ملخص: نتلقى في كثيرٍ من الأحيان نصيحة تطالبنا بأن "نتبع شغفنا"، ولكن هذه النصيحة قد تكون سطحية جداً وغير عملية بالمرة.
- بدلاً من ذلك، لماذا لا نتبع بُثورنا؟ فالمرء يحنُّ إلى حك بثوره ويعاود العبث بها مراراً وتكراراً، على الرغم من آلامها المبرحة واحتمالية التسبب في تقيحها (في النهاية).
- يجد بعض الناس شغفهم في الكتابة، فيما يجده بعضهم الآخر في الخطابة أو جمع البيانات وإجراء التحليلات المحوسبة.
- إذا كنت تريد وظيفة مُرضية، فاطرح على نفسك السؤال التالي: ما الأنشطة التي أحنُّ إليها باستمرار، على الرغم من الصعوبات التي تكتنفها؟
عندما كنت أعيش في ولاية نورث كارولاينا، اعتدت أن أمضي وقتاً طويلاً بصحبة أسرتي في مدينتيّ بون وبلوينغ روك الجبليتين. ولسبب ما، كنا نرى أعداداً كبيرة بشكل يدعو إلى الاستغراب من سيارات الفولفو القديمة المزوَّدة بمِصدّات ممتصة للصدمات وقد وضع عليها سائقوها ملصقات ذات ألوان براقة تقول: "استمتع بما تفعل أو لا تفعله من الأساس؟" و"ابحث عن مصدر سعادتك!". ولا بد أنكم على دراية بهذا النوع من المقولات.
تكمن فائدة هذه المقولات في أنها تذكرنا دائماً وأبداً بعدم "فقدان حبكة" الحياة. فمن السهل أن ننشغل بما نعتقد أنه يجب علينا فعله وننسى أن نفعل بعضاً مما نحب فعله. ومن ناحية أخرى، يبدو أن شيئاً ما في هذه الرسائل مفرطٌ في التفاؤل إلى حد السذاجة.
وعندما يتعلق الأمر بالنصائح المهنية، فسنجد أن النصيحة التي تقول: "اتبع شغفك!" تشبه مقولة: "ابحث عن مصدر سعادتك!". من المؤكد أن الشغف يبدو شيئاً رائعاً عند اختيار الجانب الذي تستثمر فيه وقتك وجهدك؛ إذ تشير التقديرات إلى أن الإنسان العادي يمضي أكثر من 90,000 ساعة في العمل طوال حياته. ويمثل هذا ثلث حياتك كلها؛ لذا سيكون من الرائع بالطبع أن تمضي هذا الوقت في فعل شيء تحبه حقاً.
ولكن في الوقت نفسه، قد تكون النصيحة التي تقول: "اتبع شغفك!" سطحية جداً وغير عملية بالمرة. وربما كانت هذه النصيحة بالذات هي التي تؤدي إلى تدمير الكثيرين حينما لا يجدون وظيفة أحلامهم التي تتواءم مع قدراتهم الطبيعية وتغمرهم بالشعور بالفرح الحقيقي، فضلاً عن أن عاطفة الشغف قد تكون مؤقتة سريعة الزوال.
وبصفتي أستاذاً للسلوك التنظيمي في كلية لندن للأعمال، فقد عكفت على دراسة الخيارات الوظيفية للأفراد والنجاح المهني والكتابة عنه لمدة 25 عاماً. وبدلاً من الرسالتين اللتين تقولان: "اتبع شغفك" أو "ابحث عن مصدر سعادتك!"، فإن نصيحتي المهنية هي "اتبع بُثورك".
تظهر البثور على المرء عندما يتعرّض لمتاعب صحية، وعلى الرغم من آلامها المبرحة، فقد لا ينفك عن الحنين إليها ومعاودة العبث بها مراراً وتكراراً. ما يعجبني في هذه العبارة أنها تتحدّث عن معانٍ ضمنية تشير إلى أهمية المثابرة والمعاناة خلال أداء المهمات على الرغم من أنها لا تبعث على السعادة دائماً. وهكذا فإن نصيحة "اتبع بثورك" تجعلني أطرح على نفسي السؤال التالي: "ما نوع العمل الذي أجد نفسي أحنُّ إليه مراراً وتكراراً، حتى عندما لا أنجح فيه على الفور، أو عندما يبدو أن الأمر يستغرق وقتاً طويلاً لإحراز تقدم، أو عندما أشعر بالإحباط؟".
