إن التنمية الصناعية تتقدم بمعدل أُسي تواكبها فيه تنمية رأس المال البشري في كل خطوة. فما الذي ينبغي لنا فعله ونحن نترقب ثورة صناعية جديدة، هي الخامسة.
لطالما حرصت الشركات على تسخير الحلول التقنية لدفع عجلات الإنتاجية ورفع الكفاءة وترسيخ الاستدامة، لكن تزايد الطلب على هذه الحلول يزيد الضغط على الحكومات وقادة الأعمال والجهات التعليمية وقادة القطاع الصناعي، للإقرار بأنه ثمة مخاوف تلوح في الأفق، حيث يتردد صدى سؤالين مهمين؛ كيف ستغيّر التقنية ما نقوم به؟ وكيف سنُعِدّ الموظفين لهذا التغيير؟ إلا أن أمامنا الآن أولوية واحدة ملحة، ألا وهي الحرص على إعداد رأس المال البشري أفضل إعداد اليوم من أجل تمكينه من مواكبة متطلبات قوى العمل في المستقبل.
وفي عالم مدفوع بالتقنية، يزخر بالتحديات ويكافئ المجتهدين، يجب أن نحرص على الانسجام كي نضمن ألا نترك أحداً خلفنا في فورة التحول الكبير والتغير السريع. لقد أسفرت إثارة الخوف عن إدامة الأسطورة ذاتها منذ القرن التاسع عشر، وهي أن كثيراً من البشر سوف يخسرون وظائفهم قريباً مع استمرار الأتمتة.
تأثير التقنية في مستقبل العمل
لقد ظل تأثير التقنية في الأدوار "التقليدية" مصدر قلق دائم منذ الأيام التي سبقت الثورة الصناعية الأولى والتي بدأت عجلاتها في الدوران قبل أكثر من 200 عام، لكننا ما زلنا بعيدين عن العيش في عالم تكون فيه الأتمتة الكاملة وشيكة، وهذا لا يعني التقليل من التركيز على المهارات اللازمة لإيصالنا إليه. وتبقى دروس الماضي خير ما يُعيننا على الاستعداد للمستقبل، في حين تزداد الآن أهمية أن تتعامل الشركات مع رأس المال البشري بوصفه استثماراً لا عبئاً.
إن امتناع الشركات عن تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي، والأمن الرقمي، والبيانات الضخمة، والاتصال المتقدم، وغيرها من التقنيات الثورية الناشئة، سيلحق الضرر بها، فهذه التوجّهات باتت اليوم أسرع المجالات نمواً، وتقترب من المجموعة الحالية من أصحاب المواهب التي تزداد شهيتها للالتحاق بقوى العمل ذات المهارات العالية، والتي بوسعها الإمساك بزمام السيطرة وتسخير الإمكانيات المتاحة لها لإنجاز المهام بطريقة أفضل وأسرع، وبكفاءة لا مثيل لها.
وبينما تقود هذه التقنيات النمو في القطاعات وترفع الطلب عليها، فإنها تُلغي الحاجة إلى مجموعة واسعة من الوظائف، ولهذا، يجب أن ندرك الحاجة إلى التركيز بعيداً عن تنمية المهارات في الوظائف التي سوف تختفي قريباً، وذلك من أجل دعم النمو المنشود. وفي هذا السياق، لا يمكن أن نتجاهل أهمية إضافة التخصصات التقنية إلى المناهج التعليمية اليوم على مستوى العالم. فالنموذج الراهن للتعليم العالي غير منسجم مع المتطلبات التعليمية للمجتمعات، وإذا أردنا تعزيز الفرص المتاحة فإن علينا الشروع فوراً في مسيرة التغيير.
إننا نعيش اليوم في ظل الثورة الصناعية، في حين تلوح في الأفق الضغوط الناجمة عن قرب نضوب الموارد الطبيعية. وقد تنبأ جيم يونغ كيم رئيس مجموعة البنك الدولي السابق، بأن التحدي الأكبر في المستقبل سيكون إعداد الأجيال الشابة وتسليحها بالمهارات بغض النظر عن فرص العمل المستقبلية. على أن القدرة على حل المشكلات وممارسة التفكير النقدي تظل من المهارات الأساسية الواجب الاهتمام بها بغض النظر عن الأدوار الوظيفية، في حين يعتبر التعاطف والتعاون أيضاً من المهارات المتقدمة الواجب غرسها في الأجيال القادمة.
مهارات العمل المستقبلية
وإذا ما نظرنا في تقرير "مهارات العمل المستقبلية للعام 2020"، الصادر عن معهد "المستقبل"، وجدناه يبحث في الدور الرئيس الذي تلعبه في دفع التنافسية عوامل حيوية مثل المهارات الأساسية، والتفكير التكيّفي، والذكاء الاجتماعي، والتعاون الافتراضي، والكفاءات الثقافية، والعقليات التصميمية، وإن من الواجب علينا، سواء الطلبة أو قوى العمل أو المجتمعات عموماً، الاستعداد لذلك.
