حققت المنصات الرقمية لتوظيف المواهب تطوراً ملموساً، وبات الكثير من الشركات يستخدمها في توظيف العمال المستقلين المهرة، وتدعو الحاجة الآن إلى استراتيجية محددة للتعامل معها.
تواجه الشركات مشكلة متزايدة في المواهب في هذا العصر الذي يشهد نقصاً مزمناً في المهارات والأتمتة السريعة والتحول الرقمي، وهي مشكلة قد تتحول إلى أزمة خطيرة على المستوى الاستراتيجي.
فكيف تعثر على موظفين يمتلكون المهارات المناسبة لأداء العمل المناسب في الوقت المناسب؟ تتقلص متوسطات أعمار المهارات بسرعة، وتظهر الآن الكثير من الوظائف ثم لا تلبث أن تختفي في غضون سنوات، ليس هذا فحسب، ولكن ثمة تغيرات كبرى في التركيبة السكانية تجري على قدم وساق: حيث تتقدم أعمار قوة العمل التي ينتمي أفرادها إلى جيل الطفرة السكانية، ويحل محلهم المنتمون إلى جيل الألفية والجيل زد الذين جلبوا معهم أولويات مختلفة غاية الاختلاف حول من يجب أن يتولى أداء مهمات العمل - وأين ومتى وكيف تُؤدَّى.
وقد ظهر جيل جديد من منصات المواهب، مثل "كاتالنت" (Catalant) و"إنوسنتف" (InnoCentive) و"كاغل" (Kaggle) و"توبتال" (Toptal) و"أب وورك" (Upwork)، لمساعدة الشركات على التصدي لهذه التحديات. تتيح هذه المنصات إمكانية الوصول الفوري إلى العاملين ذوي المهارات المتميزة، على عكس "أوبر" و"أمازون ميكانيكال تورك" (Amazon Mechanical Turk) و"تاسك رابيت" (TaskRabbit)، ويشير بحثنا إلى أن عددها قد ارتفع بشكل كبير منذ عام 2009، من حوالي 80 منصة إلى أكثر من 330 منصة. جدير بالذكر أن معظم هذا النمو حدث خلال السنوات الخمس الماضية وحدها، حتى إنه يمكننا القول إن كل الشركات المصنفة على قوائم "فورتشن 500" باتت تستخدم واحدة أو أكثر منها اليوم.
تمثل المنصات المختصة بتوفير العاملين الحاصلين على شهادات جامعية أو درجات علمية متقدمة عنصراً مهماً بشكل متزايد، ولكن لم تجر دراستها بعد في إطار اقتصاد الأعمال المستقلة الناشئ. ولفهم هذه الظاهرة بصورة أدق، فقد أجرينا دراسة استقصائية لما يقرب من 700 شركة أميركية تستخدم منصات المواهب، ثم أجرينا مقابلات شخصية معمقة مع الكثير من قادة الشركات التي تعتمد على تلك المنصات ومع مؤسسي المنصات ذاتها ومسؤوليها التنفيذيين.
لم نتفاجأ بكثرة أعداد الشركات التي تستفيد من المنصات المختصة بتوفير العاملين ذوي المهارات المتميزة لأننا رأينا في السنوات الأخيرة قدرة المنصات على زيادة مرونة القوى العاملة وتسريع الزمن اللازم لطرح المنتج بالأسواق وتمكين الابتكار، غير أننا اندهشنا من تنوع أساليب تفاعل الشركات مع المنصات، فهي تسعى للحصول على المساعدة في المشاريع قصيرة وطويلة الأجل، التكتيكية والاستراتيجية والمتخصصة والعامة. علاوة على ذلك، يعتقد 90% من القادة الذين جرى استقصاء آرائهم، على مستوى المناصب التنفيذية العليا وموظفي الخطوط الأمامية، أن هذه المنصات ستشكل عنصراً أساسياً في قدرتهم على المنافسة في المستقبل.
لكننا استغربنا قلة عدد الشركات التي طورت منهجاً متماسكاً تستطيع استخدامه على مستوى المؤسسة، على الرغم من استعانة الكثير من الشركات الآن بمنصات كهذه. ويلجأ قادة العمليات في الخطوط الأمامية الذين يتمنون إنجاز الأمور، بدلاً من ذلك، إلى التواصل معها في ظروف معينة، وغالباً دون أي توجيه مركزي، بيد أن هذا النهج مكلف وغير فاعل ويفتقر إلى الشفافية.
