في مناقشة كتاب "آلات تتمتع بفضيلة المحبة: البحث عن أرضية مشتركة بين البشر والروبوتات" (Machines of Loving Grace: The Quest for Common Ground Between Humans and Robots)، أشار مؤلفه الصحفي جون ماركوف إلى الانقسام الكبير الذي يثيره موضوع الأتمتة وتأثيرها في التوظيف.
يقول ماركوف: "من ناحية، يتوقع الاتحاد الدولي للروبوتات أننا على أعتاب طفرة هائلة في الوظائف بسبب الأتمتة. ومن ناحية أخرى يرى عالم الكمبيوتر في جامعة رايس، موشي فاردي، أن جميع الوظائف ستصبح مؤتمتة بحلول عام 2045. إذاً أي الفريقين على صواب؟
لو كان خبير الإدارة بيتر دراكر لا يزال على قيد الحياة، لأجاب على الأرجح: لا هذا ولا هذا".
فبعد أن راقب هذا الصراع على مدى سنوات عديدة، كان دراكر يرى أن التقدم التكنولوجي المتسارع لن يقدم حلاً شاملاً ولن يكون كارثة أيضاً، بل كان حذراً من أي تحليل يميل بشدة إلى أي من الاتجاهين.
هذا المنشور هو أحد منشورات سلسلة وجهات النظر التي يقدمها المحاضرون والمشاركون في منتدى دراكر العالمي السابع.
كتب دراكر في كتابه الكلاسيكي "الإدارة: مهامها ومسؤولياتها وممارساتها" (Management: Tasks, Responsibilities, Practices) الصادر عام 1973: "نادراً ما تحدث التأثيرات التكنولوجية التي يتوقعها الخبراء".
في الواقع، رأى دراكر أن الأتمتة سيف ذو حدين؛ إذ تفيد من يتمتعون بالمهارات والمعرفة اللازمة للاستفادة من بيئة العمل المتغيرة، ولكنها تمثل تحديات كبيرة لمن لا يستطيعون مواكبة التغييرات.
لاحظ دراكر آلية التأثير المزدوج للأتمتة أول مرة عام 1946، عندما زار حقول القطن في دلتا المسيسيبي ورأى آلة حصاد القطن الميكانيكية وقد أخذت مكان العمال في الحقل، الأمر الذي كانت له آثار إيجابية وسلبية على حد سواء.
في ذلك الوقت، قال دراكر في مجلة هاربر: "من السهل والشائع جداً اليوم في أعماق الجنوب أن نركّز فقط على الجوانب الإيجابية للثورة التكنولوجية التي يشهدها حزام القطن، مثل التخلص من الممارسات التي عفاها الزمن ومجتمع المَزَارع وإنشاء نظام زراعي سليم وتحقيق توازن أفضل بين الصناعة والزراعة، وزيادة الدخل وتحسين مستويات المعيشة ونهاية المُزارعة. باختصار التحرر النهائي لكل من البيض والملونين من العبودية. ولكن من السهل أيضاً التركيز على الجوانب السلبية فقط، مثل النزوح والمعاناة وتهجير ملايين الأشخاص الذين سيفقدون منازلهم ومصادر رزقهم.
ولكن كما هي الحال مع الثورات التكنولوجية كلها، لا يمكننا فهم الصورة الكاملة إلا إذا أخذنا كلا الجانبين بعين الاعتبار في الوقت نفسه؛ تحسّن حياة من يستطيعون التكيف ومعاناة من فقد أرضه ومصدر دخله".
على مر العقود، ومع انتقال الاقتصاد من الزراعة إلى التصنيع، ومع حلول العمل المعرفي محل جزء كبير من أعمال التصنيع، ازداد قلق دراكر أكثر من أي وقت مضى بشأن من لم يتمكنوا من مواكبة هذه التغييرات. إذ كان يخشى أن يفقدوا، إلى جانب مصدر دخلهم، إحساسهم بالكرامة والإنجاز والرضا المستمد من العمل اليومي الجاد.
وقد حذّر دراكر في كتابه "حدود الإدارة" (The Frontiers of Management) الصادر عام 1986 من أن "تقلص الوظائف في القطاعات التحويلية الثقيلة الكثيفة العمالة اليدوية وتحولها إلى قطاعات كثيفة رأس المال بسبب الأتمتة من شأنه أن يولّد ضغوطاً شديدة اقتصادية واجتماعية وسياسية على المجتمع".
طوال حياته المهنية، ومنذ كتاباته الأولى وحتى كتاباته الأخيرة، اقترح دراكر الحلّ نفسه للتعامل مع التحديات التي تفرضها الأتمتة: خلق فرص هادفة للتعلم مدى الحياة. كتب في عام 1955 أن أحد المظاهر المؤكدة للأتمتة هو التغييرات الكبيرة والمتكررة في الوظائف،
وتجدر الإشارة الآن خصوصاً في عصر يشكّل فيه الذكاء الاصطناعي تهديداً حتى لوظائف المهنيين أصحاب أفضل المؤهلات العلمية، أن دراكر لم يقصر أهمية التعلم مدى الحياة على وظائف بعينها، بل رأى أنه يجب أن يكون الجميع مستعدين باستمرار لتعلّم طرق جديدة لأداء وظائفهم وإتقانها.
أكد دراكر أن "هذا الأمر ينطبق على جميع مجالات المؤسسة: الرتبة والوظيفة، والعمل المكتبي، والعمل الفني والمهني، والعمل الإداري. سيكون من الضروري تعليم الموظفين جميعهم على المستويات كافة".
ورأى دراكر أن تحقيق ذلك مسؤولية جماعية؛ فعلى القطاع العام، على سبيل المثال، أن "يضمن تعاون الجامعات ومؤسسات التوظيف لتوفير التعليم المتقدم للبالغين".
كتب دراكر في كتابه "مجتمع ما بعد الرأسمالية" (Post-Capitalist Society) الصادر عام 1993: "لطالما كانت الجامعة المكان الذي تتعلم فيه والوظيفة هي المكان الذي تعمل فيه؛ سيُطمس هذا الخط الفاصل بمرور الوقت".
كما أن للشركات دورها أيضاً، وهو يشمل "بذل الجهود لإعادة تدريب موظفيها بفعالية على فرص عمل جديدة محددة"، على حد تعبير دراكر. وبالمثل، يجب أن يتحمل الموظفون المسؤولية وأن يستعدوا لتبنّي فرص التعلم الجديدة باستمرار، ينصح دراكر قائلاً: "يجب أن يتخذ الموظفون أفضل نهج للتعلم وألا يعتبر أي شخص نفسه قد 'انتهى' من التعلم في أي وقت".
لا تبدو هذه المفاهيم ثورية في حد ذاتها، لكن تطبيقها صعب جداً، لأنها تتطلب من جميع المعنيين، من معلمين ومسؤولين تنفيذيين وموظفين، سمات إنسانية متميزة مثل الرؤية والإرادة والشجاعة. وقد أكد دراكر أن هذه التغييرات لا يمكن تحقيقها على الفور أو دون عناء.