في العديد من القصص التي نسمعها حول الشجاعة في مكان العمل، يتحوّل الناس الذين يحاربون من أجل التغيير الإيجابي في نهاية المطاف إلى أشخاص منبوذين، وفي بعض الأحيان قد يخسرون وظائفهم. لكنّ الأمر الذي لاحظته في معرض أبحاثي يشير إلى أنّ القصّة أعقد من ذلك وتنطوي على تفاصيل مختلفة. إذ إنّ معظم الأفعال الشجاعة لا تبدر عن قارعي ناقوس الخطر أو الشهداء في سبيل مؤسساتهم. وإنما تبدر عن الأشخاص الداخليين المحترمين على المستويات كافة والذين يبادرون إلى الفعل، سواء عبر خوض الحملات لصالح تحرّك استراتيجي محفوف بالمخاطر، أو الدفع باتجاه تغيير سياسة غير عادلة، أو رفع الصوت ضد السلوك غير الأخلاقي، لأنهم يؤمنون بأنّ ذلك هو الشيء الصائب الذي يجب فعله. فسمعتهم وسجلاتهم الحافلة تمكّنهم من إحراز التقدّم أكثر من الأشخاص الهامشيين أو أولئك الموجودين خارج أروقة المؤسسة. وعندما يُحسنون إدارة العملية، فإنهم لا يدفعون بالضرورة ثمناً باهظاً لأفعالهم، بل قد تتحسّن مكانتهم لأنهم يحققون تغييراً إيجابياً.
لنأخذ حالة مارتا (وهذا ليس اسمها الحقيقي)، وهي مديرة مالية في شركة صغيرة اضطرت لسنوات طويلة لتحمّل التعليقات الفاضحة والسلوكيات الجنسية المشينة من مديرها، الذي كان يشغل منصب رئيس الشركة، وعانت كثيراً في كيفية التعامل مع هذه المسألة: هل يجب عليها أن تواجهه بسلوكه، أم أنّ عليها ترك الشركة والذهاب في حال سبيلها؟ كيف بوسعها حماية النساء الأخريات في الشركة؟ بعد ذلك وفي أحد تجمّعات الموظفين، أمسك بها المدير بطريقة غير لائقة في إحدى لحظات الصفاء معتقداً أنّ ذلك ضرب من المزاح. في وقت لاحق من ذلك اليوم، واجهته في مكتبه، وجهّزت نفسها لترك الشركة إذا لم يغيّر سلوكه. قالت له بأنّ سلوكه هذا يُشعِرها بعدم الارتياح وهو إشارة لها بأنها لن تتقدّم أبداً في الشركة لأنه لم يكن ينظر إليها نظرة الندّ للند. أخبرته بأنّه ربما كان يريد الترويج لمكان عمل مفعم بالمتعة، لكنه كان يفشل في مهمّته تلك.
كانت مارتا مرعوبة من فكرة أن يطردها من الشركة، أو أن يغضب منها، أو أن يطلب منها أن تكون أصلب عوداً. لكنّه وعوضاً عن ذلك كله، فاجأها بالاعتذار منها. وأصيب بالذعر جرّاء إحساسها بهذا الشعور وبأنّ النساء الأخريات في الشركة ربما كنّ يشاطرنها الشعور ذاته. أطرى عليها لأنها رفعت صوتها في وقت لم يجرؤ فيه أحد آخر على الإقدام على ذلك. وفي الأشهر التالية، ظلّ يطلب منها النصح بخصوص هذه المسألة وتقدّم باعتذار رسمي إلى الموظفين. وبعد مرور عام، حصلت مارتا على ترقية وولّيت منصب نائب الرئيس، وهو منصب لا يصدّق بالنسبة لشخص كان يعتقد يوماً بأنّ الرئيس لن يرقّي امرأة لتصل إلى هذه المستوى.
