عانت كوريا الجنوبية من اتهامات الفساد التي طالت حكومتها وكُبرى شركاتها. إذ يخضع دور الشركات المدارة من قبل الأسرة الحاكمة للبلاد إلى رقابة مكثفة لمعرفة ما إذا كانت تجري محاسبتها على المخالفات المرتكبة وكيف تكون هذه المحاسبة.
في فبراير/شباط من العام 2017، تم القبض على المدير الفعلي لشركة سامسونج لي جاي يونغ (Lee Jae-yong) بتهم الرشوة. إذ اتهم بالتبرع بمبلغ 36 بليون دولار لمؤسسات غير ربحية يديرها صديق للرئيس السابق مقابل الحصول على مزايا سياسية. وبعد ذلك في مارس/آذار من ذات العام، أُزيلت رئيسة كوريا الجنوبية بارك جيون هاي (Park Geun-hye) من منصبها، ويعود هذا جزئياً إلى الاتهامات التي نالت منها بأنها ساعدت صديقتها تشوي سون سيل (Choi Soon-sil)، في الضغط على شركات بهدف تقديم تبرعات إلى مؤسسات غير ربحية محكومة من قبل صديقتها تشوي، وأعطتها حق الوصول إلى وثائق حكومية سرية. كما ساعد غضب الناس تجاه هذه الفضائح وأخرى مماثلة على دفع المرشح الليبرالي مون جاي إن (Moon Jae-in) إلى الرئاسة، حيث قام بحملة انتخابية وعد فيها بتضييق الخناق على الشركات التي تديرها الأسر الحاكمة إثر فضيحة المحسوبية والفساد الخاصة ببارك.
يشعر العديد من الكوريين الجنوبيين بالحسد والاستياء تجاه تكتل الشركات التي تديرها الأسرة الحاكمة مثل سامسونج وإس كيه (SK) وإل جي (LG) وهيونداي (Hundai). إذ تُشكّل هذه الشركات، والمعروفة باسم "شيبول" (chaebol)، أكثر من نصف قيمة الشركات المتداولة في بورصة كوريا الجنوبية. إلا أنّ مساهمة هذه الشركات في اقتصاد العالم الحادي عشر الأكبر تطغى عليها حالات الرشوة المتكررة وضعف إدارة الشركات وخطط المساھمة المعقدة التي تساعد هذه الأسر على مراكمة الثروة ووراثة الإدارة. فمعظم شركات "شيبول" في جيلها الثالث تخضع لسيطرة الأسرة الحاكمة. وقد تعهد موون بإيقاف الأسر عن استخدام مثل هذه الأساليب للاحتفاظ بالسيطرة على هذه الشركات العامة ظاهرياً.
كما أدت الفضيحة السياسية والانتخابات التي أعقبتها إلى إحياء غضب الرأي العام تجاه أخطاء سابقة لشركات "شيبول"، حيث يشعر العديد من الناس أنّ هذه الشركات لم تسع أبداً بشكل صحيح إلى القيام بإصلاحات. ولكن لتصحيح ذلك ولإصلاح سمعتها، تحتاج سامسونج وشركات أخرى إلى رسم مسار يختلف عن قريناتها من الشركات الغربية، فالقواعد الخفية للتكفير عن الخطأ تختلف حسب الثقافات.
الإصلاحات في ثقافة الذنب
في ثقافة الذنب، والتي نراها أساساً بالبلدان الغربية، يُستمد الخلاص من اعتراف الفرد بأنّ سلوكه انتهك قوانين المجتمع. وعندما يعتقد الأفراد أنهم بريئون، يتوقع أن يُنكروا خطيئتهم ويُثبتوا براءتهم في المحكمة. ولكن إذا ثبتت إدانتهم، فإنّ عقوبة السجن ستضع الأمور ضمن مسارها الصحيح.
هذا السبب الذي يدفع الناس في بعض فضائح الشركات الكبرى في الولايات المتحدة إلى توقع قضاء المسؤولين التنفيذيين بعض الوقت في السجن كتكفير عن أخطائهم. وعلى سبيل المثال، بعد فضيحة شركة إنرون (Enron)، أُدين المدير التنفيذي السابق كينيث لاي (Kenneth Lay) بالاحتيال والتآمر وحُكم عليه بالسجن لـ45 عاماً. كما ناشد الرئيس والمدير التنفيذي السابق جيفري سكيلينغ (Jeffrey Skilling) اختصار حكمه الذي كانت مدته 24 عاماً. وحكم بالسجن على أندرو فاستو (Andrew Fastow) المدير المالي السابق لـ6 أعوام.
وما لا يمكن إنكاره أنّ ثقافة الذنب أظهرت حماساً ضئيلاً لفرض عقوبات جنائية على المسؤولين التنفيذيين المتورّطين بالأزمة المصرفية في العام 2008. مثلاً، بعد 9 أعوام من إفلاس مصرف الأخوة ليمان (Lehman Brothers)، أصبح الرئيس التنفيذي السابق ريتشارد فولد رجلاً حراً. كما في الواقع، لم يُسجن أي مسؤولين تنفيذيين لدورهم في الأزمة المالية الأميركية. لكنه حُكم على ثلاثة مسؤولين تنفيذيين في مصرف أنجلو الإيرلندي (Anglo Irish Bank) بالسجن لبضعة أعوام فقط بتهمة التآمر لتضليل المستثمرين والمودعين والمقرضين، حيث أدّت الصفقة المزورة، التي بلغت 7.2 بليون يورو، في النهاية إلى وقوع الأزمة المالية في إيرلاندا. وفي المملكة المتحدة، تم تجريد بضعة مسؤولين تنفيذيين في البنك الملكي الاسكتلندي (Royal Bank of Scotland) ومصرف هاليفكس (HBOS) من مناصبهم لكن من دون أن يتعرضوا لتهم جنائية.
