خلال عملي بوصفي خبيراً في الاقتصاد السلوكي، فكرت كثيراً كيف يمكن لوسائل الترغيب "nudges" إحداث تغييرات دائمة في السلوك وتحديداً في توفير مدخرات التقاعد بطريقة صحيحة. في مجال مدخرات التقاعد، صممتُ أنا وريتشارد ثالر، الحائز على جائزة نوبل، برنامجاً يسمى "ادخر أكثر للمستقبل" Save More Tomorrow في منتصف التسعينات، وهو ما كان يستخدم وسائل الترغيب لمساعدة الأشخاص على اتخاذ قرارات أفضل متعلقة بمستقبلهم المالي طويل الأجل. يحث هذا البرنامج الموظفين على زيادة معدل ادخارهم تدريجياً بمرور الوقت، وقد حقق البرنامج نجاحاً، فوفقاً لأحدث تقديراتي، أدى استخدامه إلى زيادة معدلات الادخار لما يصل إلى 15 مليون أميركي.
توفير مدخرات التقاعد عبر مبادئ الاقتصاد السلوكي
ولكن للأسف، استغرقنا 20 عاماً لمساعدة هذا العدد من الأشخاص. جعلتني الوتيرة البطيئة التي تسير بها هذه العملية أكثر اهتماماً بالترغيب الرقمي، الذي يسعى إلى استخدام مخططات عبر الإنترنت تساعد الأشخاص على اتخاذ قرارات أذكى. ومزايا الترغيب الرقمي ذات شقين: يتمثل الشق الأول في أن الفضاء الرقمي يتيح لنا البحث بسرعة أكبر، مثلما نجرب تصميمات متعددة لنرى أياً منها مناسباً على أفضل وجه. وبدلاً من الانتظار لأعوام لنرى ما إذا كان إجراء ما مجدياً أم لا، أصبح بإمكاننا في الغالب أن نحصل على النتائج في غضون أيام أو أسابيع. ويتمثل الشق الثاني في أن العالم الرقمي يوفر لنا نطاقاً غير مسبوق، لأننا، وعبر إنشاء موقع إلكتروني أو تطبيق واحد فحسب، نستطيع مساعدة ملايين الأشخاص على اتخاذ قرارات مالية أفضل.
ولكن كيف تم تقدير معدل الادخار هذا؟
خلال السنوات الأخيرة، أجريت أنا وزملائي المزيد من البحوث لاستكشاف الإمكانات الهائلة والمردودية العالية للترغيب الرقمي. فمن خلال استخدام البيانات الكبيرة وتحسين محصلات التقاعد وإمكانية إجراء تعديلات صغيرة على شاشة أحد تطبيقات الادخار الآلية الرائدة، وغيرها من الإمكانات، لاحظنا أن تحسين تصميم عالم الإنترنت يمكن أن يكون له أثراً كبيراً على رفاهنا المالي.
وفي هذا المقال سأقدم بحثاً جديداً وأعرض دراسات حالة، وهو ما سيساعدنا على فهم الترغيب الرقمي بشكل أكثر عمقاً:
دراسة الحالة الأولى حول توفير مدخرات التقاعد: قوة صياغة البريد الإلكتروني
في ورقة بحثية نُشرت مؤخراً، أعددتها بالتعاون مع جون بيشرز وكاثرين ميلكمان وكاس سانستين وريتشارد ثالر ومايا شانكار وويل تاكر-راي وويليام كونغدون وستيفن غالينغ، استكشفنا تأثير التدخل بالبريد الإلكتروني على التسجيل في برامج الادخار التي تُرسَل إلى ما يقرب من 800 ألف فرد بالخدمة العسكرية. (ولم تتلق مجموعة ضبط أي بريد إلكتروني). أجرينا هذه الدراسة بالتنسيق مع فريق العلوم الاجتماعية والسلوكية في البيت الأبيض، والمعروف أيضاً باسم "وحدة الترغيب" (Nudge Unit) داخل حكومة أوباما. لقد زاد هذا البريد الإلكتروني الناجع نسبة التسجيل في البرنامج بمقدار الضعف تقريباً مقارنة بمجموعة الضبط. فقد استخدم هذا البريد الإلكتروني وسائل ترغيب بسيطة مثل تقديم خطوات عملية للتسجيل في برنامج الادخار، وإعطاء الأشخاص أمثلة واضحة حول كيف يمكن للاشتراكات الصغيرة أن تؤدي إلى أرصدة حسابات كبيرة، ليصبح اتخاذ الخيار المسؤول أمراً يسيراً.