بدأتُ أنا باستقصاء موضوع الشجاعة في مكان العمل بعد أن قضيت أكثر من عقد من الزمن في دراسة ظاهرة عدم لجوء الناس إلى إعلاء صوتهم في مكان العمل. وقد صادفت العديد من الأمثلة عن أناس على جميع المستويات تمكّنوا من إحداث تغيير إيجابي دون إفساد حياتهم المهنية. وقد اعتمد نجاحهم بالكامل على مجموعة من المواقف والسلوكيات التي يمكن تعلّمها، وليس على خصال فطرية. وأنا أطلق على الناس الذين يُظهرون هذه السلوكيات صفة "الشجعان البارعون" لأنهم يخلقون الظروف الصحيحة للتحرّك من خلال تكوين سمعة داخلية قوية، ومن خلال تحسين خيارات خط العودة في حال سارت الأمور على غير ما يُرام، فهم ينتقون معاركهم بعناية، ويتبصّرون ما إذا كانت فرصة معيّنة للتحرّك منطقية في ضوء قيمهم، وتوقيتهم، وأهدافهم العريضة، ويزيدون من احتمالات نجاحهم في اللحظة الحاسمة إلى الحد الأقصى من حلال التحكّم في الرسائل والعواطف، وهم يتابعون لاحقاً بهدف المحافظة على العلاقات وحشد الالتزام. تُعتبرُ هذه الخطوات مهمّة، سواء أكنت تدفع باتجاه تغيير كبير، أم تحاول معالجة مشكلة أصغر أو ذات طابع محلي.
ولكي لا يظنّ أحد بأنني شخص ساذج، دعوني أكون واضحاً: بالطبع تحصل أشياء سيئة عندما يحاول الناس تحدّي السلطات أو المعايير أو المؤسسات. فالشجاعة، في نهاية المطاف، هي الإقدام على أفعال مستحقّة "بالرغم من المخاطر المحتملة". فإذا لم يُطرد أحد، أو يُعزل اجتماعياً، أو يعاني من عواقب أخرى نتيجة الإقدام على فعل معيّن، فإننا لا نعتبر الفعل ضرباً من الشجاعة. كما أنّ المحصلات الجيّدة ستنتج على الأرجح عن بعض أنواع الأفعال أكثر من الأنواع الأخرى. فعلى سبيل المثال، تحدّي السلوك غير المناسب لزميل تجمعك به علاقة عميقة سيمر بسلاسة أكبر من تحدّيك لبنية السلطة بأكملها جرّاء ممارسة غير أخلاقية.
من بين الذين درستهم والذين فشلوا في إحداث التغيير الإيجابي، كلّهم تقريباً كانوا يعتقدون بأنّ مجازفتهم كانت الشيء الصائب الذي يجب فعله. كانوا يشعرون بالفخر بأنهم قد وقفوا دفاعاً عمّا يؤمنون به، لكنّهم كانوا يتمنّون لو قاموا بذلك بإتقان أكبر. يمكن لاتّباع المبادئ الأربعة المبيّنة في هذه المقالة أن تساعد الناس على جميع المستويات في تحسين فرصهم في إحداث تغيير إيجابي عندما يقرّرون التحرّك والإقدام على الفعل.
فكرة المقالة بإيجاز
التحدّي
يُعرّض الموظفون المحترفون الذين يُقْدِمون على أفعال تتسم بالشجاعة، مثل الدفع باتجاه تغيير سياسة فيها عيوب أو رفع صوتهم ضد السلوك غير الأخلاقي، سمعتهم بل وحتى وظائفهم للخطر.
أسلوب أفضل
يميل الناس الذين ينجحون في أفعالهم الشجاعة، أو يعانون من تبعات سلبية أقل من تلك الأفعال، إلى إظهار بعض السلوكيات والخصال: فهم يضعون الأساس المتين لأفعالهم، وينتقون معاركهم بعناية، ويتدبّرون الرسائل والعواطف، ويتولّون المتابعة لاحقاً.
الانطلاق
من الطرق الجيّدة لتعلّم السلوكيات الشجاعة التي تتسم بالبراعة وإتقانها الانخراط في أفعال يومية أصغر قبل الانتقال تدريجياً إلى أفعال أصعب. الأهم من كلّ ذلك، هو أن تحافظوا على قيمكم وغاياتكم نصب أعينكم على الدوام.