أجد شخصياً أن هذه المواصفات تنطبق على الكتابة. أكتب أحياناً مقالات أكاديمية وتجريبية أنشرها في مجلات علمية، وأكتب في أحيان أخرى كتباً عن العلوم الاجتماعية، وأكتب في بعض الأحيان مقالات مثل هذه، وهو ما يزعجني قليلاً لأنني ما زلت أعتبر نفسي غير قادر على إجادة الكتابة، ولا يزال يتعين عليّ إعادة كتابة أعمالي وتحريرها مراراً وما زلت أتلقى الرفض في كثير من الأحيان. أعلم أنني بحاجة إلى المزيد من الجرعات التدريبية، ولسبب ما تجعلني التدريبات أشعر بالإحباط وأجدها جذابة في الوقت نفسه. وأشعر بأنني مغرم بالكتابة، على الرغم من كل المشاغل والواجبات الأخرى التي يتعين عليّ الاضطلاع بها. ربما لأنني أحب فكرة أنه لا يزال هناك الكثير لأتعلمه عن هذا المجال.
لذا إذا كنت تبحث عن وظيفة تثير اهتمامك، فبدلاً من البحث عن "الشغف" فقط، فكر أيضاً في الأنشطة التي تحنُّ إليها مراراً وتكراراً، على الرغم من صعوبة إنجازها مقارنة بالأشياء التي تنجذب إليها بشكل فوري أو عاطفي.
يطرح أحد مؤسسي علم النفس الإيجابي، مارتن سيليغمان، السؤال بهذه الطريقة: "ما الأنشطة التي كنت تحب أداءها في مرحلة الطفولة وما زلت ترغب في أدائها الآن؟". قد لا تحب أداء هذا النشاط أكثر من غيره، وقد لا يكون هذا النشاط أكثر الأشياء التي تستمتع بها طوال الوقت، ولكن اسأل نفسك: هل هناك شيء يجب أن أعمل بجد لتحقيقه بالشكل الصحيح، شيء أريد أن أفعله بالشكل الصحيح لأنني أهتم به بما فيه الكفاية، بغض النظر عن الوقت الذي يستغرقه والتدريبات التي يجب الخضوع لها لإتقانه؟ هل هناك شيء يشجّعني على الاستيقاظ مبكراً قليلاً، أو يجعلني أعمل لوقت متأخر من الليل بعد أن ينام الآخرون؟ ليس لأن موعد إنهاء المشروع سيحين في اليوم التالي، ولكن لأنني أهتم بإحراز مزيد من التقدم فيه؟ ليس كل يوم وليلة، ولكن بشكل مكثَّف؟
ما الأنشطة التي يمكن إسقاطها من قائمة "المهمات الواجب إنجازها"؟ قد تلاحظ أن الآخرين بحاجة إلى تذكير أنفسهم بضرورة تحليل مقاييس منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بينما تنجذب أنت بشكل طبيعي نحو محاولة التعرُّف إلى أسرار المنشورات الناجحة. وقد تلاحظ أن أشخاصاً آخرين يخشون إعداد الخطب لإلقائها أمام طلاب الفصل الدراسي، بينما تسهر أنت حتى وقت متأخر من الليل لإجراء الأبحاث التي تدعم نقاطك والتدرُّب على إلقائها أمام المرآة. انتبه لهذا الأسلوب. وبالمقارنة، لاحظ أيضاً المهمات التي يجب عليك تذكير نفسك بإكمالها ودفع نفسك دفعاً إلى إنجازها رغماً عنك.
وأجد شخصياً صعوبة في عدم العمل على هذه المقالة، حتى الآن، في وقت متأخر من الليل وكل مَنْ في المنزل نيام، بينما أحتاج إلى إنشاء تذكير للتحضير للاجتماعات الإدارية (وحتى في ذلك الحين فإنني أحاول تأجيل إنجاز هذه الأعمال التحضيرية حتى اللحظة الأخيرة). وتكشف الأشياء التي تبدو في الغالب سهلة الإنجاز دائماً عن نظرة ثاقبة لما سيرضيك في حياتك المهنية، وهي الأشياء التي لا نحتاج أبداً إلى أن نطلب منك مرتين أداءها، وفي النهاية فهي أكثر إرضاءً من الأشياء التي قد نحب أداءها إلى حدٍّ كبير لأنها تأتي بشكل طبيعي ونجد سهولة في إنجازها.
وأخيراً، تشير عبارة "اتبع بثورك" إلى شيء تحنُّ إليه مرات عديدة بحيث تتجاوز في النهاية مرحلة البثور وتصل إلى الجلد السليم. وفي النهاية، فإنك "ستتقن" هذا النشاط من خلال الاستعمال والممارسة، وسيشجعك على تطوير كفاءة خاصة تعينك على إنجازه على الوجه الأكمل. وعندما تمارس نشاطاً ما بشكل أكثر تكراراً من الآخرين، فإنك تبني شخصية فريدة، بمعنى أنك ستكتسب الدُّربة والتمرُّس اللذين يجعلانك مميزاً وأكثر قدرة على تحقيق التوازن.
حيث تطور ما تسميه الثقافة اليابانية "وابي سابي"، وهو الجمال الناتج عن الملمس الشخصي الذي تكتسبه والأماكن التي لا يتماثل فيها أداؤك تماماً.