ولأن التدخل بالبريد الإلكتروني منخفض التكلفة نسبياً، فلم يكن على وزارة الدفاع أن تدفع سوى 5 آلاف دولار تقريباً، كان هذا النوع من الترغيب عالي المردود بدرجة أكبر بمائة مرة من التدخلات التقليدية المتعلقة بالسياسات مثل الحوافز الضريبية وبرامج التثقيف المالي. إذا كانت أداة رقمية أساسية مثل البريد الإلكتروني مجدية للغاية، فأنا متفائل لأننا نستطيع تحقيق نتائج أفضل باستخدام الرسائل النصية والفيديوهات ذات الطابع الشخصي وروبوتات الدردشة.
دراسة الحالة الثانية: قوة المحاسبة العقلية عبر الشاشات
اعتاد العاملون الاعتماد على جهة التوظيف فيما يتعلق بالادخار للتقاعد، سواء من خلال خطة تقاعد ذات منافع محددة أو اشتراكات متوافقة مع حسابات التقاعد 401 (k) الخاصة بهم. ولكن وفقاً للمكتب العام للمحاسبات، فإن أكثر من 40% من العاملين الأميركيين لم يعودوا عاملين بأجر، بل عاملين لحسابهم الخاص ومتعاقدين مستقلين وعاملين مستقلين وعاملين بدوام جزئي وآخرين غالباً ما يُشار إليهم بالعاملين الاحتياطيين أو المؤقتين. فلا يهم إذا كانوا سائقين لصالح "أوبر" (Uber) أو يديرون أحد المقاهي، فهؤلاء الأشخاص هم المسؤولون الوحيدون عن خطة تقاعدهم ورفاههم المالي. لذلك في حال لم نوفر لهم وسائل رقمية سهلة للادخار، سنجد أنفسنا أمام جيل من العاملين الذين يكافحون حتى لتوفير ما يشبه الضمان المالي عند التقاعد.
زميلي في "جامعة كاليفورنيا" (UCLA) في لوس أنجلوس، هال هيرشفيلد، وستيف شو من "جامعة سيتي لندن" (City University of London)، وأنا كنا نعمل باستخدام تطبيق "أكورنز" (Acorns)، تطبيق ادخار آلي، لمساعدة المستخدمين على توفير المزيد من المال. فبفضل ابتكارات مثل خدمة "أبل باي" (Apple Pay) و"أمازون" (Amazon) التي تتيح الشراء بضغطة زر واحدة، أصبح إنفاق المال عبر الإنترنت أسهل من أي وقت مضى. ومن ثَم فإن هدف تطبيقات الادخار الآلية هو أن تجعل ادخار المال بالسهولة ذاتها.
اقرأ أيضاً:
تمثلت إحدى المسائل الأساسية التي حاولنا معالجتها في نزوع الأشخاص إلى عدم التسجيل في برنامج الإيداع التلقائي حيثما يتم تحويل مقدار محدد من المال شهرياً إلى حساب ادخار. وحتى الآن تُعد مثل هذه الإيداعات التلقائية الوسيلة الأكثر فاعلية لبناء سلة مدخرات للتقاعد، لأنه إذا فكّر الأشخاص في الادخار بجدية، فمن المحتمل ألا يتمكنوا من ادخار أي شيء.
ولمعرفة ما إذا كان بإمكاننا مساعدة المزيد من المستخدمين للتسجيل في برنامج الإيداع التلقائي، جرّب هال وستيف وأنا صيَغ عديدة ومختلفة من السؤال نفسه. على شاشة التسجيل كان يتم إلحاق المستخدمين عشوائياً بواحدة من ثلاثة فئات. فقد سُئل بعضهم عما إذا كانوا يرغبون في ادخار 5 دولارات يومياً، وسئل آخرون عما إذا كانوا يرغبون في ادخار 35 دولاراً أسبوعياً، والفئة الثالثة سئلت عما إذا كانت ترغب في ادخار 150 دولاراً شهرياً. بينما اختار 7% ادخار 150 دولاراً شهرياً، قرر ما يقرب من 30% ادخار 5 دولارات يومياً. ويُعد هذا تفاوتاً كبيراً بين الخيارات، لا سيما وأن الحسابات جميعها متكافئة مع بعضها في الأساس. إلا أن ادخار 5 دولارات يومياً يجعلنا نفكر في أشياء مثل التخلي عن شراء مشروب اللاتية من ستاربكس (وهو شيء يبدو قابلاً للتنفيذ)، بينما ادخار 150 دولاراً يجعلنا نفكر في أشياء مثل أقساط السيارة وهو مبلغ من الصعب التوقف عن دفعه.