وضع الأسس
تُظهرُ أبحاثي بأنّ الموظفين الذين تثمر شجاعتهم في أماكن عملهم عن نتائج إيجابية غالباً ما كانوا قد أمضوا أشهراً إن لم يكن سنوات في ترسيخ فكرة تميّزهم في عملهم، والاستثمار في المؤسسة، والتعامل المنصف مع الجميع. كما كانوا قد أظهروا براعتهم في الوقوف مع الأشخاص الذين يحتاجون إلى دعمهم، وعلى النأي بأنفسهم عنهم في الوقت ذاته. وبأفعالهم تلك، فإنهم قد راكموا ما يسمّيه علماء النفس "رصيد التميّز" والذي كسبوه من تاريخهم المنطوي على الكفاءة والامتثال، والذي يسمح لهم بالصرف منه عند تحدّي المعايير أو الأشخاص ذوي الصلاحيات الأكبر. (كما رأيت العكس أيضاً: فعندما يقف الأشخاص المشهورون بالأنانية أو سوء الإرادة دفاعاً عن التغيير المشروع المطلوب، فإنّ حظّهم في النجاح يكون أقل).
كما يعمل الشجعان البارعون أيضاً على كسب ثقة الأشخاص الذين ينظرون إليهم بوصفهم أبطالاً بالنسبة لهم. وهم يستثمرون في هذه العلاقات أيضاً، حيث يتفاعلون مع الناس بشكل فردي، ويأخذون الوقت الكافي للتعاطف معهم ومساعدتهم على تحقيق التطوّر المهني.
لنأخذ حالة كاثرين جيل، وهي نائبة رئيس أولى سابقة لشؤون جمع التبرّعات والتواصل في صندوق الاستثمار الاجتماعي الذي لا يتوخّى الربح "روت كابيتال" (Root Capital). أرادت جيل أن تُعلي صوتها ضد ما رأته هي وزملاؤها على أنّه انحياز داخلي واضح ضد المرأة، وإن كان غير مقصود. وما زاد الطين بلّة هو أنّ انتقاد القيادة يمكن أن يُنظر إليه وبسهولة على أنه انتقاد لرسالة المؤسسة الواعية اجتماعياً. لكنّها تمكّنت من خوض نقاش صريح، وإن كان مؤلماً، مع زملائها في الإدارة العليا بخصوص الثقافة السائدة في المؤسسة، الأمر الذي أفضى إلى عدد من التغييرات الملموسة.
كان السجلّ الحافل لجيل في التميّز والتأقلم ضمن المؤسسة عاملاً أساسياً في نجاحها. ففي أوّل عامين لها في "روت كابيتال"، تمكّنت من تقديم أداء رفيع متسّق كشخص معني بجمع التبرّعات، وأظهرت الذكاءين العاطفي والفكري في معرض تعاملها مع القضايا المعقّدة. كما أثبتت عمق التزامها برسالة المؤسسة، وأدخلت تعديلات منتظمة على دورها لمواجهة التحدّيات الضاغطة، وتمكّنت من تحقيق التواؤم بين مختلف المبادرات التي أطلقتها والأولويات الاستراتيجية الأساسية. وكانت متأنّية في تبيان القضايا التي كانت تعتبر أن لا علاقها لها بالنوع الاجتماعي بحيث يستطيع الناس من كلا الطرفين بأن ينظروا إليها على أنها شخص عادل. كلّ ذلك أعطاها رصيد التميّز الذي كانت تحتاج إليه لكي يصغي أعضاء فريق القيادة إليها. رسمت حدود التغيير الممكن بحيث لا تضغط زيادة عن اللزوم وتصبح بذلك خارجة عن الإجماع ومعزولة. ومن خلال أخلاقياتها، وحسن حكمها على الأمور، وحس الدعابة الموجود لديها في مكان العمل، أفسحت المجال لإظهار سلوكيات شجاعة في مناسبات كثيرة.
