من يمتلك وجهة النظر الصحيحة حول مستقبل العمل؟
قد يقول المتفائل: "تمكّنا بفضل التكنولوجيا من الهبوط على القمر، وصنعنا اختراعات عظيمة أصبحت أشياء أساسية في حياتنا اليومية، بدءاً من التمديدات الصحية الداخلية وغسالات الملابس في المنازل وصولاً إلى أجهزة الكمبيوتر الشخصية والهواتف الذكية، فلماذا نرفض التقدم؟ بل على العكس، يجب أن نسرّع وتيرة التقدم، لا أن نكبحها ونقيّدها. سننتقل بفضل الذكاء الاصطناعي والروبوتات إلى عصر ما بعد الندرة الاقتصادية، ما سيجعلنا أغنياء ويزيل عن كاهلنا مهمة أداء الأعمال الشاقة".
ويرد المتشكك: "من الأفضل ألا نستبق الأمور. ادعت الصحف منذ 50 عاماً أن الروبوتات سوف تستولي على وظائفنا، لكن لم يحدث ذلك قط، ولن يحدث الآن. ومع ذلك، ستؤدي التكنولوجيا الجديدة إلى زيادة الإنتاجية والكفاءة، مثل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ما يعزز النمو الاقتصادي ويخلق فرص عمل جديدة وأفضل".
ويجيب المتشائم: "لا تتسرعوا! يختلف وضعنا الحالي عن الوضع السابق. يجب ألا ننسى أن الثورات الصناعية السابقة أحدثت تقدماً تكنولوجياً بالفعل، لكنها أدت أيضاً إلى تغييرات كبيرة استمرت لعقود طويلة في ظروف العمل والحياة، وقد تستغل الشركات الكبيرة الأتمتة لتقليل تكاليف العمالة، وقد تصبح قوة العمل مكونة من الروبوتات والخوارزميات التي يمكنها العمل ليلاً ونهاراً دون توقف أو اعتراض أو مرض. نحن لا نحتاج إلى مزيد من النمو الاقتصادي، بل إلى تراجع في النمو.
مَن المحق هنا: المتفائل أم المتشكك أم المتشائم؟ وما هو السيناريو الذي يتوافق مع وجهة نظرك؟
تحليل المعتقدات حول مستقبل العمل
ركزنا في بحثنا الأخير على هذين السؤالين. وللإجابة عنهما، جمعنا أولاً 485 مقالاً من صحف بلجيكية صدرت خلال السنوات الخمس الماضية، وتضمنت تنبؤات خبراء عالميين حول مستقبل العمل. وكشف تحليل هذه المقالات الصحفية عن 3 مجموعات رئيسية تهيمن بوضوح على النقاش الإعلامي حول مستقبل العمل: رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا (مثل إيلون ماسك)، وأساتذة العلوم الاقتصادية (مثل ديفيد أوتور من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)، ومؤلفو الكتب الأكثر مبيعاً والصحفيون الرائدون (مثل ديفيد فراين وكتابه الذي يحمل عنوان "رفض العمل" (The Refusal of Work)). ووجدنا توافقاً كبيراً بين الخبراء ضمن كل مجموعة حول رؤيتهم لمستقبل العمل مع تباين الآراء بين المجموعات المختلفة. (ما أثار دهشتنا هو أن آراء واضعي السياسات والسياسيين وممثلي النقابات ومدراء الموارد البشرية كانت غائبة في هذه المقالات).
ثم تواصلنا مع 570 خبيراً في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد والكتابة والصحافة من شبكات معارفنا الشخصية ومن قوائم البريد الإلكتروني الأكبر التي تضم الرؤساء التنفيذيين والصحفيين في بلجيكا. كتب فريقنا سيناريوهات حول مستقبل العمل (مشابهة لتلك التي ذكرناها في المقدمة، لكنها أكثر تفصيلاً) بناءً على التوقعات المتناقضة في وسائل الإعلام، وطلبنا من الخبراء تقييم احتمالات تحققها. اعتقد جميع الخبراء الذين شاركوا في الاستقصاء أن سيناريو المجموعة التي يتفقون مع آرائها في وسائل الإعلام هو الأكثر احتمالاً للتحقق.
