن مايكروسوفت هي من طورت أفضل أداة لعقد مؤتمرات الفيديو، بل كانت زووم. ومع ذلك، تفوقت مايكروسوفت في القطاع المؤسسي من خلال إرفاق تطبيق تيمز مع حزمة أوفيس 365؛ إذ لم تختر الشركات تطبيق تيمز لأنه الأفضل، بل لأنه موجود سلفًا. واليوم، يتكرر السيناريو ذاته في سباق الذكاء الاصطناعي.

قد تقود الشركات الناشئة قاطرة الابتكار، لكن الشركات الراسخة هي التي تتحكم فعلياً في ميزانيات المؤسسات وتكامل الأنظمة ونشر الحلول؛ فشركات مثل مايكروسوفت وجوجل وسيلز فورس لا تحتاج إلى أفضل نماذج الذكاء الاصطناعي، بل يكفيها أن تمتلك نماذج جيدة بما فيه الكفاية، شريطة أن تندمج بسلاسة في منظوماتها المؤسسية الحالية. هذه هي الطريقة التي يحدث بها تبني الذكاء الاصطناعي؛ فالرابح في النهاية هو من يتحكم في سير عمل المؤسسة والمستهلك.

لهذا السبب، لا يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي قصة جديدة من قصص الزعزعة التي أحدثها قطاع التجارة الإلكترونية؛ ففي أواخر تسعينيات القرن العشرين، تمكنت شركات ناشئة عبر الإنترنت، مثل باي بال وأمازون وإيباي من الإطاحة بعمالقة المتاجر التقليدية لأن الإنترنت ساوى بين الجميع. أما الذكاء الاصطناعي فقواعده مختلفة كلياً؛ إذ لا يستند إلى زعزعة منخفضة التكلفة وسريعة الوتيرة، بل يعتمد على رأسمال كثيف وبنية تحتية ضخمة، ويمنح الأفضلية للمؤسسات التي تمتلك الحجم والموارد، وهي الميزة التي تتمتع بها كبرى شركات التكنولوجيا الكبرى؛ فهي تحتكر البيانات وتتحكم في قدرات الحوسبة وتربطها علاقات قوية مع مختلف مؤسسات قطاع الأعمال.

النقطة الأخيرة بالغة الأهمية؛ فالبيانات المؤسسية الخاصة التي تجمعها الشركات وتعالجها آنياً تشكل خط الدفاع الأخير الذي يحول دون فقدان كبرى شركات التكنولوجيا صدارتها في سباق الذكاء الاصطناعي؛ إذ يعتمد تدريب النماذج الحالية للذكاء الاصطناعي على 300 تريليون وحدة من النصوص المتاحة للجمهور، لكن هذه البيانات توشك على النفاد. وتقدر مؤسسة إيبوك أيه آي أن مطوري البرمجيات سيصلون إلى طريق مسدود بين عامي 2026 و2032؛ إذ لن يتبقى ما يكفي من البيانات العامة العالية الجودة لتدريب النماذج.

تمتلك كبرى شركات التكنولوجيا الحالية أفضلية واضحة، لكنها لا تكفي وحدها لضمان التفوق؛ فهي تسيطر على قنوات التوزيع وتربطها علاقات راسخة مع مؤسسات قطاع الأعمال وتمتلك بيانات حصرية لا تزال بعيدة عن متناول الشركات الناشئة. لكن الأفضلية من دون تحرك لا تعني سوى الجمود، وقد حان الوقت لمضاعفة الجهود بدمج الذكاء الاصطناعي في الأنظمة القائمة واستخدام البيانات بوصفها أصلاً استراتيجياً والدخول في شراكات يمكنها تعزيز السرعة أو التخصص؛ فالقضية ليست في اللحاق بالابتكار التالي، بل تحقيق الجدوى على نطاق واسع من آخر ابتكار تحقق فعلاً.

الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس مستقبل المجال، على الرغم من الهوس المتزايد به.

ينصب تركيزنا على النماذج القائمة على المحادثة، في حين أن المستقبل يتجاوز هذا النطاق؛ فالذكاء الاصطناعي اليوم يبرع في تلخيص التقارير وصياغة الرسائل الإلكترونية، لكنه يواجه صعوبة أمام تعقيدات الواقع، فهو يفتقر إلى الوعي بالسياق والقدرة على التفكير المنطقي المعقد ودمج أنواع متعددة من المعلومات المتغيرة آنياً.

لهذا السبب، لا تزال وتيرة تبني الذكاء الاصطناعي بطيئة في مجالات مثل الطب والخدمات اللوجستية، حيث لا تكفي النصوص السابقة لاتخاذ قرارات حاسمة؛ فبوسع بوت دردشة أن يعد مسودة عقد، لكنه لا يستطيع تشخيص سائر الحالات المرضية، ولا تحسين أداء سلسلة توريد متعثرة.