وإذا أرادت الشركات الصمود في وجه المنافسة الشرسة التي تنتظرها في السنوات المقبلة، فعليها أن تعمل بشكل أفضل من ذلك. عليها الاعتراف بإمكانيات المنصات الرقمية لتوظيف المواهب واعتمادها، أي معرفة كيفية التعامل بطريقة استراتيجية مع ما يمكن أن نطلق عليه "قوة العمل تحت الطلب".
وعلى الرغم من تسريح ملايين العمال في الربيع الماضي، فإن أصحاب العمل سيبدؤون في إعادة تعيينهم خلال الأشهر القليلة المقبلة، وعندها يتعين عليهم اتباع نهج أكثر انتقائية في اختيار المواهب، ولكن كيف يصلون إلى أصحاب الخبرات النادرة؟ وما المناصب أو الأدوار التي تغيرت، وما القدرات الجديدة المطلوبة؟ ما العمل الذي يمكن أن يؤديه الموظفون المستقلون الماهرون (من يعملون لحسابهم الخاص) بشكل أكثر نجاحاً وبقدر أعلى من الكفاءة؟ سيكون أصحاب العمل أكثر انجذاباً إلى مسار العمل المستقل في بيئة يسودها الغموض المستمر، وذلك للأسباب التالية: فهو يجعل عملية التعيين أسهل في الوظائف التي يصعب شغلها، ويتيح إمكانية الوصول إلى مجموعة أكبر من أصحاب المهارات، ويقلل عدد الموظَفين، ويسمح بالمزيد المرونة في أوقات التغيير.
سنقيّم في هذه المقالة موقف معظم الشركات حالياً من هذه الناحية، وسنوضح كيف أن بعض الرواد يسابقون الزمن للاستفادة من الإمكانيات التي تتيحها منصات المواهب الجديدة، وسنشرح كيف تستطيع أنت وفريقك الإداري فعل الشيء نفسه.
عدد العاملين المستقلين الذين يقولون إنهم يعتبرون العمل المستقل اختياراً مهنياً طويل الأمد يتساوى مع عدد مَنْ يعتبرونه وسيلة مؤقتة لكسب المال.
تطور بيئة العمل المستقل
مع نمو اقتصاد الأعمال المستقلة، ظهرت ثلاثة أنواع من المنصات:
أسواق المواهب المتميزة. تتيح هذه المنصات، ومن أمثلتها "توبتال" و"كاتالنت"، للشركات إمكانية الحصول بسهولة على خبراء متخصصين رفيعي المستوى، بدايةً من علماء البيانات الضخمة مروراً بمدراء المشاريع الاستراتيجية وصولاً إلى الرؤساء التنفيذيين المؤقتين والرؤساء التنفيذيين للشؤون المالية. حيث تدعي "توبتال"، على سبيل المثال، امتلاكها "أفضل 3%" من الموظفين المستقلين على مستوى العالم. قد يتم تعيين خبراء لتنفيذ مبادرات استراتيجية أو دمجهم في فرق العمل، وقد تتراوح مدة المشاريع التي يتم تكليفهم بها من بضع ساعات إلى أكثر من عام. وتعمل أزمة "كوفيد-19" على تحويل الشركات بشكل متزايد نحو هذا النوع من المنصات: انظر على سبيل المثال إلى "كاتالنت" التي أعلنت في الربيع الماضي عن زيادة الطلب على خبراء سلاسل التوريد بنسبة 250%. (إفصاح كامل عن المعلومات: يعمل المؤلف المشارك جوزيف فولر مستشاراً لمجلس إدارة شركة "كاتالنت").
أسواق الموظفين المستقلين. تعمل هذه المنصات، ومن أمثلتها "أب وورك" و"فريلانسر" (Freelancer) و"99 ديزاينز" (99designs)، على الربط بين الأفراد والشركات التي تطلب متخصصين ينفذون مشاريع منفصلة ترتبط بمهمات محددة، كتصميم شعار أو ترجمة مستند قانوني. فعندما أرادت "أمازون"، على سبيل المثال، استكشاف إنشاء محتوى مخصص للوسائط الاجتماعية لبرامجها التلفزيونية الجديدة، اختبرت الوضع مع منصة "تونغال" (Tongal) التي تربط الشركات بخبراء الإعلام. وتوفر العديد من منصات العمل المستقل إمكانية الوصول إلى العاملين من جميع أنحاء العالم الذين يمتلكون مجموعة متنوعة من المهارات، وغالباً ما يتم دفع الأجر على أساس كل مهمة مكتملة. وتعمل أزمة "كوفيد-19" على تسريع التحرك نحو هذه المنصات أيضاً: فمع شروع قطاعات كبيرة من المجتمع في اعتماد استراتيجية العمل عن بُعد، شهدت منصة "أب وورك" ارتفاعاً في الطلب على خبراء التسويق الرقمي من جانب الشركات التي تحاول الوصول إلى المستهلكين في منازلهم.