ثم طلبنا منهم تقدير السنة التي يتوقعون أن يتحقق فيها كل توقع ومدى ثقتهم بتحققه. كانت نتائج الاستقصاء مماثلة لتوقعاتنا، إذ توقع المتفائلون عموماً إنجازات غير مسبوقة في المستقبل القريب؛ في حين توقع المتشائمون نتائج سلبية وشيكة؛ وتوقع المتشككون أن العديد من التوقعات لن تحدث أبداً، أو أنها ستحدث في المستقبل البعيد فقط. وبافتراض أن آراء كل مجموعة من هذه المجموعات تحمل قدراً من الصحة، حسبنا متوسط توقعاتها ثم عمدنا إلى تمثيلها بيانياً على مخطط زمني للتوصل إلى هذه النظرة الجماعية المثيرة للقلق حول مستقبل العمل:
أخيراً، طلبنا من المجموعات الثلاث من الخبراء الخضوع إلى اختبار السمات الشخصية الذي يشمل أسئلة حول طفولتهم وقيمهم ومعتقداتهم الحالية. ووجدنا أن رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا كانوا يبالغون في التفاؤل، وأن خبراء الاقتصاد كانوا يفكرون بعقلانية، في حين أشارت مواقف المؤلفين والصحفيين إلى نظرة عداء تجاه البشر وإلى إيمانهم بأن القرارات الكبرى يتخذها أولئك الذين يمتلكون السلطة خلف الكواليس. إضافة إلى ذلك، تمتع الخبراء من المجموعات المختلفة بأنواع شخصيات متمايزة تماماً أثرت بدورها في رؤيتهم وتوقعاتهم لمستقبل العمل.
وبناءً على ذلك، أظهرت بياناتنا أن رواد الأعمال في التكنولوجيا متفائلون، وخبراء الاقتصاد متشككون، والمؤلفين والصحفيين متشائمون.
ولزيادة تعقيد الأمور، استنتجنا من تحليلنا للمقالات الصحفية أن كل مجموعة من الخبراء كانت تؤمن بشدة بصحة توقعاتها حول مستقبل العمل، وترى أن توقعات المجموعات الأخرى خاطئة وغير منطقية حتى. على سبيل المثال، آثر خبراء الاقتصاد وصف مؤلفي الكتب الأكثر مبيعاً بـ "السوداويين" ووصف رواد التكنولوجيا بـ "المتحمسين"، وأبدوا كرههم الشديد لفكرة تراجع النمو (Degrowth) التي شبهوها بحالة الفقر الممنهج. في حين أعرب المؤلفون والصحفيون عن استغرابهم من عدم إدراك المجموعات الأخرى من الخبراء حدود النمو الاقتصادي (أو أهمية وجودها)، خاصة في ظل قضايا التغير المناخي والفجوات الاقتصادية في العالم. واعتبر رواد التكنولوجيا أنفسهم المجموعة الوحيدة المؤهلة لتقديم تصريحات حول التكنولوجيا المتقدمة التي لا يفهمها أحد غيرهم، ولا سيما السياسيون الذين كانوا متخلفين عن ركب التطور في نظرهم.
ما هو سبب الاختلافات في المعتقدات حول مستقبل العمل؟
عموماً، وجد أعضاء كل مجموعة من الخبراء صعوبة في فهم حقيقة أن الآخرين يعتنقون معتقدات مختلفة تماماً حول مستقبل العمل، فتنبؤاتهم كانت مبنية على أرقام وبيانات موضوعية، وتوجهات تاريخية، وبحوث علمية، فكيف يمكن لأي شخص أن يخالفهم الرأي؟ تكمن الإجابة في أن كل واحد من هؤلاء الخبراء تلقى تدريبه في مجال معين له قواعده وافتراضاته حول العالم. إضافة إلى ذلك، يختلف فهم الخبراء لما "يمثل" دليلاً موثوقاً به بناءً على تخصصاتهم، وذلك يعني أن مفهوم الدليل يختلف بين تخصصات مثل علوم الكمبيوتر والعلوم الاقتصادية والعلوم السياسية. يتفاعل هؤلاء الخبراء في الغالب مع أشخاص من التخصصات نفسها أو تخصصات مشابهة، ويحضرون الورش، ويقرؤون التقارير التي تعزز "الأطر التخصصية" التي اندمجوا في مجتمعاتها. بعبارة أخرى، تتجانس أفكار الخبراء في التخصص نفسه، في حين أنها تتباين مع الخبراء في التخصصات المختلفة. يفسر ذلك أيضاً سبب صعوبة فهم كل مجموعة من الخبراء لوجهات نظر المجموعات المنافسة الأخرى.