تتمثل المرحلة التالية من تطور الذكاء الاصطناعي في أنظمته المتعددة الوسائط والمركبة، وهي تكنولوجيات تعالج أنواعاً متعددة من المدخلات وتعمل معاً بطريقة تحاكي الإدراك البشري؛ فالسيارة الذاتية القيادة لا تعتمد على مصدر بيانات واحد، بل تدمج بين تكنولوجيات الكشف والقياس باستخدام الضوء (لايدار) والرادار ونظام تحديد المواقع وأجهزة الاستشعار اللحظية لتوجيه حركتها. وبالمثل، يجب أن يعمل الذكاء الاصطناعي عبر دمج نماذج تحلل الصورة والصوت والنصوص والبيانات اللحظية لتوليد فهم أكثر شمولًا ودقة.

تمثل أنظمة الذكاء الاصطناعي المركبة مرحلة أكثر تقدماً؛ إذ تجمع بين نماذج متعددة لتشكيل ذكاء قادر على التعلم والتخطيط وصناعة القرارات بصورة مستقلة. في الوقت الراهن، لا تزال نماذج الذكاء الاصطناعي تعمل في جزر منعزلة، فثمة نموذج يولد النصوص، وآخر يكشف الاحتيال. أما في المستقبل فسيعمل الذكاء الاصطناعي على تنسيق هذه القدرات مثل فريق من المتخصصين يعمل بتناغم تام.

تشكل هذه المعطيات جرس إنذار مبكراً يدعو الشركات إلى ضرورة التخطيط المسبق؛ فالأدوات الحالية للذكاء الاصطناعي قد تحقق بعض المكاسب، لكنها مكاسب محدودة نسبياً. وعلى القادة أن يتجنبوا الإفراط في الاستثمار في حلول أحادية الغرض، وأن يبدؤوا إنشاء بنى تحتية قادرة على دعم أنظمة متكاملة ومتعددة الوسائط. ويعني ذلك الاستثمار في هيكلة البيانات ومرونة سير العمل وحوكمة الذكاء الاصطناعي القابلة للتطور بالتوازي مع تطور التكنولوجيا نفسها.

لا يكمن مستقبل الذكاء الاصطناعي في بناء بوت دردشة أكثر كفاءة، بل في تصميم أنظمة ترى وتسمع وتحلل وتتفاعل بصورة متسقة، على نطاق واسع وبما يواكب تعقيدات الواقع الحقيقي.

هل يمكننا التفكير بذكاء في الآلات؟

في عام 1950، طرح آلان تورنغ السؤال الشهير: "هل تستطيع الآلات أن تفكر؟" وبعد مرور 75 عاماً، بتنا نقيس الذكاء الاصطناعي بقدرته على الاستدلال والتنبؤ والإبداع. وربما حان الوقت لنوجه هذا السؤال ذاته إلى أنفسنا.

نعيش الآن حالة من الوهم الجماعي تقودنا إلى قرارات خاطئة وأولويات مختلة وجداول زمنية غير واقعية؛ فالشركات تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كما لو كان حلاً سحرياً، فتنفق المليارات على النماذج بينما تغفل عن العمل الأصعب المتمثل في التكامل والبنية التحتية والقيمة التجارية الحقيقية.

في نهاية المطاف، ستحسم السوق أمرها وتحدد الشركات والقطاعات التي ستستفيد من قيمة الذكاء الاصطناعي. لكن ثمة أمراً مؤكداً: كلما ازداد انتشار الذكاء الاصطناعي، تراجع تميزه؛ إذ لن تكمن قيمته في امتلاكه، بل في الطريقة التي نحسن استخدامه بها.

على الرغم من مرور عقود من الزمن، لا يزال سؤال تورنغ حاضراً وملحاً في يومنا هذا. لكن السؤال الأهم الآن هو: "هل نستطيع التفكير بذكاء في الآلات؟" وهذا يستدعي من قادة المؤسسات أن ينقلوا تركيزهم من الإمكانات المحتملة إلى الأداء الفعلي، أي تقليل الأسئلة عن القدرات المحتملة للذكاء الاصطناعي والإكثار من الأسئلة عن قدراته الفعلية في مؤسستك. ويعني أيضاً أن المطلوب ليس لفت الأنظار، بل إرساء أسس متينة تدوم، وذلك بالاستثمار في البنية التحتية والمهارات البشرية والأنظمة التي تتيح تحويل الأدوات الحالية إلى ميزة تنافسية في المستقبل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي