في عام 1974، كُلّف مهندس شاب في شركة "كوداك" اسمه ستيفن ساسون بمهمة بدت عادية لا تنطوي على أي مخاطر تتمثل بكل بساطة في تحديد ما إذا كان هناك أي استخدام عملي لابتكار حديث قادر على تحويل الضوء إلى بيانات. فقد بنى هذا المهندس جهازاً قادراً على التقاط الصور وعرضها رقمياً على شاشة، وعرضه بحماسة شديدة على رؤسائه. لكنه ارتكب خطأ تكتيكياً جسيماً، حيث أطلق على هذه التكنولوجيا الجديدة اسماً هو "تصوير بلا أفلام". فقد كان ذلك الطرح يتناقض تناقضاً صارخاً مع علّة وجود جمهوره المؤلف من مسؤولين تنفيذيين كانت مسيراتهم المهنية تعتمد على بيع الأفلام وتحميضها. خطوته تلك كانت كفيلة باستثارة رد فعل فاتر من هؤلاء المسؤولين. وعوضاً عن أن تغتنم كوداك فرصة جديدة في الأسواق الاستهلاكية، أبقت هذه الفكرة حبيسة الأدراج لما يقرب من عقدين من الزمن، وبحلول ذلك الوقت، كان عدد من المنافسين يتسابقون على دخول تلك السوق.
فلماذا ارتكب ساسون ذلك الخطأ الجسيم في عرضه الترويجي؟ لقد دبّت فيه الحماسة المفرطة لابتكاره، وهو قال لاحقاً: "لم يخطر في بالي قط أنني كنت على طرفي نقيض مع الرسالة الجوهرية التي تتبناها الشركة منذ 100 عام".
يمكن لمبتكرين من قبيل ساسون أن يكونوا ألد أعداء أنفسهم، بحيث يتوهون عن المسار الصحيح مدفوعين بصفات شخصية مثل الثقة والتفاؤل، وهما خصلتان أساسيتان للإبداع لكنهما يمكن أن تكونا سامّتين إذا ما بالغ المرء فيهما، وبمشاعر مثل الخوف، والشك، والندم، والإحباط وهي مشاعر معتادة عندما يكون المرء في طور تجريب أشياء جديدة لكنها يمكن وبمنتهى السهولة أن تُحبط جهداً معيّناً أو أن تدمّره.
بعد أن أجرينا مقابلات مع مئات المُبتكرين الناجحين وغير الناجحين ودرسنا أوضاعهم، توصّلنا إلى أن العديدين منهم لا يقدّرون العوائق النفسية التي من هذا النوع حقّ قدرها، وبالتالي فهم لا يجيدون التعامل معها، ويعانون في تدبّر أمرها. ورغم وفرة النصائح العملية المتعلقة بكيفية الابتكار – من التفكير التصميمي إلى الشركات الناشئة الرشيقة، ومنهجيات سبرنت – إلا أن من الصعوبة بمكان العثور على إرشادات معمقة تساعد في تبيان كيفية التصدي لهذه التحديات الذهنية.
نستند في الأقسام التالية من هذه المقالة إلى مقابلات منشورة، وأفلام فيديو، وخطابات لنَصِفَ فيها العوائق التي تواجه بعضاً من أهم روّاد الأعمال، ولنسلط الضوء على الدروب التي ساروا فيها إلى الأمام.
يمكن للخوف أن يكون معلّماً حكيماً إذ يبعث لك بإشارات تدل على أنك غير مهيأ أو غير مطلع بما يكفي، لذلك فإن تحديدك لمصدر خوفك بالضبط هو عنصر أساسي في مواجهته.
الخوف من الانطلاق
يمكن لحالة الخوف أن تظهر في كل لحظة، لكنها تكون واضحة تمام الوضوح عندما تدرس فكرة الانتقال من مرحلة التفكير إلى الفعل. فمن شبه المؤكد أن ينطوي مضيّك قُدُماً في تطبيق فكرتك على مخاطر قد تهدد مدخراتك، أو سمعتك، أو مسيرتك المهنية. يتذكر جيف بيزوس كيف أخبر مديره في صندوق التحوط "دي إي شو" (D.E. Shaw) عن مفهومه لبيع الكتب عن طريق الإنترنت. فماذا كان رد المدير؟ لقد قال له: "أعتقد أن هذه الفكرة أنسب لشخص ليس لديه وظيفة أصلاً". أما بالنسبة لبيزوس، فقد كان ذلك التعليق يختزل المشكلة: هل يجب عليه أن يخاطر براحته، ومكانته، وأمانه في الوقت الحاضر مقابل احتمال غير مؤكد بتحقيق مكاسب مستقبلية؟ إذا واجهتك شكوك مشابهة، فإن اتّباعك للتكتيكات التالية سيكون مفيداً.
تشاور مع ذاتك المستقبلية. الناس مفطورون على تحاشي الخيارات المحفوفة بالمخاطر عبر تضخيم العواقب والتبعات السلبية لأفعالهم. وأحد عوامل التضخيم المحتملة تحديداً هو ما يسمّى "الندم المستقبلي": فنحن نتخيل الاتهامات التي سنوجهها إلى ذواتنا إذا ما خابت مساعينا. تشجعك الرغبة بتجنّب ذلك الشعور على تبنّي نهج محافظ، لكنك قادر على معاكسته. فعوضاً عن أن تركّز على الألم المصاحب للجهود الفاشلة، تخيّل كيف سيكون شعورك بعد سنوات من الآن إذا ما آثرت السلامة ووضعت أفكارك في الأدراج.
شعر بيزوس بالمعاناة لبضعة أيام قبل أن يعثر على طريقة مثمرة لصياغة الإطار العام لقراره. فقد تخيّل نفسه رجلاً عجوزاً يتأمل حياته، وطرح على نفسه السؤال التالي: "هل سأكون نادماً على مغادرة هذه الشركة؟". يقول بيزوس "قلت لنفسي: عندما سأبلغ الثمانين من العمر لن أفكر في هذا الأمر؛ بل أنا لن أتذكّره حتى. لكنني أعلم علم اليقين أن لديّ هذه الفكرة، وإذا لم أجرّبها فإنني سأشعر بالندم على عدم تجريبها. وحالما فكّرت بهذه الطريقة، عرفت أنني يجب أن أحاول تنفيذها". عندما تخيّل بيزوس نفسه في المستقبل، تذوّق طعم الندم الوجودي الناجم عن الخيارات المعاكسة لقناعاتنا أو حاجتنا إلى النمو.
تعلّم من الخوف. ثمّة أمر يفاقم مخاوفك ممّا أنت بصدد التخلي عنه، ألا وهو أنك قد تشعر بالقلق أيضاً بشأن احتمالات النجاح. فقد تشكك في قدرة فكرتك على البقاء على قيد الحياة، أو في قدرتك على تطويرها، أو في قدرتك على اختراق سوق راسخة أو التأثير في قطاع ناضج. قد تتكثف هذه المخاوف لديك وتتحول إلى حالة من التوجس العام الذي قد يشل حركتك. وأحد التكتيكات الشائعة للتعامل مع هذه المخاوف هو قمعها، والمضي إلى الأمام بغضّ النظر عن أي شيء. لكن الأبحاث تُظهِرُ أن فعلك لذلك، قد يمنعك من الانتباه إلى بعض إشارات الخطر التي تلوح في الأفق. فالخوف ليس قوة مثبطة فحسب؛ وإنما هو يمكن أن يكون معلّماً حكيماً أيضاً حيث يبعث لك بإشارات تدل على أنك غير مهيأ أو غير مطلع بما يكفي. لذلك فإن تحديدك لمصدر خوفك بالضبط هو عنصر أساسي في مواجهته.
