يستدعي انتشار ظاهرة المتعاقدين وتنامي الطلب عليهم إعادة صياغة قواعد التعامل مع المواهب. إذ إنّ 20% إلى 30% من القوى العاملة في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة الأساسية تندرج ضمن نمط العمل المستقل، بحسب مركز "ماكنزي" العالمي، كما يخطط 42% من المدراء التنفيذيين الأميركيين لتوظيف المزيد من هؤلاء العاملين في السنوات القادمة.
ويعود هذا جزئياً إلى حاجة الشركات لتوظيف أصحاب المهارات العالية لفترات قصيرة نظراً لتدفق وتيرة العمل في حلقات أسرع وأقلّ قابلية للتنبؤ. ونتيجة لذلك بات على المدراء المسؤولين عن عملية التوظيف اليوم إيجاد الأشخاص أصحاب الكفاءة وتوظيفهم وإدارتهم، لكي يشغلوا طيفاً واسعاً ومتنوعاً من الوظائف بدوام كامل ودوام جزئي في مكان العمل وعن بعد، وساعات عمل مرنة، وأعمال تعاقدية.
تتمثل النقطة الأساسية هنا في أنّ توظيف متعاقدين مهرة بهذا الحجم هي ظاهرة جديدة تماماً بالنسبة للشركات، تجعل الكثيرين من المدراء يقفون حائرين من دون مسار عمل واضح ومحدد حول كيفية إيجاد أصحاب المهارات وجذبهم وتوظيفهم. فاكتشاف هؤلاء الناس المنفتحين على الفرص الجديدة وعلى العمل بصيغة التعاقد يمكن أن يشكّل تحدياً حقيقياً.
وانطلاقاً من هدفنا لمساعدة الشركات في بلوغها فهماً أفضل لطبيعة المتعاقدين، ومواقعهم على مساراتهم المهنية وما يطمحون إليه في مهامهم القادمة وتحديد أماكن وجودهم، قمنا مؤخراً بجمع وتحليل بيانات الأشخاص المتاحة على موقع "لينكد إن". وانطلقنا من تعريف المتعاقدين بوصفهم احترافيين يعملون وفق عقود لأجل محدد (خلافاً للأعمال الحرة القائمة على مشاريع محددة). على سبيل المثال، ربما توظّف إحدى الشركات احترافياً بأجر يتناسب مع أعماله المنجزة وذلك لتغطية فترة محددة من ضغط العمل الاستثنائي أو لشغل مكان أحد الموظفين أثناء إجازاته. وجرى تحديد السوية الوظيفية للمتعاقد من خلال الألقاب الوظيفية التي ذكرها من ضمن بياناته على موقع "لينكد إن" وبناء على تحليل سجله وسلوكه على ذلك الموقع. وتمّ حساب سنوات خبرة المتعاقد بوصفها الفترة الممتدة بين تخرجه من الجامعة وتاريخ انتهاء آخر تعاقد مُدرج على سجله (إن وُجد، أو التاريخ الحالي إن لم يوجد). وأُخضعت للتحليل فقط السجلات التي تضمنت هذه البيانات بوضوح أو كان يمكن الاستدلال عليها على نحو موثوق وبلغ عددها 6 ملايين من أصل ما يفوق 500 مليون سجل على موقع "لينكد إن".
وبينما لا يزال هناك قدر لا يستهان به مما نجهله حول طبيعة المتعاقدين، فقد ينجح تحليلنا في تسليط الضوء على من يؤدي دور المتعاقد ولماذا. فضلاً عن أننا أجرينا مسحاً منفصلاً بمشاركة عاملين متعاقدين لكي نتعرّف أكثر على ما يتطلعون إليه في مهامهم. واستناداً إلى ما استخلصناه، نورد فيما يلي بعض النصائح التي يمكن أن تساعد المدراء والمسؤولين عن عمليات التوظيف على حد سواء في بلوغ فهم أفضل لذهنية المتعاقد ووضع استراتيجيات تهدف لإدماجه في قواهم العاملة.
