من العادات الجديدة التي جلبتها الشركات الناشئة الجديدة للعالم ثقافة جديدة تسمى ثقافة البقشيش؛ تطلب طعامك عبر بعض تطبيقات الطعام، فتظهر لك رسالة تطلب منك اقتراح الـ "Tip" أو البقشيش للسائق، مع وعد بأن هذا المبلغ سيذهب كاملاً للسائق. وفي بعض المطاعم تجد أن الفاتورة تحتوي على فراغ يحتاج لتوقيعك، ويتضمن اقتراحاً للبقشيش. وتتساءل من أين جاءت هذه العادة التي كانت سائدة في مجتمعاتنا العربية، لدرجة اعتقدنا فيها أنها عادة ولدت في البلدان النامية محدودة الدخل في محاولة لدعم بعض ذوي المهن الخدمية محدودة الدخل.
بعد زيارتي الأخيرة لمهد الشركات الناشئة في العالم، وأقصد سان فرانسيسكو ووادي السيليكون، وجدت أن هذه العادة متأصلة بشكل كبير وتأخذ شكلاً مؤسسياً متقدماً، فلا يمكن أن تدفع أي مبلغ لسيارة التاكسي أو المطعم أو الفندق أو حتى محل الألبسة وبعض المراكز التجارية، إلاّ وتجد المحاسب أو سائق التاكسي يناولك آلة السحب من البطاقة الائتمانية، وتظهر عليها نسب مئوية 15% أو 20% أو أكثر من قيمة الفاتورة، لتختار منها أو ترفض تقديم ذلك البقشيش. لقد عززت الشركات التكنولوجية الجديدة فكرة تحفيز موظفيها وتعزيز سعيهم لإرضاء الزبائن عبر تقديم هذا البقشيش في نهاية الخدمة.
وعلى الرغم من أن مبالغ البقشيش صغيرة، فإن خلق هذه الثقافة قد يتحول إلى شكل من أشكال الابتزاز كما حدث في بعض دولنا العربية، إذ أصبحت بعض الشركات والمطاعم وسيارات الأجرة تعتمد عليه بشكل شبه كامل، حيث أخلت هذه الشركات مسؤوليتها تجاه دفع رواتب محترمة لموظفيها تاركة لهم حرية تسوّل البقشيش، لدرجة أصبح فيها البقشيش هو معيار الخدمة مقدماً، وليس طواعية في نهاية الخدمة.
في المقابل تتراجع اهتمامات الشركات الناشئة بخدمة الزبائن على عكس ما يُعلن، فقد تابعت خلال الأشهر الأخيرة تقارير نشرَتْها وول ستريت جورنال تتحدث عن تقليل عدد موظفي خدمة الزبائن وتقليصهم في بعض الشركات التكنولوجية إلى الصفر، تاركين للشات بوت أو الردود الآلية مهمة التعامل مع القضايا التي لا تنتهي من معاناة الزبائن. فالمبدأ الذي تعتمده شركات مثل ميتا، الشركة الأم لفيسبوك، حسب أحد صحفيي وول ستريت جورنال، هو أننا نقدم لك منصة مجانية، ولذلك عليك ألا تتوقع منا أن نستثمر في توظيف جيش من موظفي الدعم الفني وخدمة الزبائن لحل مشاكلك.
بالنتيجة، يبدو من السهل على الشركات أن تترك للزبائن مسؤولية تحديد جودة الخدمة التي يتلقونها عبر البقشيش بدلاً من اعتبارها في صلب عملهم، فهذه الشركات لديها ما هو أهم لتركز عليه وتستثمر فيه، وهو "النمو"، والنمو السريع والكبير أولاً وثانياً وثالثاً. وقد تحدثت مؤخراً إلى رئيس إحدى الشركات التقنية سريعة النمو في المنطقة العربية، وعندما ذكرت له بأن الكثيرين يشتكون من ضعف الدعم الفني وخدمة العملاء عبر فيديوهات منتشرة على يوتيوب تذكر شركته كمثال سيئ عن هذه الخدمة، ابتسم، وذكر لي بأنه يدرك هذه المشكلة، لكن الشركة زادت نموها مؤخراً واكتسبت الكثير من العملاء لدرجة أنها لم تعد قادرة على تقديم الدعم الفني وخدمة العملاء المناسبة لهم.
وهذا ما بتنا نلمسه للأسف، فأنت العميل تحاول أن تتصل بشركة الاتصالات أو البنك لشكوى أو استفسار، تجد أمامك رحلة طويلة من المجيب الآلي، ومساعدتك الذكية الآلية، وتقلبك الخيارات ذات اليمين وذات الشمال، حتى تمر نصف ساعة أو ساعة وأنت تستمع لموسيقا هادئة مستفزة أو إعلانات مكررة، إلى أن تقرر إغلاق الخط للذهاب إلى الحمام أو تستمر في الانتظار، حتى تحظى بآدميّ يتحدث إليك. لقد أصبحت هذه المعاناة مجال بحث لكيفية عمل تقديم اقتراحات ونصائح للتلاعب على الذكاء الاصطناعي ومساعدة الزبائن على تجاوز هذا الانتظار. كل تلك الرحلة المتعبة، هي مقصودة كما يعلم العاملون في هذا المجال، وهدفها تخفيف خدمة الزبائن، وتخفيف التكاليف التي تتطلبها. ورغم هذه الدوامة، عندما يريد البنك، أو شركة الاتصالات، عرض خدمة جديدة عليك أو تقديم منتج جديد يدر عليه الأرباح، فإنه فجأة يتصل بك، وكأن شيئاً لم يحدث.
تتنفس الصعداء، يا إلهي! إذاً لديه موظفون يمكنهم التحدث إليك، لكنهم مستعدون للتحدث فقط عندما يريدون الأخذ، وليس العطاء.
لا يمكننا فصل منهج خلق ثقافة البقشيش، عن نهج حذف الدعم الفني وخدمة الزبائن من قائمة مصاريف الشركات، فهما وجهان لعملة واحدة، وهو توجه خطير لدى الشركات سوف يميّز الجيد من السيئ عبر خدمة ما بعد البيع والعناية بالزبائن، وليس عبر الخدمة نفسها. ومع ذلك، أعتقد أن حماية المستهلك في البلدان العربية قد سلمت الأمر للشركات ولم تُظهر دورها للزبائن كحامية لهم. وهذا الاستسلام من سلطات حماية المستهلك هو فهم خاطىء لدورها في اقتصاد السوق الحر، لأن هذه السلطات هي الأقوى في أوروبا والولايات المتحدة، وهي التي نعوّل عليها حالياً لتفرض على الشركات الكبرى الإذعان لخدمة الزبائن، وما نأمله أن ترتقي سلطات حماية المستهلك في البلدان العربية إلى هذا المستوى.