بعد أن التزم بيزوس بالسير في مشروعه، اعتراه خوف من أن يفشل هذا المشروع. وقد أخبر والديه أن ثمة احتمالاً تبلغ نسبته 70% بألا يستعيدا التمويل الأولي الذي قدّماه إلى المشروع. كان مقتنعاً بمتانة فكرته بعد أن أخضع الوضع العام للتحليل الصارم وقرر أن الكتب كانت أكثر المنتجات قابلية للبيع عن طريق الإنترنت. غير أنه كان أقل ثقة بامتلاكه للمعرفة اللازمة لتنفيذه. أدرك أن بوسعه تعزيز احتمالات نجاحه من خلال ضمان إمكانية استقطاب مجموعة غنية من أصحاب الموهبة في المجالات التقنية والوصول إلى طيف واسع من الكتب، لذلك انتقل إلى سياتل، التي تضم مقر مايكروسوفت عدا عن أنها لا تبعد إلا على مسافة بضع ساعات بالسيارة من أكبر شركة لتوزيع الكتب في الولايات المتحدة الأميركية. وقد قادته مخاوفه أيضاً إلى إيجاد حل مسبق لبعض التحديات التقنية واللوجستية الأساسية.
وفي المقابل، كان بيل غيتس واثقاً تماماً من قدرته على تنفيذ فكرته التي تحولت لاحقاً إلى شركة مايكروسوفت، لكنه كان مضطراً إلى التغلب على مسألتين شخصيتين كانتا تُحسبان ضدّه: الأولى هي أنه شخص انطوائي، والثانية هي مظهره الذي يوحي أنه شاب يافع. لذلك عندما قدّم عرضاً ترويجياً عن برمجيته (التي لم تكن قد كتبت بعد) أمام صانعي كمبيوتر "ألتير" (Altair) – وكان يتصل من غرفته في هارفارد، قدّم نفسه على أنه باول آلين، شريكه التجاري غير الرسمي الذي يكبره بعامين. كان غيتس يعلم أنه إذا أبدى الزبون اهتمامه، فإن باول آلين، الشخص الأكثر انطلاقاً الذي تبدو عليه علامات النضج سيترأس الاجتماع. وبعد مرور سنوات قال آلين لـ "هارفارد غازيت" (Harvard Gazette): "كانت لحيتي طويلة وكنت أبدو شخصاً بالغاً على الأقل، في حين كان غيتس يشبه طالباً في المدرسة الثانوية". ورغم أن غيتس وآلين افترقا لاحقاً، إلا أن غيتس قال إن الدخول في شراكة مع آلين كان أفضل قرار عملي اتخذه في حياته على الإطلاق.
بعد أن تنتهي من تحديد مصدر مخاوفك، بوسعك السعي للحصول على المعلومات أو البحث عن شركاء للتعويض عن عيوبك التي تطال كفاءتك أو مصداقيتك أو كليهما.
الإحباط من النكسات
لعلك سمعت الكثير من الأمثال والحِكَم التي تدعو إلى التعلم من الفشل. إلا أن دين شيفرد من جامعة إنديانا كان قد شدد سابقاً على أن هذه العملية ليست تلقائية، بل تستدعي بذل الجهد الواعي والانضباط. وفيما يلي بعض الخطوات المفيدة لك:
شرّح فشلك بالتفصيل الممل. ثمة مشكلة ترتبط بالفشل وتتجاوز ما هو واضح ظاهرياً ألا وهي أنه يولّد مشاعر سلبية تعيق عملية التعلم. تتمثل هذه المشاعر في الإنكار، والغضب، واليأس، ولوم الذات. ويُعتبرُ المبتكرون تحديداً عرضة للإحساس بهذه المشاعر لأنهم يتماهون إلى حد كبير مع مشاريعهم. فإذا ما أردت تجنب الوقوع في هذا الفخ، ابدأ بتشريح فشلك بالتفصيل. ما هو الخطأ الذي حصل بالضبط ولماذا؟ وما هي الأسس التي كانت زائفة؟ وأي منها كان صحيحاً؟
كان جيمي ويلز يشعر بإحباط شديد في عام 2000 بسبب التقدم البطيء الذي كان يحرزه مشروعه الخاص بأول موسوعة معارف على الإنترنت هي "نوبيديا" (Nupedia). فقد كان هو ورئيس التحرير لاري سانغر قد افترضا إنها "يجب أن تكون مُفرِطة في دقتها الأكاديمية وإلا فإن الناس لن يثقوا بها". كانت موادها في الحقيقة على قدم المساواة مع المطبوعات الأكاديمية، لكن وتيرة إنتاجها كانت بذات البطء أيضاً. "أنفقتُ ما يقرب من 250 ألف دولار للحصول على أول 12 مقالة بواسطة هذه العملية"، كما قال ويلز مرة. في نهاية المطاف، قرر تقصّي المشكلة عبر كتابة إحدى المواد بنفسه. وقد أدرك أن النظام القائم على مراجعة الأقران والمتّبع في العالم الأكاديمي مُرهِق جداً لكتّاب المواد لديه الذين لم يكونوا يتقاضون أجوراً. في تلك اللحظة، فهم ويلز أن خطته الأساسية لن تنجح. كانت هذه هي الخطوة الأولى في استيعاب خيبة أمله والبحث عن طريق للمضي إلى الأمام.
واجه أحزانك مباشرة ودون مواربة. لا شك أنك كمبتكر ستواجه خيبات أمل كبيرة، أو الكثير من الخذلان، أو الانقلابات في مسار الأحداث، أو حالات الرفض وهي ستشكل تهديداً لحلمك وللأنا لديك. لكن زميلنا جورج كولرايزر من المعهد الدولي للإدارة "آي إم دي" (IMD) يقترح طريقة لمواجهة هذه الخسائر التي تترك أثراً عميقاً في نفس الإنسان وهي تتمثّل في اتّباع عملية مؤلفة من ثلاث خطوات ومستندة إلى أبحاث شملت آلاف المسؤولين التنفيذيين. يتطلب ذلك أولاً نقل حالة الحزن إلى مرحلة الإدراك الواعي، أي إعطاء اسم للشعور الذي يعتمل في نفسك ومناقشته مع العائلة، والأصدقاء، وآخرين من أجل استيعابه بشكل منطقي. سيساعدك ذلك على اتخاذ الخطوتين التاليتين ألا وهما تقبّل الخسارة ثم تجاوزها، واتّخاذ إجراءات معيّنة في اتجاه جديد.
بعد وقت قصير من تجربة ويلز مع "نوبيديا" التي فتحت عينيه على أشياء كثيرة، أنشأ هو وسانغر موقعاً منفصلاً لموسوعة تعتمد على برمجية "ويكي" (wiki)، وهي تكنولوجيا تسمح لعدة أشخاص بتحرير مسودات نصوص معيّنة بطريقة تفاعلية. وفي غضون أسبوعين فقط، أصبح لديهما 600 مادة. لم يكن المساهمون في كتابة المواد أشخاصاً مرجعيين معترفاً بهم، ولم تكن هناك من طريقة لضبط جودة المواد المقدمة. "لو كنت ربطت كبريائي بالتصميم الأصلي.. لكنت قد توقفت"، كما قال ويلز. ولأنه كان شبه مستقيل من عمله ولديه رغبة في المضي قُدُماً بمشروع "نوبيديا"، فقد كان قادراً على تعديل مساره. وهكذا وُلِد مشروع "ويكيبيديا".
انظر إلى الرفض بطريقة مختلفة. عندما عرض جيمس دايسون مُبتكِر المكنسة الكهربائية التي تحمل اسمه، منتجه على شركات المكانس الكهربائية، توقّع أن تسارع إلى تلقّف أول مكنسة بلا أكياس والحصول على ترخيصها. لكنه قوبل بذات الردود الفاترة التي قوبل بها ساسون من رؤسائه في كوداك، ولسبب مشابه، فالتكنولوجيا الجديدة اعتُبِرت تهديداً للنموذج التجاري لتلك الشركات، حيث كان الزبائن يدفعون ثمن المكانس الكهربائية لمرة واحدة وكانوا يشترون الأكياس بانتظام. نظر دايسون إلى الرفض الذي قوبل به بطريقة مختلفة مُركّزاً على ما لم تقله الشركات ألا وهو أنها لم تقدّم سبباً منطقياً لرفض عرضه. يقول دايسون متذكراً ما حصل: "لو كانت هذه الشركات قد أعطتني سبباً وجيهاً، لكنت شعرت بالقلق ساعتها".
منح دايسون ترخيص تصميمه في نهاية المطاف إلى شركة يابانية لا تمتلك تاريخاً سابقاً في مجال المكانس الكهربائية وبالتالي لم يكن لديها من سبب لحماية مبيعاتها من الأكياس. وقد سوّقت تلك الشركات هذه المكنسة بوصفها جهازاً ينتمي إلى عالم المستقبل ضمن صفوف زبائنها الأغنياء وفي اليابان حصراً، تحت اسم العلامة التجارية "جي – فورس" (G-Force). وقد ساعدت رسوم الامتياز الناجمة عن هذا النجاح المحدد والخاص دايسون في تصنيع جهاز يحمل اسمه وقابل للتسويق على نطاق واسع.
يمكن للفشل أن يمثل فرصة لإحداث انقلاب إيجابي. أما إذا بقيت عالقاً في حالة الحزن، فإنك قد تفوّت الفرصة.
يمكن للطبيعة الغامرة للابتكار أن تُبعدك عن الواقع، بحيث تتسبب بإهمالك للعلاقات الوثيقة التي تُعتبرُ مصادر مهمة للرزق.
فائض في الإبداع
لا غنى للابتكار عن الإبداع، بطبيعة الحال. أما إذا زاد عن حده فإنه ينقلب إلى ضده. فقد تطغى شهيتك للأفكار الجديدة على الحاجة إلى الالتزام بالمسار المطلوب. يقول ويلز لـ "وايرد": "دائماً ما أكون مفرطاً في التفاؤل بخصوص كل فكرة جديدة. وهذا شيء عظيم، طالما أن المرء ناضج بما يكفي لكي يقول: "كنت شديد الحماسة لهذا الموضوع قبل شهرين ومن الواضح أنني كنت فاقداً لعقلي وقتها"".
يعتمد الإبداع على الفضول والانفتاح. والفضول هو ما يقود إلى الإنسان إلى طرح الأسئلة والتشكيك وفهم ماهية الأشياء – أي البحث عن الأنماط، والعلاقة السببية، والفرص، وبذل الجهود لسد الفجوة بين ما يعرفه الإنسان وما لا يعرفه. لكن الفضول غير المضبوط بحدود واضحة يمكن أن يقودك إلى الخروج عن المسار المرسوم بطريقتين. فقد تغرق في التفاصيل وتتوه بعيداً عن غايتك الأصلية أو قد تتوه في تأملاتك محاولاً وضع خطة لكل حالة طارئة تتخيلها.
انفتاحك على التجارب والأفكار الجديدة قد يُلهمك طرح أسئلة من قبيل "ماذا لو حصل كذا؟" وإيجاد النقاط التي تسمح بالربط بين مفاهيم أو مجالات غير مترابطة. لكن الإفراط في ذلك قد يجعلك تقفز من فكرة إلى أخرى أو قد يُغرِقَك في بحر من التفاصيل غير المهمة. وإذا ما أفرطت في التركيز على مسعاك الأساسي، فإن أصالته قد تغريك بالابتعاد عن كل ما عداه.
فإذا ما أردت ضمان بقاء إبداعك عنصراً محفزاً ومفيداً لك دون أن يتحول إلى مشتت خطير لانتباهك بوسعك أن تفعل ما يلي:
أدرك لحظة الخطر الأكبر. يكمن التحدي الأكبر في التحكم بإبداعك وانفتاحك عندما تسعى إلى التحول من التأمل إلى الفعل، وهذا وقت لا يجب أن تكون مشتت الانتباه فيه أبداً. والتعامل مع هذا الوضع فيه معاناة حتى بالنسبة لأنجح روّاد الأعمال.
لنأخذ حالة إيلون ماسك مثلاً. فبعد أن جمع ثروته من نشاطه كرائد أعمال في عالم البرمجيات، أسس شركة "سبيس إكس" (SpaceX) في عام 2002، بهدف تقليل تكلفة السفر إلى الفضاء بما يكفي للسماح بإقامة مستوطنات على كوكب المريخ يوماً ما. وبينما كان يستعد لإطلاق مشروعه على قدم وساق – لكي يُدْخِله في المرحلة النشطة – لفت انتباهه مشروع لتصنيع سيارة كهربائية صغيرة. فاستثمر في شركة "تسلا"، وأصبح رئيس مجلس إدارتها، وقاد عملية جمع الأموال لصالحها. وبحلول عام 2008، أصبح الرئيس التنفيذي لشركتين ناشئتين تدرّان أموالاً نقدية طائلة. ورغم أن الشركتين تحولتا في نهاية المطاف إلى مؤسستين ناجحتين، إلا أن التوتر أوصله إلى شفا الانهيار العصبي في ذلك العام، وكادت المطالب المتضاربة للشركتين أن تتسبب بانهيارهما. يقول ماسك: "لقد نجونا بشق الأنفس".
يعترف ماسك أن خياله المُفرط في النشاط هو نعمة ونقمة في الوقت ذاته. يقول ماسك في مقابلة ضمن البرنامج الحواري "زي جو روغان إكسبيرينس" (The Joe Rogan Experience) "الأمر يشبه سلسلة لامتناهية من الانفجارات"، وهو ما يجعل المحافظة على التركيز على الشركتين المشهورتين أمراً متعباً. "لم يكن وضع سلّم للأولويات خياراً بل هو خطوة تأتي نتيجة حالة يائسة". الخلاصة التي يمكن للمبتكرين استنتاجها هنا هي أن التفكير الشامل القائم على حب الاستطلاع الذي يؤجج الإبداع لديك هو نفسه قد يقودك إلى شيء من المبالغة والتجاوز، بحيث لا يهدد هذا الشيء مشروعك فحسب، وإنما قد يعرّضك أنت شخصياً للمخاطر.
ضع حدوداً لانخراطك الشخصي. إدراكك لحقيقة أنك ميّال إلى ترك الإبداع يشتت انتباهك هو الخطوة الأولى للسيطرة عليه وتسخيره لمصلحتك. وبوسعك مواجهة هذا الشيء من خلال الحد من انخراطك في مرحلتي الاختبار والتنفيذ في مشروعك. فقد عرف جيمي ويلز أن موهبته التي تساعده على الإتيان بأفكار جديدة لم تكن مفيدة بالضرورة عندما يحين وقت تنفيذها. "في حالتي "ويكيبيديا و(المؤسسة الأم) "ويكيميديا" (Wikimedia) هناك رئيس تنفيذي يدير تفاصيل العمل اليومية"، كما قال ويلز في إحدى المقابلات. "أحاول ألا أكون عقبة في أي عملية".
يتبنّى ويلز أسلوباً مشابهاً من عدم التدخل في مشاريعه الأخرى، مثل "فاندوم" (Fandom) و"ويكيتريبيون" (WikiTribune)، حيث غالباً من ينحو إلى أداء دور المحفّز أكثر من ميله إلى أن يكون القائد التقليدي. "يمنحني ذلك حرية التجول والترويج لأفكاري ومشاريعي"، كما شرح مرّة. "هذه أمور أبرع فيها تماماً، ولاسيما الحديث إلى الناس وإثارة اهتمامهم بعملنا... وهذا يعني أن الأشياء التي تصيب بالصداع متروكة للأشخاص البارعين في التنفيذ".
هذا لا يعني أن الإبداع لا دور له في المراحل اللاحقة من الابتكار، وإنما يجب أن يكون متاحاً تحت الطلب دون أن يكون بالضرورة في صدارة الأولويات.