ليست كل فرصة لإظهار الشجاعة أمراً يستحق الاغتنام. فالناس الذين شملتهم دراستي والذين نجحوا في أفعالهم الشجاعة كانوا قد طرحوا على أنفسهم سؤالين قبل المضي قدماً: هل هذا مهم حقاً؟ وهل هذا هو الوقت الصائب؟
لكن في بعض الأحيان، قد لا تسير الأمور على ما يُرام، حتى مع وجود تحضير شديد. والشجعان البارعون يطوّرون آليات للتخفيف من التبعات السلبية. قد يشمل ذلك العثورَ على السبل التي تسمح لهم بأن يجعلوا من أنفسهم أشخاصاً لا يمكن للمؤسسة أن تستغني عنهم، أو الإبقاء على الخيارات الخارجية مفتوحة، أو تقليل الاعتماد الاقتصادي على صاحب عمل معيّن إلى الحد الأدنى. على سبيل المثال، رفض القائد السابق لشركة تيليكوم إيطاليا (تي آي إم) (Telecom Italia) فرانكو بيرنابي العديد من المنافع المصاحبة لمنصب الرئيس التنفيذي لشركة كبيرة، مدركاً بأنّ ذلك يسهّل عليه المجازفة. يقول فرانكو: "لو كنت قد خسرت وظيفتي، وعدت إلى شيء أقل مكانة وبريقاً، فإنّ ذلك لم يكن ليغيّر حياتي".
انتقاء المعارك
ليست كل فرصة لإظهار الشجاعة أمراً يستحق الاغتنام. فالناس الذين شملتهم دراستي والذين نجحوا في أفعالهم الشجاعة كانوا قد طرحوا على أنفسهم سؤالين قبل المضي قدماً: هل هذا مهم حقاً؟ وهل هذا هو الوقت الصائب؟
لا شكّ بأنّ الأهمية هي أمر نسبي يختلف من شخص إلى آخر، ويعود إلى تقديراته الذاتية. فهي تعتمد على أهدافك وقيمك، وكذلك أهداف زملائك، والمعنيين بعملك، والمؤسسة بحد ذاتها، وقيمهم. وفي معرض تحديدك لمدى أهمية قضيّة معيّنة، انتبه إلى العوامل العاطفية المحفّزة الموجودة لديك، اسمح لنفسك بأن تأخذ هذه العوامل بالحسبان لكي لا تقع أسيراً لها. ادرس كذلك ما إذا كان الدخول في معركة معيّنة، بغضّ النظر عن نتيجتها، قد يساعد في ربح الحرب أو قد يعيق النصر. أطرح على نفسك السؤال التالي، على سبيل المثال: هل سيؤدّي ضمان الموارد لمعالجة هذه المشكلة إلى التقليل من احتمال حصول مقترح يحظى بأولوية كبيرة على التمويل؟
يجيد الشجعان البارعون أيضاً اختيار التوقيت المناسب. ولتجنّب احتمال أن يُنظر إليهم على أنهم أشخاص ملحون، فإنهم أقل ميلاً إلى الفعل إذا ما كانوا قد استفادوا منذ فترة قريبة من مكاسب معيّنة جرّاء رصيد التميّز الذي جاهدوا كثيراً في سبيل الحصول عليه. يراقبون ما يجري حولهم، وإذا بدا الوقت غير مناسب، فإنهم يتحلّون بالصبر ويُعرِضُون عن الفعل. يُجرون استطلاعاً لبيئتهم المحيطة بحثاً عن الأحداث والتوجّهات التي يمكن أن تدعم جهودهم، بحيث يحققون أكبر استفادة ممكنة من تغيير مؤسسي معيّن أو ظهور حليف جديد، على سبيل المثال. وهم يظلّون في حالة مراقبة دائمة لدورات الانتباه، وموجات الحماسة العامّة تجاه القضية المطروحة. فالدّفع باتجاه استراتيجية أو فريق قيادي أكثر تمثيلاً على المستوى العالمي، على سبيل المثال، كان ولفترة طويلة أمراً محفوفاً بالمخاطر في العديد من المؤسسات، غير أنّ الشركات باتت اليوم أكثر انفتاحاً على التعامل مع هذه المسائل. وما لم يشعر الشجعان البارعون بأنّ التحرّك ضروري للحفاظ على حس النزاهة لديهم أو لزراعة بذرة فكرة معيّنة، فإنّهم لا يقدمون على الفعل قبل أن يكون من حولهم جاهزين لأخذهم على محمل الجد.