ووفقاً للدراسة الاستطلاعية الحادية والعشرين التي أجرتها "برايس ووترهاوس كوبرز" لآراء الرؤساء التنفيذيين، ذُكرت إتاحة المهارات الرئيسة، بوصفها واحدة من أكبر 5 تهديدات حدّدها الرؤساء التنفيذيون. ومع أن الثورة الصناعية الرابعة تنطوي ربما على العديد من الفرص، تبقى ثمّة مخاوف ملموسة من أن قوى العمل قد لا تكون قادرة على مواكبتها.
إن تطور المسيرة التعليمية في الشرق الأوسط رائع، والإمارات، على سبيل المثال، التي لم يكن على أرضها في خمسينيات القرن الماضي سوى عدد قليل من المدارس، أصبحت اليوم دولة تحتضن بعضاً من أفضل الجامعات والمؤسسات التعليمية في العالم. ولم يعد الطلبة مضطرين للسفر إلى الخارج لمتابعة دراستهم، بل إن دولة الإمارات باتت الآن أحد مقاصد التعليم المرغوبة لدى الطلبة من جميع أنحاء العالم، بفضل جامعاتها المرموقة.
النهضة التحديثية
ولم يقتصر الأمر على اتباع الدولة أفضل الممارسات العالمية، ولكنها توصلت أيضاً إلى وضع نهجها المحلي الخاص للتصدي للتحديات كالتعليم والبطالة. ويظل دفع مسارات التنمية وفتح آفاق النمو الاجتماعي والاقتصادي أولوية قصوى لدى القيادة الرشيدة في هذه الدولة.
إن النظام التعليمي في دولة الإمارات مهيأ لحدوث نهضة تحديثية لكي يبقى متمتعاً بالأهمية التي اكتسبها، على أن تركيز هذه النهضة لا ينصب على تحديث المناهج الدراسية وحدها، وإنما يشمل تنمية المواهب في سبيل دعم التنمية الوطنية عبر مختلف القطاعات الرئيسة. إن إصلاح منهجية التعامل مع مسألة قابلية الشباب للتوظيف تعني أن بإمكاننا العمل على رعاية مجموعة من المواهب "الجذابة" للشركات المحلية والعالمية.
هذا ولا تزال جوانب قليلة من حياتنا اليومية لم تمسها التقنية. وبالنظر إلى تأثير التقنيات في التحول، فإننا سنكون معذورين عندما نفكر في هذه التقنيات بوصفها "مفتاح التحول"، لكن علينا أن نركّز أكثر في المقابل على رسم السياسات الفعالة، واتباع الممارسات وتطبيق الاستراتيجيات؛ فهي الأدوات التي ينبغي أن نركّز عليها في التطوير والتنفيذ.
مفتاح التحول
وينبغي كذلك ألا يأتي تركيز جهودنا المنصبّة على تعليم الأجيال الشابة على حساب "تشريد" قوى العمل الحالية، لذا، سيكون على الشركات وواضعي السياسات والجهات التنظيمية والتعليمية، مضافرة الجهود لتطوير متعلمين يتحلّون بالمرونة من خلال التعليم والتدريب. ولا يقع العِبء على عاتق مقدمي التقنية وحدهم، وإنما تتحمله كذلك الجهات التنظيمية والسلطات التعليمية في سبيل ابتكار نموذج الأعمال نفسه.
أما الفجوة في المهارات بين الموظفين والقيادات العليا فتُعدّ عاملاً رئيساً يسهم في عرقلة تبني التقنيات وإعاقة نمو الأعمال، لذلك، فإن العمل على سدّ هذه الفجوة من شأنه تسهيل إحداث التغيير في قوى العمل وتمكين الاعتماد الكامل والناجح على هذه التقنيات.
ولا تقتصر مواجهة التحدي على تسخير التقنيات الحديثة في العمل ولكنها تمتد لتشمل وضع المعايير التي تعمل وفقها هذه التقنيات؛ فبمراجعة هذه المعايير وتجديدها يمكن أن نبدأ في ضمان تقديم التعليم بأسعار معقولة وفي متناول شريحة أوسع من المتعلمين.
إن التحديات الجديدة التي تواجه تنمية رأس المال البشري تتطلب مهارات جديدة، والتقنيات تتحرك بوتيرة متسارعة قد تجعلها عائقاً عوضاً عن عامل مساعد، إذا لم تماثلها وتيرة تحرك الجهات التعليمية والسلطات المعنية.