عندما نلخص نتائج هذه الدراسة للآخرين، نقول لهم مازحين: 'لا يمكننا التنبؤ بمستقبل العمل، لكن يمكننا التنبؤ بتوقعاتكم حوله". وعندما نُلقي خطابات حول الدراسة، يبدأ الجمهور بالضحك عندما يجدون أن الأفكار المطروحة تتطابق تماماً مع ما اعتادوا سماعه في مجالاتهم أو تخصصاتهم. ويصنف المسؤولون التنفيذيون الأفراد بالفعل بناءً على توجهاتهم الفكرية أحياناً، قائلين إنهم من فريق "الخبراء الاقتصاديين" أو من فريق "تراجع النمو" مثلاً. وعلى الرغم من أن هذه التصنيفات تصنف الأفراد في فئات منفصلة، فإنها تحثهم أيضاً على الاستماع بعضهم لبعض والتناقش بعقلية منفتحة. وهو أمر بالغ الأهمية بالفعل بحسب اعتقادنا، إذ إن العديد من التحديات التي قد تواجه البشرية في مستقبل العمل، مثل ظهور الذكاء الاصطناعي الفائق، أو الروبوتات التي تمتلك مهارات حركية حسية دقيقة، سوف تتطلب تضافر جهود فِرق المهمات المتعددة التخصصات. توضح دراستنا أن الخبراء ذوي التخصصات المختلفة يمتلكون عادة وجهات نظر مختلفة حول المخاطر والفرص المستقبلية، وندرك من نتائج البحوث بالفعل أهمية تقبّل حالة الغموض ووجود سيناريوهات متضاربة عند التخطيط الاستراتيجي على المدى الطويل.
المستقبل عالم نرسم معالمه بأيدينا
قد تُثير نتائج دراستنا جدلاً واسعاً في ظل التشكيك في الحقائق الذي يسود عصرنا هذا؛ هل يعني ذلك أنه لا وجود لحقائق موضوعية في الحياة، وأنها رأي شخصي، وأن الخبرة مجرد وهم؟ لا نعتقد أن هذا صحيح تماماً، لكن بما أن المستقبل لا يزال مفتوحاً على الاحتمالات، فمن المستحيل الجزم بصحة أي توقع بشأن مستقبل العمل، بل إن المستقبل هو نتاج قراراتنا وأفعالنا. ومن وجهة نظرنا، فإن جميع السيناريوهات التي يروّج لها المتفائلون والمتشككون والمتشائمون ممكنة نظرياً. إن أسئلة مثل: "هل سيحلّ الذكاء الاصطناعي محلّ البشر في الوظائف؟" مضللة بالفعل، لأن هذه النتيجة سوف تعتمد على القرارات التي يتخذها البشر في السنوات القادمة. وبالتالي، يجب ألا نسأل: "كيف سيكون مستقبل العمل؟" بل: "كيف نريد أن يكون مستقبلنا؟"؛ أي أن نعتبر سؤال مستقبل العمل موضوعاً يشمل مجموعة من العوامل الأعمق، مثل القيم والسياسة والأيديولوجيا والخيال، بدلاً من اعتباره مجموعة من الاتجاهات التي يمكن التنبؤ بها بصورة موضوعية؛ وذلك يعني أن النقاش حول مستقبل العمل سوف يصبح شديد الاستقطاب في السنوات القادمة، فما يعتبره البعض مثالياً يراه آخرون مأساوياً.
ما هي الخطوة التي يمكنك البدء بها إذاً؟ أولاً، كلما سمعت أو قرأت معلومة ما عن مستقبل العمل من الآن فصاعداً، فلا تركز على ما تتنبأ به وموعده فقط، بل ركز على هوية الشخص الذي تنبأ به أيضاً ودوافعه. ما هي مصلحته فيما يتنبأ به؟ ما هو نوع المجتمع الذي يسعى إلى تعزيزه، وكيف سوف يستفيد منه؟ ثانياً، ما هو المستقبل المثالي بالنسبة لك، وما هو المستقبل المروع؟ ما الذي يجب علينا فعله، أو التوقف عن فعله، على كل من المدى القصير والمتوسط والطويل لتحقيق السيناريوهات المرغوبة، وتقليل خطر السيناريوهات غير المرغوبة؟ ما الذي يمكننا فعله لتجنب اتخاذ قرارات يصعب التراجع عنها في المستقبل البعيد فيما يتعلق بالمناخ أو الذكاء الاصطناعي الخارق مثلاً؟ وثالثاً، ما هي المجالات التي تمتلك سيطرة عليها بناءً على نفوذك وأثرك في المجتمع؟ وما هي أشكال النفوذ والتأثير التي تنقصك؟ هل يمكنك التشارك مع آخرين يمتلكون مصادر نفوذ تعزز نفوذك، ويتشاركون الرؤية المثالية عن المستقبل معك؟
بناءً على بحوثنا، ندعو كل مواطن وصانع سياسة ومدير ورئيس تنفيذي للمشاركة في النقاش العام حول مستقبل العمل لضمان أن يجري في إطار حوار اجتماعي وديمقراطي، فالمستقبل عالم نرسم معالمه بأيدينا.