على سبيل المثال، عندما انضمّت "ماندي" إلى شركة ملابس وإكسسوارات في منصب مديرة لأحد المنتجات، عرفت بسرعة بأنّ إحدى الشركات التي تبيع هذا المنتج وتعمل مع شركتها كانت شديدة الإشكالية. فممثلوها كانوا وقحين، وغير صادقين، ويتلاعبون بالكلام، والمنتجُ نفسه كان أقل من المستوى المطلوب. لكن الروابط بين الشركتين كانت راسخة، وانطوت على وجود صداقة بين المديرَين الأساسيين. وقد انتظرت ماندي بكل حكمة، ولم تقترح إدخال تغيير إلا بعد مرور ستّة أشهر. فبحلول ذلك الوقت، كانت قد أظهرت التزامها تجاه المؤسسة، وكانت أقدر على تحديد طبيعة العلاقات بين الناس المعنيّين. واستفادت من هذه المدّة الزمنية الفاصلة لجمع البراهين المرتبطة بالمشكلة، واختيار الباعة البدلاء، والتحديد الكمّي للتحسينات التي يمكن أن يوفّروها. وعندما تقدّمت بمقترحها أخيراً، تجاوب نائب الرئيس المسؤول مع طلبها بإيجابية.
في بعض الحالات، قد تستدعي الظروف أو الأحداث، مثل تراجع المبيعات أو التغيّر في القيادة، اتّخاذ إجراءات شجاعة وعاجلة، وتزيد من احتمال نجاح هذه الإجراءات. كان تيكي يامادا، الطبيب والعالم الذي تحوّل إلى قائد شركة بارع في اغتنام الفرص السانحة خلال مسيرته المهنية كمدير تنفيذي أوّل في قطاع الرعاية الصحية. فعندما تولّى يامادا منصب مدير البحث والتطوير لدى شركة "سميث كلاين بيتشام" (Smith Kline Beecham) في عام 1999، سرعان ما خلُص إلى أنّ قسم البحث والتطوير كان بحاجة إلى إعادة هيكلة ليتمحور حول الأمراض التي يجري العمل عليها أو "الأصول" (الجزيئات أو المكوّنات التي قد تطرح في السوق في نهاية المطاف) عوضاً عن الوحدات التقليدية المنفصلة. وعند الإعلان عن الاندماج مع عملاقة صناعة أدوية أخرى هي "غلاكسو"، أدار يامادا حملة لإعادة هيكلة وظيفة البحث والتطوير للشركة الجديدة بعد الاندماج بتلك الطريقة. لم يحظَ مقترحه بقبول كبير. وشعر القادة والعلماء في قسم البحث والتطوير في غلاكسو تحديداً بالانزعاج، فقد رأوا أمامهم شخصاً جديداً من الشركة الأصغر حجماً في عملية الاندماج يخبرهم بأنهم بحاجة إلى تغيير كبير. يتذكّر يامادا ذلك الوقت قائلاً: "كانوا مصطّفين إلى حدّ كبير ضدّي". لكنّه كان يعرف بأنّ بالإمكان استخدام التوقيت لمصلحته: "أعطتني عملية الاندماج ومحدودية الأدوية التي كانت قيد التحضير في الشركتين منصّة ساخنة للتحرّك". وقد نجحت جهوده التي تنادي بإعادة النظيم جزئياً بسبب قدرته على إدراك الفرصة واغتنامها.
الإقناع في اللحظة المناسبة
إنّ الشجاعة مرهونة، بطبيعة الحال، بأكثر من مجرّد التحضير. ففي نهاية المطاف، يجب عليك أن تُقدِم وأن تتّخذ إجراءً ما. أثناء هذه الخطوة، يركّز الشجعان البارعون بصورة أساسية على ثلاثة أشياء: صياغة القضية بلغة يفهمها الجمهور، مستفيدين بفعالية من البيانات، مع إجادة التعامل مع عواطف الأشخاص الموجودين في الغرفة. وهم يربطون أجندتهم بأولويات المؤسسة أو قيمها، أو يفسّرون كيف تتعامل مع القضايا الأساسية التي تشغل بال الجهات المعنية. ويعملون على ضمان شعور أصحاب القرار بأنهم معنيّون، وليسوا عرضة للهجوم أو التهميش.
تجيد ميل إكسون، المديرة التنفيذية السابقة في شركة الإعلانات "بارتل بوغل هيغارتي" (Bartle Bogle Hegarty) والتي تعرف اختصاراً باسم "بي بي إتش" (BBH)، طرح المقترحات بأساليب تجعلها تبدو جذّابة لمن تحتاج إلى دعمهم. على سبيل المثال، عندما طرحت إكسون وأحد زملائها للمرّة الأولى فكرة إنشاء وحدة داخلية للابتكار تسمّى "بي بي إتش لابز" (BBH Labs) أمام الإدارة العليا، كان الدعم أبعد ما يمكن عن أن يكون محط إجماع. فقد شعر بعض المدراء التنفيذيين بالقلق من أنّ إنشاء مجموعة منفصلة للابتكار سيعني ضمناً بأنّ بعض أجزاء الشركة لم تكن تتّصف "بالابتكار". وكان ذلك يدعوا للقلق في شركة كانت تعتبر نفسها وبكل فخر الشركة صاحبة الرؤية الثاقبة في قطاع الإعلان والتي تسير في طريق مخالف للطريق الذي يسير فيه الجميع، حتى كانت تصوّر نفسها على شكل خروف أسود على إعلانات بطاقات الاتصالات.
وبهدف إقناع المشكّكين بأنّ وحدة "بي بي إتش لابز" المقترحة كانت متوافقة فلسفياً مع رسالة الشركة، استفادت إكسون من فخر الجهات المعنية الداخلية بصورة الخروف الأسود، مشيرة إلى أن بعض زبائن "بي بي إتش" قد جاؤوا إلى الشركة تحديداً بسبب أفكارها الخارقة للعادة. وبالتالي فإنّ وجود مختبر يركّز على الابتكار سيلبّي تلك الحاجة بالتحديد. وقد نجحت في استمالة الآخرين من خلال وصف عمل المختبر الجديد على أنه شكل من أشكال الاستطلاع الريادي، واعدة الجميع في الشركة بأنها ستطرح عليهم النتائج التي سيتوصّل إليها المختبر. حصلت إكسون في نهاية المطاف على الضوء الأخضر من الإدارة العليا، وفي وقت لاحق أطرى الرئيس التنفيذي لشركة "بي بي إتش" على مقاربتها، واصفاً إياها بأنها تبني جينات الشركة عوضاً عن محاولة تغييرها.
محافظتك على هدوئك وأنت تُقدِم على خطوتك الجريئة قد لا تقل أهمية عن الطريقة التي تعرض بها قضيتك. دعونا نراجع حالة المدير الذي سأطلق عليه اسم إيريك، والذي أنيطت به مهمّة تنمية قسم الطاقة الشمسية في أكبر شركة متعدّدة الجنسيات في العالم. كان إيرك يجادل وبلا هوادة المدراء التنفيذيين لخطوط الإنتاج التقليدية في الشركة. وعندما طلب دعمهم لنماذج عمل تجارية جديدة، غالباً ما كان يواجه بالصد والرد، وكانوا يردّون عليه بفظاظة قائلين: "نحن لا نفعل ذلك" أو "هذا الأمر لن ينجح البتّة هنا". كانت النقاشات تحتدم، وغالباً ما كان إيريك يشعر بالإحباط من الموقف الدفاعي للمدراء التنفيذيين. ولكن عوضاً عن ابتلاع الطعم العاطفي، كان يذكّر نفسه بأنّ ردودهم كانت عبارة عن ردّ فعل طبيعي على الخوف من المجهول. وقد ساعده ذلك على إدراك ما يدور في أذهانهم والعقلية التي كانوا يعملون وفقها في التهدئة من روعه والتركيز ببساطة على استعمال الحجج المستندة إلى البيانات. في النهاية، تمكّن إيريك من اجتذاب الآخرين للالتفاف حول وجهة نظره، بينما حققت الشركة وثبة قويّة نحو استراتيجيته المقترحة.
المتابعة اللاحقة
يلجأ من يُظهرون الشجاعة البارعة إلى المتابعة اللاحقة بعد أن يُقْدِمُوا على فِعْلِهم، بغضّ النظر عن المآل الذي تذهب إليه الأمور. وهم يديرون علاقاتهم مع الأشخاص المعنيين: فعندما تسير الأمور على ما يُرام، يشكرون الداعمين ويتشاركون الفضل في النجاح معهم. وعندما تسير الأمور على غير ما يُرام، فإنهم يتعاملون مع العواطف المهيمنة، ويصلحون ما أفسدته القضيّة من ود مع الأشخاص المتضرّرين أو الذين قد يكونون غاضبين.