منصات الابتكار القائم على التعهيد الجماعي. تتيح هذه المنصات، ومن أمثلتها "إنوسنتف" و"كاغل"، للشركات إمكانية نشر المشكلات ضمن التجمعات الكبيرة من مستخدمي التقنيات المتطورة، والوصول إلى قاعدة أوسع بكثير منهم مقارنة بما يمكن العثور عليه أو تطويره داخلياً. تشمل التحديات كافة أنواع المشكلات، بدايةً من مشاريع كتابة الشفرة البرمجية البسيطة إلى المعضلات الهندسية المعقدة، وكثيراً ما تنظّم الشركات بالتعاون مع المنصات مسابقات وتقدم جوائز لأفضل الحلول. وقد نظّمت "إدارة أمن النقل الأميركية"، على سبيل المثال، مسابقة بقيمة 1.5 مليون دولار على منصة "كاغل" للمساعدة على تحسين الخوارزميات التي تتنبأ بالمخاطر باستخدام الصور المنقولة عن أجهزة التفتيش بالمطارات. وتستخدم شركة "إنيل" (Enel) الإيطالية متعددة الجنسيات والعاملة في مجال الطاقة الكثير من منصات التعهيد الجماعي لتوليد الأفكار من أجل التعامل مع عدد من القضايا، مثل كيفية تحسين التوظيف وسبل التخفيف من مخاطر الأمن السيبراني، وصولاً إلى ما يجب فعله مع المحطات الحرارية التي لم تعد تعمل. واستعانت شركة الأدوية "أسترازينيكا" (AstraZeneca) بـ "حلول" منصة "إنوسنتف" لتطوير الجزيئات المستخدمة في الأبحاث والاختبارات الجينية.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
بات عثور الشركات على موظفين يمتلكون المهارات المناسبة في الوقت المناسب أصعب من أي وقت مضى بسبب الأتمتة السريعة والتحول الرقمي وتغير التركيبة السكانية.
الاستجابة
تتيح المنصات الرقمية لتوظيف المواهب الآن للشركات إمكانية الوصول الفوري للعاملين ذوي المهارات المتميزة، ويمكن القول إن كل الشركات المصنفة على قوائم "فورتشن 500" تستخدم هذه المنصات، ولكن في ظروف معينة، وتعتبر هذه العملية مكلفة وغير فاعلة وغير استراتيجية بالتأكيد.
نظرة مستقبلية
تحتاج الشركات إلى اعتماد كل إمكانيات المنصات الرقمية لتوظيف المواهب وقوة العمل تحت الطلب بطرق استراتيجية جديدة، ما سيسمح لها بإنشاء نماذج عمل جديدة واستكشاف مصادر جديدة للقيمة.
زيادة أعداد العاملين المستقلين
ينجذب ملايين الأميركيين الأكفاء اليوم إلى العمل القائم على التعاقد، وتشير التقديرات إلى أن عدد العاملين المستقلين يشكلون الآن ما يقرب من ثلث قوة العمل في الولايات المتحدة، وأن العاملين الذين يتمتعون بمهارات عالية يمثلون شريحة صغيرة منها ولكنها متنامية، حتى إن عدد العاملين المستقلين الذين يقولون إنهم يعتبرون العمل المستقل اختياراً مهنياً طويل الأمد يتساوى لأول مرة منذ عام 2014 مع عدد مَنْ يعتبرونه وسيلة مؤقتة لكسب المال. وتشير الدلائل المبكرة إلى أن "كوفيد-19" سيسرّع أيضاً هذا التحول.