استعن بشريك يساعدك في موازنة الأمور. ثمة خيار آخر يتمثل في العثور على شخص يستطيع أن يوازن اندفاعك الإبداعي. فقد لجأ ويلز إلى سانغر ليوفّر له طريقة التفكير الخطية والصرامة المطلوبتين لإدارة مشاريعه الخاصة بالموسوعات. وكان ستيف جوبز قد اختار تيم كوك الشخص الهادئ والعملي والمتسق كسد يقف في وجه إبداعه المنفلت من عقاله.
بطبيعة الحال، ليس بوسع جميع المبتكرين الاستعانة بشخص من هذا النوع ليوازن شخصياتهم. فبالنسبة لمن يعملون ضمن مؤسسات راسخة – أي روّاد الأعمال الموجودين ضمن صفوف الشركات – قد يتمثل الحل في طلب المشورة من زميل. تذكّروا مثال ساسون وكيف أخذته الحماسة فأهمل فكرة أخذ خطوة إلى الوراء، وتحليل جهازه المبتكر في ضوء النموذج التجاري القائم لشركة كوداك، وتقديم عرضه بأسلوب يسمح له بالظفر بدعم مدرائه. فلو كان قد وازن سعادته العارمة ببعض الآراء من زملائه في قسمي المبيعات والتسويق، لكان ربما قد قدّم عرضاً أكثر جاذبية. "كنت جاهزاً تماماً للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بطريقة عمل الجهاز"، كما يقول. "سألوني عن الأثر المحتمل لهذا الجهاز وعن التبعات التي قد تترتب عليه، ولماذا سيرغب أي شخص بأن يرى صورته على شاشة تلفزيون؟ وأنا لم أكن قد فكّرت بالإجابة عن أي من هذه الأسئلة".
الميل إلى الإفراط في إبداء الدافعية
الدافع، الذي هو مزيج من الإصرار والشغف، هو خصلة أخرى مطلوبة لبث الحياة في أوصال الأفكار الكبيرة. ولكن كما هو الحال مع الإبداع، فإنك قد تبالغ في إبداء دافعك.
يُعتبرُ ديميس هسابيس، مؤسس "ديب مايند" (DeepMind) الشركة الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي أن الإصرار هو الحصان الرابح الذي يجب على روّاد الأعمال الرهان عليه. "يجب عليك تجاوز جميع الحواجز المؤلمة لكي تصل إلى مكان مفيد"، كما يقول. والشغف يدعم الإصرار من خلال محافظته على طاقتك وسط مختلف أنواع النكسات والشكوك. أما إذا كان متفلتاً من أي عقال، فإنه يمكن أن يشكل عائقاً أمام التفكير النقدي.
حدد الأشياء الأهم – وتخلَّ عما عداها. قد تقودك الدافعية غير المحددة بقيود إلى التشبث بهدف عديم الجدوى أو هدف يقود إلى غاية غير قابلة للتحقق. فقبل أن يطلق هسابيس شركة "ديب مايند"، كان قد أنشأ شركة ألعاب للبناء على نجاح شركة "ثيم بارك" (Theme Park)، التي عمل فيها مبرمجاً أساسياً ومصمماً مشاركاً. وقد اتجه إلى إنشاء لعبة من الصفر دون وجود أي قيود، وكان موضوعها هو بناء أمّة. "أردت إنشاء محركات غرافيكية جديدة، ومحركات ذكاء اصطناعي جديدة. كنت أريد إنتاج تحفة فنية". هذا ما وصف به هسابيس بدايات مشروعه. فكانت النتيجة هي لعبة "ريبابليك" (Republic) التي استغرق إنتاجها ضعف المدة المتوقعة، ولم تكن تجسّد إلا النذر اليسير من الرؤية الأصلية، ولم تحظَ بالترحاب الشديد في أوساط المتلقين. وقد حققت أرباحاً لناشريها لكنها لم تدرّ فلساً واحداً لهسابيس الذي اعترف قائلاً: "بالغنا في إنتاج شيء يفوق قدرتنا. لذلك فإنني أنصح أي إنسان بأن يختار جانباً محدداً للابتكار ليركز عليه تركيزاً شديداً".