على سبيل المثال، اتّخذت كاثرين جيل قراراً آنياً بإطلاق حملتها لتغيير الثقافة السائدة في "روت كابيتال" خلال تجمّع غير رسمي لمدراء الشركة ضمّ أكثر من 30 قائداً. ولكن نتيجة لقرارها العفوي، فإنها أخذت الرئيس التنفيذي على حين غرّة. وبما أنّ جيل عرفت بأنّ المحادثة الصعبة التي تلت ذلك الموقف ربما قد جعلته يشعر وكأنها قد وجّهت اتهاماً ضمنيّاً إلى قيادته، وبأنّه ربما ينظر إلى تصرفاتها على أنها هجوم شخصي، فإنّ جيل تحدّثت إليه على انفراد أثناء العشاء في ذلك المساء. وقد طمأنته إلى أنها ليست بصدد إشعال فتيل ثورة، بل كانت تحاول دعم تطوّر الشركة لتأخذ شكلاً مثالياً.
سلوكيات الشجعان البارعين هي سلوكيات يمكن تعلّمها. وهي تعتمد على الجهد والتدريب، عوضاً عن بعض الصفات الشخصية البطولية التي تقتصر على قلّة من الناس.
كما تعني المتابعة اللاحقة أيضاً الاستمرار في تنفيذ جدول أعمالك ليتجاوز مجرّد لحظة التحرّك الكبيرة الأولى. فحتى عندما تسير الأمور بالنسبة للشجعان البارعين على ما يُرام في خطواتهم المبدئية، فإنّهم يواصلون المناداة بقضيتهم، ويسعون إلى تأمين الموارد، وضمان إيفاء الآخرين بوعودهم. وعندما لا تسير الأمور على ما يُرام، فإنّهم يتأقلمون بسهولة مع الوضع، وينظرون إلى النكسات بوصفها فرصاً للتعلّم عوضاً عن الاختباء من آثار التبعات السلبية أو الاستسلام.
لنأخذ حالة فريد كيلر، الذي أنشأ برنامجاً لتشغيل الفقراء ونقلهم من المعونة الاجتماعية إلى الحياة المهنية والعمل في الشركة الهندسية التي أسّسها، وتحمل اسم "كاسكيد إنجينيرينغ" (Cascade Engineering). في النسخة الأولى من هذه المبادرة، غالباً ما كان المشاركون يتأخرون في القدوم أو يغيبون، وكان أداؤهم سيئاً. وفي غضون بضعة أسابيع، لم يبقَ أي واحد من هؤلاء المشاركين الجدد في البرنامج، الأمر الذي جعل موظفي الشركة ومشرفيها يشعرون بالإحباط. وعوضاً عن الاستسلام، نظر كيلر إلى هذا الفشل بوصفه فرصة للتعلّم. وبعد أن وجد بأن لا شركة "كاسكيد" ولا المشاركين الجدد في برنامجها كانوا مستعدّين جيداً للبرنامج، أعاد تفعيله بعد أن وفّر المزيد من التدريب لجميع المعنيين. وعندما بدا بأنّ المحاولة الثانية كانت في طريقها لتواجه مصير المحاولة الأولى، استفاد كيلر من الانتقادات المتنامية لتصويب المسار. وزاد من تدريب القادة ودخل في شراكة مع أحد مسؤولي المقاطعة للاستعانة بموظف خدمة اجتماعية ليداوم في الشركة مع المشاركين الجدد في البرنامج لاستكشاف المشاكل وحلّها قبل أن تتصاعد. وقد أثمرت مثابرة كيلر وما تعلّمه وأعطت أكلها، فقد بات البرنامج الآن جزءاً أساسياً من المؤسسة، ويُحتفى به على نطاق واسع بوصفة نموذجاً يُحتذى لنقل الناس من حالة الاعتماد على المعونة الاجتماعية إلى الحياة المهنية. وتمكّن كيلر من خلال مثابرته من كسب الولاء الكبير من موظفيه على جميع المستويات في الشركة.