يرجع جزء كبير من هذا التحول إلى التغيرات الطارئة على التركيبة السكانية خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، والتي لم تكن المؤسسات التقليدية تفعل شيئاً يذكر خلالها للتسليم بها أو التعامل معها. وهناك أربعة اتجاهات رئيسية على الأقل تميز هذه التغيرات في التركيبة السكانية:
مسؤوليات الرعاية الأسرية. يتزايد عدد الأسر ذات العائل الواحد أو التي يعيلها أحد أفراد جيل الوسط. ويتعرض الكثير من الموظفين للخروج من قوة العمل أو يجدون صعوبة في إدارة وظائفهم التي يعملون فيها بدوام كامل بسبب تحملهم عبء رعاية كل من أطفالهم وآبائهم المسنين، ويتيح لهم العمل المستقل المرونة اللازمة للتعامل مع التزاماتهم الأسرية وأداء عملهم على الوجه الأكمل في الوقت ذاته.
توظيف المرأة. تشهد مشاركة المرأة في القوة العاملة تراجعاً ملحوظاً في الولايات المتحدة منذ عام 2000، فالمرأة التي تتمتع بالمهارة العالية والخبرة المتميزة التي تأخذ إجازة، سواءً لإنجاب الأطفال أو غيره من الأسباب الأسرية، تجد صعوبة في استئناف حياتها المهنية أو تتعرض للتهميش في المؤسسات التقليدية. وبحسب ما جاء في استقصاء أجراه "مركز سياسات الموازنة بين الحياة المهنية والأسرية" لعام 2009، فإن أكثر من ثلثي النساء "الأكفاء"، أي الحاصلات على درجات علمية متقدمة أو درجات البكالوريوس بتقديرات عالية، اللواتي خرجن من قوة العمل لم يكن ليخرجن منها لو كان بمقدورهن الاتفاق على تدابير أكثر مرونة لمزاولة العمل. ويشار في هذا السياق إلى أن المنصات الإلكترونية لتوظيف المواهب تسمح لهن بالانضمام إلى قوة العمل من جديد بسلاسة وإحراز التقدم في حياتهن المهنية.
ارتفاع متوسطات الأعمار في أميركا. غالباً ما يجد العاملون الذين يتعرضون للتسريح أو الفصل من العمل في الشركات التقليدية بمجرد بلوغهم سن الخمسين أن منصات المواهب توفر لهم ملاذاً لمواصلة استغلال مهاراتهم والاستفادة من خبراتهم، مع الحفاظ على قدرٍ جيد من التوازن بين حياتهم المهنية والشخصية. ونظراً لأن واحداً من بين كل خمسة أمريكيين سيكون قد تجاوز 65 عاماً بحلول عام 2030، فإن منصات المواهب تتوقع إقبالاً كبيراً عليها من جانب العاملين المتمرسين ذوي المهارات النادرة.
صعود جيل الألفية. بات المنتمون إلى جيل الألفية يشكلون أكبر شريحة في قوة العمل، وهم يتميزون بالبراعة في مجال التكنولوجيا ويفضلون العمل المستقل بدلاً من الالتحاق بالعمل في المؤسسات التقليدية، فهم يريدون المزيد من الاستقلالية والسيطرة على أمنهم الوظيفي أكثر من الأجيال السابقة.
الدروس المبكرة
عند دراسة كيفية استخدام منصات المواهب، حددنا ثلاثة مجالات وجدت فيها الشركات دائماً أن المنصات تحقق غايتها أكثر من أي نظام آخر:
مرونة قوة العمل. هيمن الشعور بالإحباط على كيفن سكوت، رئيس قطاع التكنولوجيا في "رابطة لاعبي الغولف المحترفين"، بسبب الحاجة إلى تحسين قدرات المؤسسة وعروضها الرقمية إلى جانب ضرورة تحديثها باستمرار، على الرغم من نقص المواهب الداخلية في مجال التقنيات الرقمية، فما كان منه إلا أن دخل في شراكة مع منصة "أب وورك" لسرعة التواصل مع مهندسي البرمجيات من أجل توليد الأفكار الواعدة وتطويرها. وهكذا استطاعت الرابطة بدء المشاريع وإنهاءها بشكل أسرع من ذي قبل بفضل تعاونها مع "أب وورك".