كن منفتحاً على تحولات قطاع العمل وعلى طيف متنوع من سويات الخبرة
تُظهر بياناتنا أنّ 70% من المتعاقدين الذين بدّلوا وظائفهم في العام الماضي انتقلوا إلى قطاع عمل جديد كلياً. وهكذا إذا وصلت إلى طريق مسدود في بحثك عن متعاقدين مناسبين ضمن قطاع عملك، عليك البحث ضمن قطاعات أُخرى. على سبيل المثال: ازداد عدد المتعاقدين في قطاعات الرعاية الصحية، والعقارات، والبناء في السنة المنصرمة، في حين انخفض عددهم في قطاعات السلامة العامة، والبيع بالتجزئة، والفنون. وإذا كنت ترغب في توظيف مدير مشروع ضمن مجال العقارات على سبيل المثال، لا تستبعد المرشحين القادمين من مجال الرعاية الصحية، ما داموا يمتلكون المهارات المطلوبة أو القابلة للنقل إلى القطاع المطلوب.
وعندما يرتبط الأمر بالخبرة، يتعيّن على الشركات ألا تقيّد نفسها بالمتعاقدين المخضرمين في السوق أصحاب الأجور المرتفعة جداً. ففي حين أنّ ربع المتعاقدين ضمن العينة المدروسة يتمتعون بخبرة تزيد عن 16 سنة، هنالك 31% منهم لا تزيد خبرتهم عن 4 سنوات، و27% آخرين تتراوح خبرتهم بين 5 و9 سنوات. فبوسع الشركات إيجاد الكثيرين من المتعاقدين الشباب ومتوسطي العمر المستعدين لتولي أدوار ومهام تعاقدية جديدة لاكتساب مرونة مهنية ومهارات يمكن تسويقها في مسارهم المهني المستقبلي.
ابحث خارج بؤر التوظيف المحمومة التقليدية لتكتشف الجواهر الدفينة
فبينما تجد العرض الأكبر من المتعاقدين الموهوبين والطلب الأكبر في مدينتي نيويورك وسان فرانسيسكو، هنالك في بعض المدن الأُخرى عرض كبير في مقابل طلب أقلّ نسبياً. ولذلك من غير المرجح أن تواجه الشركات في تلك المدن مثل لوس أنجلوس، وهيوستن، وفيلاديلفيا، ودنفر، وواشنطن العاصمة منافسة كبيرة.
إلى جانب ذلك، هنالك أخبار جيدة أيضاً بالنسبة لأصحاب الأعمال الذين يواجهون صعوبة في إيجاد المتعاقدين ضمن سوق المنطقة التي يعملون فيها: إذ تُظهر بياناتنا أيضاً أنّ الكثيرين مستعدون لتغيير مكان إقامتهم، إذ هنالك نسبة لا بأس بها، بلغت 13%، من المتعاقدين الذين بدّلوا الشركات التي يعملون معها في العام الماضي، وانتقلوا في الواقع إلى منطقة جديدة ولم يصروا على البقاء في مناطقهم السابقة.
خاطب ما ينشده المتعاقدون من مسارهم المهني
لكي تجذب متعاقدين متميزين، اذهب في عرضك إلى ما هو أبعد من الامتيازات المفترضة المتمثلة بالمرونة والتعويضات التنافسية، وعالج المسائل التي جعلتهم يتخلون عن أدوارهم الوظيفية السابقة. فقد أفاد 600 متعاقد استجابوا لمسح "تالنت ترندز" لتوجهات المواهب والذي أُجري عام 2016، بأنّ الأسباب الرئيسة لتركهم أدوارهم السابقة تنوعت بين رغبتهم في عمل ينطوي على تحدّ أكبر (30%)، ورغبتهم في النمو والتطور المهني (26%)، وبحثهم عن ثقافة وبيئة عمل يستمتعون فيها (23%). فضلاً عن ذلك فإنهم قدّروا عالياً فرصة تمكّنهم من الإسهام في تطوير المؤسسة التي يعملون فيها: وأفاد 40% من المتعاقدين بأنهم يرغبون في أن يملكوا تأثيراً ملحوظاً في المؤسسة التي سيعملون فيها عندما يُقبلون على تولي دور جديد. وهكذا، فعندما توفر للمتعاقد المحتمل عملاً يملأ هذه الفجوات، تكون ميزت نفسك عن الفرص الأُخرى المتاحة أمامه.