الانطلاق
ليست الشجاعة مطلوبة في الحملات الخاصة بالقضايا الحساسة فحسب، حيث أظهر بحث لي أجريته مع إيفان برونو، طالب الدكتوراه في داردين، بأنّ هناك مجموعة من الأفعال اليومية التي تحتاج إلى تصرّف الموظفين بشجاعة أيضاً. ففي بعض الأحيان، قد يحتاج أداء الإنسان لواجبه الوظيفي ببساطة إلى شجاعة. ومن الجدير بالذكر أيضاً بأنّ "الخطر" ينطوي على أكثر من مجرّد احتمال الدمار المالي أو الطرد من العمل. فالناس، بطبيعتهم، يخشون الرفض، والإحراج، وكل أنواع العواقب الاجتماعية والاقتصادية الأخرى. فبالنسبة لمراقب خارجي، على سبيل المثال، قد يكون من السهل التساؤل عمّا إذا كانت أفعال فريد كيلر تتطلب الشجاعة. فبما أنّ كيلر هو صاحب الشركة، فهذا يعني أنّ بوسعه فعل ما يريد، فأين مكمن الخطر؟ ولكن لسنوات طويلة، كان كيلر يواجه المشككين سواء من داخل مؤسسته أو من خارجها. وبالتالي أن يثابر وهو يعلم بأنّ الناس قد يعتقدون بأنه "مجنون" أو أنه كان يهدر وقته أو ماله، هو أمر احتاج إلى شجاعة.
تتمثّل البشرى السارّة في أنّ تجارب الأشخاص الذين درستهم تُظهر بأنّ سلوكيات الشجعان البارعين هي سلوكيات يمكن تعلّمها. وهي تعتمد على الجهد والتدريب، عوضاً عن بعض الصفات الشخصية البطولية التي تقتصر على قلّة. (لذلك لا تستعمل هذا الأمر كعذر لكي تنجو بنفسك من اللوم إذا وجدت نفسك في وضع يستدعي إظهار الشجاعة!) إحدى النصائح التي أقدّمها إلى طلابي وزبائني هي: لا تُقْدِمُوا مباشرة على عمل جديد وصعب لم تحصلوا فيه على إرشاد أو مساعدة. عوضاً عن ذلك، تعاملوا معه بطريقة تدريجية من خلال القيام بأفعال صغيرة مقدور عليها أكثر قبل المضي قدماً بتؤدة نحو الأفعال الأصعب. قد يعني ذلك خوض نقاش صعب في جانب آخر من جوانب الحياة، أو تقديم موضوع صعب مع زميل تحبونه أو تحترمونه، قبل مواجه مدير بخصوص سلوك مهين. وقد يعني توجيه فريقكم في اتجاه جديد قبل اقتراح إدخال تحوّل على المؤسسة بأكملها. فكّروا ما الذي تعنيه كلمة "صغير" بالنسبة لكم، فنحن جميعاً لدينا تصوّرات بخصوص الأفعال التي تحتاج إلى شجاعة. (للاطلاع على مدى توافق تصوّركم عن الأشياء التي تحتاج إلى شجاعة مع تصوّرات الآخرين بوسعكم المشاركة في "استبيان التقويم الذاتي لمؤشر الأفعال الشجاعة في مكان العمل" الذي وضعناه والموجود على موقعنا على شبكة الإنترنت على العنوان التالي (www.workplacecai.com)). بعد ذلك، وعندما تتعاملون مع كل خطوة، ركّزوا على ما تتعلّمونه وليس على ما إذا كانت تسير بطريقة مثالية من المرّة الأولى أم لا.
الأهم من كل ذلك، هو أن تحافظوا على قيمكم وغاياتكم نصب أعينكم على الدوام. لأنّ إحساسكم باحترامكم لذاتكم خلال النكسات التي تواجهونها سيكون أقوى، وستكونون أقل ميلاً إلى الندم على أفعالكم، بغضّ النظر عمّا ستؤول إليه الأمور. وباستعمالكم للمبادئ التي ناقشناها في هذا المقال، سوف تزيدون من احتمالات إحداث التغيير بنجاح، ممّا يجعل المجازفات التي تقومون بها تستحق كل العناء المبذول في سبيلها.