الزمن اللازم لطرح المنتج بالأسواق. لجأ الكثير من المدراء إلى منصات المواهب لتسريع العمليات وتحقيق المنجزات وضمان النتائج. فعندما أرادت شركة "أنهايزر بوش إنبيف" (Anheuser-Busch InBev) تسريع عجلة التوسع في عدد من المنتجات الجديدة المزعزِعة، أدركت حاجتها إلى تلقي مساعدة خارجية على الرغم من امتلاكها قوة عمل قوامها 150,000 عامل وموظف. فاستعانت بمنصة "كاتالنت" حتى تمكنت الشركة من تحليل بيانات المستهلكين بسرعة وإيجاد خبراء يساعدونها على طرح منتجات مثل "شاي الكومبوتشا" (Kombucha Tea) ومشروب "سبيكد سيلتزر" (Spiked Seltzer). وبالمثل، فقد تم تكليف مات كوليير، أحد كبار المدراء في شركة "برودنشال بي إل سي" (Prudential PLC)، بتحديث التدريب المقدم لوكلاء التأمين في سنغافورة خلال موعد نهائي ضيق، فاستعان بمنصة "توبتال" للعثور على المصممين وغيرهم من المواهب لمساعدته على الإسراع في إعداد مواد الدورة التدريبية، حتى استطاع في النهاية إنجاز المهمة بأقل من تكلفة المورِّدين التقليديين.
ابتكار نموذج العمل. بمقدور المنصات الرقمية لتوظيف المواهب أيضاً أن تساعد الشركات على إعادة ابتكار الطريقة التي تقدم بها القيمة. فعندما اتخذت شركة "إنيل" الخيار الاستراتيجي عام 2015 باعتماد أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 وبناء أعمال تجارية جديدة حولها، استعانت بخدمات الكثير من منصات التعهيد الجماعي، مثل "إنوسنتف" التي منحت وحدها "إنيل" القدرة على الوصول إلى أكثر من 400,000 خبير متمرس في حل المشكلات على مستوى العالم.
يجب على الشركات تقسيم العمل إلى مكونات محددة بدقة يمكن إسنادها بسهولة إلى الغرباء، إن أرادت تحقيق أقصى استفادة ممكنة من منصات المواهب، فلا يملك المدراء رفاهية الغموض في هذا السياق.
التغلّب على المقاومة
بدا لنا في الاستقصاء الذي أجريناه أن المسؤولين التنفيذيين من أصحاب المناصب التنفيذية العليا على وجه الخصوص يرون أن الشركات ستعتمد في المستقبل على منصات المواهب: حيث رأى نصفهم أن ثمة احتمالاً "وارداً جداً" بأن تتضاءل قوة العمل الأساسية (الموظفون المثبتون الذين يعملون بدوام كامل) في شركاتهم خلال السنوات المقبلة، وقال ثلثاهم إنهم يتوقعون ارتفاع معدلات "تأجير" المواهب أو "استعارتهم" أو "مشاركتهم" لتلبية الاحتياجات المتخصصة.
فلماذا لم يُقدِم سوى عدد ضئيل من الشركات، إذاً، على تصميم منهجيات استراتيجية للعمل مع منصات المواهب؟ لأن الهياكل التنظيمية وآليات العمل التي تمتلكها معظم المؤسسات قد تم تصميمها خصيصاً لحمايتها من المورِّدين الخارجيين، تماماً مثل خلايا الدم البيضاء التي تحمي أجسامنا من العوامل الحيوية المسببة للأمراض. وإذا أرادت الشركات النجاح في العمل مع المنصات الرقمية، فإنها تحتاج إلى هياكل تنظيمية وآليات عمل جديدة تؤدي دور مثبطات المناعة.
يعتبر هذا تغييراً كبيراً، حتى إن الكثير من نواب الرؤساء والمدراء يخشون الآثار العملية في حال الإقدام على تنفيذه، فهم يدركون أن دمج قوة العمل تحت الطلب في الاستراتيجية الأساسية للشركة يثير الكثير من الشكوك في كل جوانب المؤسسة ويعني ضرورة إعادة تصميمها، ومن الصعب أن ينجذب المدراء الذين يخوضون غمار أي من مشاريع التحول الرقمي إلى احتمالية تنفيذ مشروع ضخم آخر.
لكن التحول الرقمي يتطلب تحولاً في المواهب، وهما أمران متلازمان، وقادة الشركة يعون هذا جيداً. فقد أشار ما يقرب من ثلثي المشاركين في الاستقصاء إلى أن "فهم المهارات الرقمية اللازمة للمستقبل" كان على رأس أولوياتهم في السنوات الثلاث الماضية، حيث تتغير طبيعة العمل باستمرار مع تطور التقنيات التكنولوجية واتساع رقعة الأتمتة، ويجب أن تتغير معها قدرة الشركة على إيجاد المهارات اللازمة لأداء هذا العمل. وتوفر منصات المواهب الإلكترونية وسيلة مناسبة لتطوير هذه القدرة بسرعة وبجهد أقل بكثير.
