بصفتي مدرباً مهنياً، سمعت هذه العبارة كثيراً: "أريد أن أترك هذه الوظيفة غداً". نتعرض يومياً لضغوط وأفكار تدعونا إلى التغيير السريع والفوري في مسيرتنا المهنية. تحب وسائل الإعلام أن تعرض قصص الناس الذين يحوّلون مسيرتهم المهنية 180 درجة، مثل الذي يترك وظيفته في مجال المحاسبة يوم الجمعة ويبدأ العمل حارساً في حديقة حيوان يوم الاثنين. نتأثر بقصص الناس الذين نجحوا فجأة وحققوا إنجازات غير متوقعة، ولا نتذكر سوى تعابير البهجة على وجه نجم صاعد، حتى إن عرفنا أن الشركات رفضته طيلة 10 سنوات قبل أن يصل إلى القمة، لكننا لا نريد أن نسمع إلا قصة ريادة الأعمال العظيمة؛ والأحلام المهنية التي تتحقق.
بالطبع يمكن للأحلام المهنية أن تتحقق، لكن نادراً ما يحدث ذلك بين عشية وضحاها والكثير من البحث والتقصي. ترى هيرمينيا إيبارا في كتابها المؤثر "هوية العمل" (Working Identity) أن التغيير الوظيفي بمعظمه تدريجي وتصاعدي. ففي حين أن نسبة صغيرة من الناس تتخلى عن وظائفها اليومية وتخاطر بكل شيء، فإن الاستراتيجية الأنجح بالنسبة لمعظم الناس هي اتباع أسلوب تدريجي.
يعني ذلك بالنسبة لبعض الناس تجربة أنماط جديدة من العمل لمعرفة مدى ملاءمتها. لذا لا يكتفي مَن يفكر في إنشاء مشروع تجاري جديد بإجراء مقابلات مع أشخاص سبقوه إليه، بل يعمل في مشاريع الآخرين في أيام إجازته. وقد يستخدم آخرون خبرات الإعارة إلى مؤسسة أخرى أو التدريب الداخلي للتعرف على الأدوار والقطاعات الأخرى. قد يكون ذلك تحدياً صعباً بالنسبة لمن يعمل ساعات طويلة، ولكن بالمقارنة مع تكلفة عدم البحث، فإن الاستثمار في الوقت ضئيل، حتى إن كان كل ما يمكنه فعله إجراء مقابلات استطلاعية.
من الناحية العملية، يعني التقدم على أساس "الخطوات الصغيرة" تبنّي عقلية جديدة بالنسبة لنوعين من السلوك.
السلوك الأول هو دراسة الخيارات المهنية مدة أطول بكثير مما نفعل قبل اتخاذ القرارات عادةً. في الواقع، نتخذ معظم الخيارات المهنية دون دراسة كافية، إذ نجد إعلاناً عن وظيفة أو نحصل عليها فجأة. علينا أن نكون واقعيين بشأن ما يحدث ونحن نظن أننا نتخذ قرارات مهنية، فغالباً ما ندور في دوامة من الأسئلة، وتتجاذبنا أسئلة على غرار "ماذا لو؟" و"أريدها ولكن".
بالنسبة لبعض العملاء، أوصي بتجنب اتخاذ القرارات آنية، ولا أعتبر ذلك تسويفاً، بل مراقبة الوظيفة الذهنية التي يسميها مؤلف كتاب "ما لون مظلتك" (What Color Is Your Parachute)، ريتشارد بولز، "الذات الحافظة"، وهي الجزء القديم من دماغك الذي يقتنص الفرص المبكرة لرفض الأفكار والفرص الجديدة قبل أي فحص مناسب.
أما السلوك الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول من إعادة التأطير فهو أننا يجب أن نتعلم البحث وكأننا نبحث من أجل شخص آخر. إذا عرض عليك أحدهم 5,000 دولار للبحث عن علاقات مهنية مفيدة وتحديد مجالات محتملة للاستكشاف، فلن تعود بعد 48 ساعة وتقول: "لقد فكرت في بعض الأشياء لكنك لن تحبها". لكن هذا بالضبط ما نفعله كثيراً عندما نكون نحن العميل. تخيل للحظة أنك تستثمر الطاقة التي يستخدمها عقلك الحافظ في قول "لا" أو حتى "أريدها ولكن" في اكتشافٍ مفتوح الأفق.
هذا يعني تحدي الحكمة السائدة في السوق التي تقول ليس هناك وظائف جيدة. قد تتمثل الخطوات الصغيرة في تطوير الاهتمامات والتعلم وقضاء الوقت مع الأشخاص الذين يمارسون العمل الذي ترغب فيه. وقد يعني استكشاف خيارات عمل متعددة.
ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في معرفة إن كان عليك حقاً أن تفعل شيئاً مختلفاً تماماً. إن تحديد هدف مهني خيالي لا يمكن تحقيقه ما هو إلا طريقة ملتوية لقبول عدم التغيير، والتغيّر الجذري دفعة واحدة مهمة مستحيلة. ولكن التغيير التدريجي ليس مستحيلاً، مثل الانتقال إلى قطاع أو فرصة قريبة من عملك الحالي، ولكن في اتجاه جديد. إن أصعب جزء من الرحلة للمستكشفين المهنيين ليس الأمتار العشرة الأخيرة، بل الخطوة الصغيرة الأولى.