في القرن الحادي والعشرين أصبح الحصول على راتب شهري أو نصف شهري تقليداً عفا عليه الزمن. فالعديد من العاملين يمتلكون مصادر دخل متغيرة للغاية. ونتيجة لذلك يحتاج الأشخاص إلى حل رقمي، مثل تطبيق الادخار الآلي المذكور أعلاه، يربط بين مدخراتهم ودخلهم بشكل مباشر وسريع، حتى إن كان هذا الدخل متغيراً. فنحن بحاجة لأنْ نجعل ادخار المال بالسهولة نفسها التي ينفق هؤلاء العاملين بها المال.
دراسة الحالة الثالثة: قوة التقييمات الآنية عبر الهاتف المحمول
يتخذ المستهلكون خيارات أكثر استنارة عندما يحصلون على المعلومة المناسبة في الوقت المناسب. والتقنيات الرقمية وتقنيات الهاتف المحمول تجعل هذه العملية قابلة للتنفيذ على نطاق واسع. عكفتُ، بالتعاون مع يارون ليفي، الذي أصبح الآن خبيراً في الاقتصاد السلوكي في "جامعة جنوب كاليفورنيا" (USC)، على اختبار أثر تطبيق الهاتف المحمول "بيرسونال كابيتال" (Personal Capital) على مستخدميه. (يوفر هذا التطبيق خدمة تجميع الحساب التي تجمع حساباتك المالية جميعها معاً). ويُعد محور الجذب في هذا الموقع والتطبيق هو لوحة المتابعة التي تتيح للمستخدمين تعقب الأداء الاستثماري وسلوك الإنفاق الخاص بهم. على سبيل المثال، تنقسم لوحة المتابعة إلى فئات حيثما تذهب أموالك، وتُظهر لك كم أنفقت من المال على متاجر الملابس، وأيضاً النسبة المئوية للدخل المخصص لسداد الرهن العقاري. كما يتيح التطبيق للمستخدمين الحصول على تلك المعلومات على هواتفهم المحمولة. في السابق كانت تلك المعلومات نفسها متاحة للمستخدمين، ولكن عبر حواسيبهم المكتبية والمحمولة فحسب، أما الآن فقد سهّل هذا التطبيق حصول المستخدمين على تلك المعلومات أثناء اتخاذ قراراتهم الشرائية.
ولكن هل إتاحة الحصول على المعلومات عبر الهاتف المحمول غيّرت الطريقة التي ينفق بها الأشخاص أموالهم؟ لقد تَبين أن للتطبيق أثراً كبيراً، فقد استطاع المستخدم العادي خفض نفقاته الشهرية بنسبة 15.7%. وليس من المستغرب أن نسبة الانخفاض هذه تُعزى بأكملها إلى أنماط الإنفاق الاختياري، لأن المستخدمين ينفقون أقل بكثير على أشياء مثل تناول الطعام خارج المنزل. تتوافق تلك النتائج مع دراسات استقصائية أجرتها الحكومة مؤخراً، وتُبين تلك الدراسات أن أغلبية المستهلكين الذين يمكنهم الوصول إلى معلوماتهم المالية عبر الهواتف المحمولة يتحققون من أرصدتهم قبل القيام بعمليات شراء كبيرة. ومن هؤلاء الذين يتحققون من أرصدتهم هناك 50% منهم يتخذون قرارات بعدم شراء بعض الأشياء بسبب تقييماتها.
تشير دراسات أخرى إلى أن التثقيف المالي التقليدي عادة ما يكون عديم الجدوى، نظراً لأن الأشخاص يجدون صعوبة في تطبيق الدروس التي تعلموها في الفصول الدراسية على حياتهم العملية لاحقاً. أما المعلومات المالية الآنية التي يتيح أحد التطبيقات الجيدة للهواتف المحمولة الوصول إليها يمكن أن تحل تلك المشكلة المتعلقة بالتوقيت، لأن تلك التطبيقات تزودنا بمعلومات جوهرية عندما نكون في أشد الحاجة إليها.