هندسة تحوّل المواهب
يستلزم التواصل مع قوة العمل تحت الطلب على المستوى الاستراتيجي أن تركز الشركات على خمسة تحديات رئيسية:
تغيير الثقافة. عندما تقرر إحدى الشركات إسناد الوظائف الأساسية إلى موظفين مستقلين، فسيشعر الموظفون المثبتون بالخطر في الغالب، وسيعرقلون مشاركة المعلومات وسيثيرون الشكوك حول قيم الغرباء وعاداتهم في العمل، وسيفترضون الأسوأ. هذا ما حدث عندما شرعت وكالة ناسا في استخدام منصات التعهيد الجماعي لتوليد أفكار مبتكرة، فقد أحس مهندسو المؤسسة بالخوف وتناهبتهم نوازع القلق بشأن أمن وظائفهم وراحوا يشككون في هوياتهم المهنية، وعلى حد تعبير أحد الموظفين، فإن زملاءه لم يعتادوا قول: "مرحباً، لدينا مشكلة ولا نعرف كيفية حلها.. هلا ساعدتنا؟"
يأتي أقوى أشكال المعارضة في معظم الأحيان من الموظفين الأقل احتكاكاً بمنصات المواهب ذوي المهارات المتميزة. كان هذا ما لاحظه أعضاء فريق قيادة شركة "إنيل" عندما قرروا طلب المساعدة الخارجية لتعزيز الابتكار. إذ لم تقتصر ردود الفعل السلبية على الموظفين العاديين فحسب، بل شملت أيضاً كبار القادة الذين تخوفوا من مغزى الرسالة التي تتضمنها هذه المنهجية. هل كان اللجوء إلى العاملين المستقلين علامة ضعف؟ هل يشير ذلك إلى أن فريق القيادة يفتقر إلى الثقة في الموظفين المثبتين؟ ولكن الشركة تمكنت من التغلب على هذه المقاومة ببعض الاهتمام الدقيق بالتغيير الثقافي، وركزت "إنيل" على توعية الموظفين بسبل الاستفادة من قوة العمل تحت الطلب، بدلاً من ترك الموظفين يتناهَبَهم الخوف من المجهول. وبحسب ما جاء على لسان إرنستو سيورا، كبير مسؤولي "الأعمال الابتكارية" في الشركة، فقد تمثلت الخطوة الأولى في مساعدة جميع العاملين بدوام كامل على فهم أن بمقدورهم استخدام منصات المواهب للاستفادة من مصادر القوة الجديدة. وأضاف سيورا: "كان علينا أن نكون أكثر تواضعاً"، مشيراً إلى مدى أهمية إدراك أن "أفضل الأفكار تكمن خارج الشركة" في بعض الأحيان.
إعادة النظر في القيمة المقدَّمة للموظفين. يجب على الشركات أن تشجع الموظفين على التعرف على أوجه الاستفادة من منصات المواهب وسبل استفادتهم منها شخصياً. كان هذا ما فعلته إحدى شركات الأسهم الخاصة عندما طرحت خططاً للتعاون مع منصة "أب وورك". فوفقاً لما أورده هايدن براون، الرئيس التنفيذي لشركة "أب وورك"، فقد كانت الرسالة التي أرسلتها الشركة لموظفيها تقول: "ما هذه إلا طريقة لمساعدتكم. هناك الكثير من الأشياء التي قد تنشغلون بها في عملكم اليومي والتي يمكنكم الآن التخلص منها حتى تتمكنوا من أداء الأعمال ذات الأولوية أو تفريغ أنفسكم لمزيد من التفكير الاستراتيجيّ".