التزم بتخصيص وقت للاستراحة. يمكن للطبيعة الغامرة للابتكار أن تُبعدك عن الواقع، بحيث تتسبب بإهمالك للعلاقات الوثيقة التي تُعتبرُ مصادر مهمة للرزق. وقد تدفع المجموعة التي توفر الدعم الشخصي لك إلى النأي بنفسها عنك – وهي ما يسميها كولرايزر قاعدتك الآمنة – بما أن حماستك الزائدة تصعّب الحديث معك وتجعلك أقل استعداداً إلى الإصغاء.
يتمثل العلاج التقليدي لهذه الحالة في تخصيص استراحة للراحة والتأمل. لكن النية لفعل ذلك غالباً ما تتهاوى مع تنامي الضغوط. فالمنافع المستقبلية للاستراحة في اللحظة الراهنة لا تستطيع منافسة المكاسب الفورية لحل أحدث مشكلة بين يديك – وهذا نوع من الانحياز المعرفي الذي يمكن تلخيصه بالمثل الشعبي "عصفور في اليد أحسن من عشرة على الشجرة". ومع مرور الوقت، فإنك لا تخسر صحتك وعافيتك فحسب، وإنما قد تخسر فرصة إعادة توجيه مقاربتك.
فإذا ما كنت تعرف أنك قد تقاوم "التوقف المؤقت للاستراحة"، وخاصة عندما تكون في أمسّ الحاجة إليها، فإنك تستطيع أن تلتزم سلفاً بالاستراحات من خلال تخصيص فسح زمنية محددة لها في جدولك الزمني ومطالبة الآخرين على إجبارك على الاستراحة. وبشكل أعم، يمكنك إخبار فريقك أن شغفك وعزيمتك يستنزفان طاقتك، وبوسعك أن تطلب من أعضائه توفير الآراء والمرونة التي لديك ميل إلى فقدانها. اتّكل عليهم لكي يساعدوك في التشكيك في افتراضاتك، وفي تصوّر حلول بديلة، بل وربما تغيير اتجاه حركتك أو التقليل من خسائرك. "انتبه إلى الآراء التقييمية السلبية واطلب من الآخرين إهداءك عيوبك. اطلبها تحديداً من أصدقائك". هذا ما قاله إيلون ماسك في أحد حوارات تيد (TED). "قلّما يُقدِم إنسان على هذه الخطوة، وهي مفيدة جداً جداً".
في مَعْرِض سعيك إلى تطبيق فكرتك التي ستحقق اختراقاً كبيراً، ستمرّ بفترات من القلق، والإرباك، وفتور الهمة قد تدفعك إلى تجميد جهودك المبذولة. وفي أوقات أخرى، عندما تكون الإشارات إيجابية، قد تجد نفسك منساقاً على غير هدى. وقد ركّزنا على المبتكرين المشهورين لكي نبيّن أنهم هم أيضاً يجب أن يتعلموا كيف يتأقلمون مع هذه التقلبات في العواطف والمشاعر. ويجب عليهم الاستفادة من أفضل خصالهم وصفاتهم الشخصية والصمود أو الوصول إلى حل للتغلب على عيوبهم.
مهما كانت نقاط قوتك ونقاط ضعفك، فإنك لن تستطيع التعامل معها إلا إذا كنت تعرف ماهيتها. وتُظهِرُ الأبحاث المتعلقة بالقيادة أن الافتقار إلى الوعي الذاتي لا يعني فقط أن نقاط ضعفك قد تُخرجك عن طورك؛ بل يمكن أن تحوّل نقاط قوتك إلى عقبات تخرجك عن الصراط المستقيم أيضاً.
يجب أن تكون منتبهاً وواعياً لسلوكياتك، وطرق تفكيرك المعتادة، وميولك الغريبة، وعاداتك السيئة، وما الذي يمدك بالطاقة وما الذي يُشعِرك بالإحباط. فإذا ما تسلّحت بهذه الاستنتاجات، فإنك ستكون قادراً على طلب الآراء التقييمية أو الإرشاد من الآخرين، وعلى طلب المساعدة لكي تقدّم أفضل ما تجود به نفسك.