مستقبل الترغيب الرقمي
اشتملت الدراسات السابق ذكرها على تجربة وسائل ترغيب رقمية مختلفة في هذا المجال. ولكن يجب أيضاً أن ينطوي مستقبل الترغيب الرقمي على مجموعة أوسع نطاقاً من الأدوات، من بينها البيانات الكبيرة والتخصيص.
وفي هذا السياق ثمة مشروع أتحمس له للغاية ويقوده "معهد فويا للابتكارات المالية السلوكية" (Voya Behavioral Finance Institute for Innovation) الذي أعمل به بوصفي مستشاراً أكاديمياً أول. يشتمل المشروع على استخدام البيانات الكبيرة لتقييم ما إذا كان الشخص يتخذ قراراته المالية وفقاً لدوافعه الغريزية أم أنه يتأمل البدائل بتأن. نفعل ذلك عن طريق قياس الجوانب الأساسية لزيارة الشخص إلى الموقع الإلكتروني الخاص بخطط التقاعد، مثل كم من الوقت أمضاه الشخص على الموقع، وما إذا كان استكشف المفاضلات المختلفة التي تكتنف قراراته. فنحن نرى أن هناك علاقة ترابطية قوية بين اتخاذ القرارات عبر الإنترنت ودخل التقاعد المتوقع، لأن الأشخاص الذين يدرسون الخيارات بقدر أكبر من التأني يدخرون أيضاً قدراً أكبر من المال. علاوة على ذلك، بمجرد أن نعرف كيف يتخذ الشخص قراراته، يمكننا بناءً على ذلك تصميم وسائل الترغيب التي نوفرها وتكييفها. على سبيل المثال، الشخص الذي قضى أقل من 10 ثواني في الموقع الإلكتروني الخاص بالتسجيل في خطط التقاعد، ومن المتوقع أن يكون لديه نواحي عجز كبيرة، قد يستفيد من قدر أكبر من الترغيب الرقمي. فمن حسن الحظ أنه يمكن للبرمجيات الذكية التعرف على هؤلاء الذين لا يفكرون كثيراً في مستقبلهم المالي واقتراح وسائل ترغيب مجدية بالنسبة إليهم.
إضافة إلى ذلك، أعمل أيضاً على تطوير أدوات للتقييم الموجز يمكنها قياس ميول الأشخاص عبر مجموعة متنوعة من السمات السلوكية، بداية من تفادي الخسارة إلى انحيازهم للإنفاق في الوقت الحاضر، وهو ما يسمح لنا بتقديم توصيات مالية ذات طابع شخصي بدرجة كبيرة. فمثلاً الشخص الذي يتفادى الخسارة بشدة ربما ينبغي أن يُقدَّم له مزيجاً متنوعاً من الصناديق الاستثمارية أو التغطية التأمينية، وهو ما يختلف عن الخيارات التي تُقدم للشخص الذي يتحمل الخسائر بدرجة أكبر. وعندما تزور موقع "أمازون"، ستجد أنه يقدم لك قائمة منسقة ومنتقاة من المنتجات بناءً على تفضيلاتك واحتياجاتك. فأنا أؤمن أن حياتنا المالية قد تستفيد من تطبيق مستوى مماثل من التخصيص.
لا ينبغي تطبيق وسائل الترغيب الرقمية على الجانب المالي وتوفير مدخرات التقاعد فحسب، بل يمكن تطبيق مبادئ مماثلة على القرارات المتعلقة بالصحة والاستدامة والتعليم. ما هي أفضل طريقة لترغِّب الأشخاص في ممارسة التمارين الرياضية؟ ما نوع التعليقات الرقمية التي تشجع الأشخاص على استهلاك طاقة أقل؟ كيف يمكننا إضفاء الطابع الشخصي على التعليم عبر الإنترنت؟
وفي نهاية الحديث عن توفير مدخرات التقاعد بطريقة صحيحة، يشكل تصميم العالم الرقمي سلوكنا بطرق لا تُحصى. وكلما ازدادت جهودنا المبذولة في سبيل فهم أكثر الاستخدامات الإيجابية للعلوم السلوكية، إضافة إلى الوسائل الرقمية، أصبح العالم أفضل حالاً.