لكن يجب أن تتغير قواعد العمل بالتزامن مع تزايد أعداد الفرق التي تتألف من موظفين يعملون بدوام كامل وموظفين مستقلين، حيث يجب على الموظفين الذين يعملون بدوام كامل أن يؤدوا دور المدرب و"حلقة الوصل" في أغلب الأحوال، وذلك من خلال طرح الأسئلة التي تدور في أذهان زملائهم الخارجيين وتحديد جوانب العمل المنفصلة للشركاء الخارجيين وتمكين العاملين المستقلين من الاستفادة من المعرفة المؤسسية. كما يجب على الموظفين الذين يعملون بدوام كامل والموظفين المستقلين أن يتعلموا أيضاً كيفية العمل بصورة بنّاءة في فرق يعمل أفرادها عن بُعد في أغلب الأحيان، عليهم أن يتقنوا التعاون مع مجموعة متجددة من زملائهم في الفريق، وتجسيد القواعد الضمنية التي تم إقرارها سابقاً في الفريق، وتيسير تتبع سير العمل على الجميع. ويجب على الشركات أن تقدم حوافز الترقية للمدراء استناداً إلى النتائج المتحققة بدلاً من تقديمها استناداً إلى الإشراف على الموظفين العاملين بدوام كامل. وقد أعدّت بعض منصات المواهب أدوات من خلال اتفاقيات تبرمها مع المؤسسات العاملة معها والتي يمكنها مساعدة الشركات في هذه الأنواع من التحولات.
إعادة هيكلة مكونات العمل. تعد قدرة الشركة على تقسيم العمل إلى مكونات محددة بدقة ويمكن إسنادها بسهولة للغرباء أحد أهم المؤشرات على ما إذا كانت ستتمكن من تحقيق أقصى استفادة من الشراكة مع منصات المواهب. يُشار في هذا السياق إلى أن معظم الشركات لا تركز على هذا الجانب لسبب بسيط وهو أن المدراء لا يجدون مشكلة في الاتصاف بالغموض عند تحديد المهمات المنوطة بكل موظف في أماكن العمل التقليدية، فهم يعلمون أن كل فرد في فريق المشروع سيرجع إليهم مراراً وتكراراً حتى يتمكنوا من توضيح الأهداف وتصحيح المسار بمرور الوقت. ولكن عندما تستخدم الشركات منصات المواهب، يتعين عليها تحديد الأمور بصورة أكثر دقة. وقد تعلمت "إنيل" هذا الدرس بسرعة عندما اعتمدت منهجية الابتكار المفتوح، وهو ما أوضحه سيورا بقوله: "لا يمكنك أن تكتفي بقول: ’أريد حلاً مفيداً لمشكلة الطاقة المتجددة‘، بل عليك أن تكون محدداً وتقول شيئاً على غرار: ’أريد تقليل استخدام (س) عندما أفعل (ص) في السياق (ع)‘". ولم تستطع الشركة أن تنال المساعدة التي تحتاجها إلا بعد أن بدأ الموظفون في تقديم هذا النوع من الوضوح في محاولات التعهيد الجماعي.
إعادة تقييم القدرات. يجب على الشركات أن تُعدَّ ملفاً متكاملاً بالمهارات حتى تستطيع التفاعل بشكل استراتيجي مع منصات المواهب. وتتمثل الخطوة الأولى بالطبع في فهم القدرات التي تمتلكها داخلياً، حيث تستعين "يونيليفر"، على سبيل المثال، بخدمات شركة "ديغريد" (Degreed) التي تتيح للموظفين تطوير خبراتهم واعتمادها في مجالات محددة من خلال ما يسمى المؤهلات المصغرة، وفيها يحصل الموظفون على شهادة معتمدة بمعارفهم التي يمتلكونها، ويتعرفون بالضبط على المهارات التي يحتاجون إليها للتقدم، وهو ما يسهم في تمكين الشركة من الوقوف على المهارات التي تمتلكها المؤسسة بالفعل وتحديد مَنْ يمتلكها.
بمجرد أن تحدد الشركة القدرات الداخلية، يمكنها الانتقال إلى الخطوة الثانية التي تتمثل في تحقيق التوازن الصحيح عند تقسيم العمل داخلياً وخارجياً. وقد عالجت شركة "رويال داتش شل" (Royal Dutch Shell) هذه النقطة بعد تيقنها من حاجتها الملحة لتوليد إيرادات جديدة من خلال النمو الرقمي والخدمات، حيث تمكنت "شل" من تقييم المجالات التي تمتلك مواهب فيها بسرعة نسبية باستخدام منصة قائمة على سحابة إلكترونية تسمى Opportunity Hub (أو "مركز الفرص") كانت تمتلكها بالفعل، وذلك لتسريع تحقيق أهدافها الاستراتيجية وللتعرف على الجوانب التي تفتقر فيها إلى المهارات المناسبة. وسرعان ما أدركت أنها تعاني من بعض أوجه القصور في مجالات رئيسية، مثل الرقمنة وإنترنت الأشياء، وأنها لا تجد الوقت الكافي للعثور على الأشخاص المناسبين وتوظيفهم، وهو ما حدا بالشركة إلى الدخول في شراكة مع "كاتالنت" لبدء العمل على الفور في مشاريع تعالج هذه المشاكل.