صمّم حزم تعويضات منافسة
أفاد المتعاقدون المستجيبون لمسح "تالنت ترندز" لتوجهات المواهب، بأنّ الأجر يتربع على رأس أولوياتهم، غير أنّ وضع خطة تعويضات المتعاقدين يكون أمراً صعباً وحساساً. فمواقع العمل المختلفة تقدّم لنفس مجموعة المهارات أجوراً تتباين تبعاً لتكاليف العيش، والعرض والطلب، والمنافسة، وعدد سنوات الخبرة. وفي بعض القطاعات يكسب المتعاقدون أجوراً تزيد عن أجور الموظفين الدائمين بنسبة تتراوح بين 10% و20%، وذلك لتعويض غياب المزايا وجذب المواهب التنافسية.
ولعلّ معدل الأجر الأمثل هو الذي يُرضي الطرفين. فمنح أجر يمكن النظر إليه من قبل أيّ من الطرفين بوصفه فوق أو تحت السوية المعقولة بكثير، يسبب لدى أحد الطرفين مشاعر الاستياء وعدم الرضا حيال نتائج العمل أو طول مدة التعاقد. وعلاوة على ذلك، عادة ما يكون المتعاقدون الاحترافيون على تواصل وثيق جداً مع أطراف كثيرة عبر الشبكة، لذلك من المحتمل أن يتلقّوا عروضاً جديدة أثناء فترة تعاقدهم معك. وعليه، يكون من المفيد رفع أجورهم فوق معدل السوق لضمان استمرارية عمل المشاريع التي يعملون عليها في مؤسستك.
ركّز اهتمامك على الإنصاف والشفافية والشمولية
ابدأ علاقتك مع المتعاقدين بتقدير صادق لطريقة العمل التي ترغب بها معهم ولمدة ذلك العمل. ولا تضللهم من خلال القول بأنّ إنجاز مشروع ما يحتاج على سبيل المثال إلى 12 شهراً إذا كنت تعلم أنه قابل للإنجاز في غضون 3 أشهر. وكن واضحاً وصريحاً حول شروط عملهم، وما يتطلبه نجاحهم في مهامهم، وكيفية عملهم مع الفريق. ومع أنّ بعض المتعاقدين يعجبهم توفر إمكانية التنقل من شركة إلى أُخرى، فإن آخرين يرون في التعاقد فرصة للتحول إلى موظف بدوام كامل. لذلك يتعيّن عليك أن تكون واضحاً وواقعياً حيال فرص ذلك التحول وحيال ما إذا كنت تبحث عن مساعدة مؤقتة فقط.
ولا تنس أن تعامل المتعاقدين بالاحترام ذاته الذي تعامل به الموظفين في الشركة بدوام كامل. ووفر لهم كل الأدوات اللازمة التي تساعدهم على النجاح وساعدهم على نسج علاقات مع الموظفين داخل الشركة. واخلق بيئة عمل مرحبة بهم من خلال إشراكهم في كل أنشطة الشركة ابتداء بالاجتماعات العامة التي يُدعى إليها جميع الموظفين وانتهاء باللقاءات غير الرسمية. وإن لم تستطع اتّباع سياسة شمولية في جميع الأوقات والمجالات، وضّح أسباب ذلك بصراحة وشفافية.
ومع تطور طبيعة العمل، يتعين على الشركات امتلاك المرونة اللازمة لتواكب هذا التطور. ولكي يكون التعاقد مفيداً لك وتحافظ على قدرتك التنافسية، هنالك الكثير مما عليك فعله: كن على استعداد للبحث عن المتعاقدين المناسبين لك بعيداً عن الأسواق الكبرى. وفصّل أهدافك وغاياتك بما يخاطب ويتّسق مع أهدافهم المهنية. وقدّم لهم أجراً يتناسب مع تقديرات وتوقعات السوق. وبالطبع عاملهم بنفس سوية الانفتاح والاحترام التي تعامل بها موظّفيك بدوام كامل، وحينئذ ستتمكّن من جذب المتعاقدين أصحاب الكفاءات والاحتفاظ بهم بما يساعدك على دفع عجلة أعمالك نحو الأمام ويُكسبك المرونة اللازمة لخوض غمار ديناميات السوق المتغيرة.