إعادة هيكلة السياسات والعمليات المؤسسية. قد يكون هذا الأمر غاية في الصعوبة، كما اكتشف كوليير عندما حاول الاستعانة بمنصة "توبتال" لمساعدة شركة "برودنشال" على تحديث الآلاف من شرائح العرض التدريبية، إذ كان لا بد من توافر عقلية جديدة وابتكار طريقة مختلفة للعمل، وهو ما علّق عليه كوليير بقوله: "كان علينا التعامل مع عدد من العمليات الضرورية، مثل الاستقصاء والتحري والملكية الفكرية ومخاطر التكنولوجيا ومكافحة الرشوة، بل ومكافحة غسل الأموال، وذلك لمواءمة عقدنا الأولي بما يتناسب وطبيعة العمل مع موظفين مستقلين". تعامل كوليير مع منصة "توبتال" كتجربة جديدة وأقنع أصحاب المصلحة بخوضها للحصول على المواهب التي يحتاجها بشكل عاجل، وقد آتت أكلها، حيث توصلت "برودنشال" اليوم إلى اتفاقية لتقديم الخدمات القياسية مع المنصة، ويستفيد منها كوليير بسهولة في أعمال التصميم وغيرها من أنواع العمل الأخرى التي تحتاج إلى مهارات محددة.
يتمثل أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الشركات الراغبة في الاستفادة من قوة العمل تحت الطلب في أنها لا تزال تخضع للقوانين والممارسات التي تطورت في عصر ما قبل الرقمنة، وكانت إحدى الصعوبات التي واجهت "يونيليفر"، على سبيل المثال، هي معرفة كيفية دفع أجور الموظفين المستقلين في المنصات الرقمية، وهو ما أوضحه أدفر مظفر، مدير أول سابق في شركة "يونيليفر" لشؤون المواهب والتعلم، قائلاً: "اعتاد الموظفون المستقلون تلقي أجورهم بصورة فورية عبر المنصات من خلال بطاقات الائتمان، لكن عقودنا كانت تشترط دفع الأجور على آجال أطول، ولم يكن الدفع ببطاقة الائتمان أحد الخيارات المتاحة. أردنا أن نتمكن من تتبع الأطراف التي ندفع لها الأموال والأعمال التي ندفع المال مقابلها وجودة العمل المقدَّم وما إذا كانت الأسعار المعروضة تنافسية مقارنة بالتكاليف المحلية، لذلك كان علينا إيجاد حلول حتى تتمكن آليات عملنا وعملياتنا الداخلية من دعم طريقة العمل الجديدة هذه".
غالباً ما تكون تحوّلات المواهب أسهل مما قد تبدو، ويرجع ذلك إلى أن العديد من الشركات لديها موظفون يمتلكون بالفعل ثروة من الخبرات في التعامل مع منصات المواهب، ممثلين في المدراء الذين استخدموها في ظروف معينة، ويمكن لهؤلاء الأشخاص تقديم إرشادات قيمة.
أخيراً، يجب على الشركات تعيين قائد لاستكشاف سبل الاستفادة من منصات قوة العمل الإلكترونية عبر الإنترنت التي تتيح مصادر جديدة للقيمة من أجل إحداث تغيير على المستوى المطلوب للتوصل إلى نماذج عمل جديدة. ويجب أن يكون هذا الشخص من أصحاب المناصب التنفيذية العليا، فقد يكون الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا أو الرئيس التنفيذي للتسويق أو الرئيس التنفيذي للشؤون المالية أو الرئيس التنفيذي لشئون الموارد البشرية، وقد رأينا أمثلة ناجحة لكل منها.
لا عبرة هنا بالألقاب بكل تأكيد، المهم أن تعثر على قادة يفهمون الوضع الاستراتيجي لشركاتهم ويدركون الإمكانيات الثورية للتفاعل مع قوة العمل تحت الطلب، ويمكنهم خلق البيئة المناسبة للتحول الثقافي في مؤسساتهم لتيسير التحول الحقيقي.