أحياناً، يُعزى غياب الملاحقات الجنائية إلى القلق تجاه الآثار الأوسع نطاقاً التي تنتج من هذه الأفعال على الاقتصاد الوطني. وفي بعض الأحيان الأخرى في ثقافة الذنب، التي يمكن أن تكره الجريمة وتحترم المجرم. فقد أعلنت هيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة أنه من غير العادل اقتصار العقوبة على الأفراد المخطئين، حيث كانت أفعال المصرفيّين تجاه الأزمة المالية نتيجة ثقافة منتشرة، والعقوبة الرمزية لمرة واحدة فقط لن تكون ذات فائدة.
ومع ذلك، في ثقافة الذنب، لا يزال يُنظر إلى عقوبة السجن كوسيلة للأفراد "لدفع ديونهم للمجتمع". وبالمثل يمكن للشركات أن تتعرض لغرامات أو تسويات كبيرة من قبل الجهات الرقابية الحكومية. كما يُمثّل الوقت الذي يقضيه المسؤولون التنفيذيون خلف القضبان والغرامات الكبيرة التي يدفعونها عقوبات مستهدفة لاستعادة سمعة الشركة.
الإصلاحات في ثقافة العار
على النقيض مما سبق، في أماكن مثل كوريا الجنوبية واليابان، لا يُحكم على المسؤولين التنفيذيين بأي حكم ولا حتى بالسجن. على سبيل المثال، أضاع المدير التنفيذي السابق لشركة توشيبا ومسؤولون تنفيذيون آخرون أكثر من 1.2 مليار دولار خلال عملية احتيال مالية، فكانت عقوبتهم السجن مع وقف التنفيذ فقط. وبالمثل أيضاً، أُدين كلّ من رئيس شركة هيونداي موتور تشونغ مونغ كو، ورئيس شركة سامسونج لي كون هي (وهو والد المعتقل لي جاي يونغ) والرئيس السابق لشركة إس كيه (SK) بحوادث فساد منفصلة، إلا أنهم مُنحوا العفو الرئاسي.
وعليه، نجد أنه إذا اتهم أحد رجال الأعمال بجريمة ما، تبدأ العقوبة بمجرد انتشار الاشتباهات علناً من خلال صور لأصفاد على اليدين أو قصص إخبارية مثيرة عن احتجازهم. وهذا لأنه في ثقافة العار، الاحترام يعني مجازياً الشرف. وكلما فُضح مدير تنفيذي يتصرف بشكل غير أخلاقي، يصبح الناس أكثر استعداداً لمسامحته. بمعنى أنّ المدير يستطيع استرداد الشرف بصدق أكبر من خلال اعتذار عميق بانحناء أكثر من عقوبة السجن لعدة أعوام.
أما في الحالات القصوى بثقافة العار، يمكن أن يؤدي فقدان احترام الآخرين إلى الانتحار، حيث ألقى رئيس كوريا الجنوبية السابق روه مو هيون (Roh Moo-hyun) نفسه من على منحدر في العام 2009 بعد اتهام زوجته له بتلقي أموال من بعض الشركات، في حين، ادّعى أنه يقوم بتحويل شركات "شيبول". إذ ساهم انتحاره بتغيير وضعه تماماً من مجرم إلى بطل وأُغلقت بعدها التحقيقات.
وغالباً ما يصعب على الغربيين فهم حاجة الناس في العديد من البلدان الآسيوية للحفاظ على الاحترام وتجنب العار، حيث وجد الباحثون في اليابان أنّ الاعتذار هو دليل على الندم الشخصي. لكن في الولايات المتحدة، من المرجح أن يُنظر إلى الاعتذار على أنه اعتراف بالذنب.
وضع شركة سامسونج
ما الذي يمكن أن تفعله سامسونج لتحسين سمعتها في وطنها؟ تحتاج الشركة إلى قبول المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية بفعالية بما هو أكثر من الدفاع عن نفسها في المحكمة.
وبعد اعتقال لي جاي يونغ، قررت سامسونج حلّ مكتب استراتيجياتها المستقبلية (Future Strategy Office)، والذي يُعدّ الهيئة الأكثر ولاء للأُسرة الحاكمة، وهذه تُعدّ بداية جيدة ولكنها غير كافية، حيث يجب أيضاً تدارك قسم المساهمة الاجتماعية القائم حالياً، والذي يركز على نشاطات التسويق. كما يمكن أن يكون برنامج المسؤولية الاجتماعية للشركات الأكثر واقعية، والالتزام الأكثر عمومية بالقيادة الأخلاقية من قبل أسرة لي المسيطرة، دليلاً للحكومة والناس على أنّ سامسونج تقوم بتغييرات فعلية.
ولرؤية مثل هذه الإصلاحات، يمكن لسامسونج أن تعتمد على قوة تاريخية: وهي سمعتها الداخلية المتميزة. إذ تشير أبحاثي إلى أنّ ولاء الموظف المتميز في سامسونج كان مفتاحاً للتفوق على شركة سوني كشركة إلكترونيات عالمية. على أي حال، أعتقد أنه حان الوقت لتحلّ ثقافة الولاء للشركة بدلاً من ثقافة المسؤولين التنفيذين الحالية بالولاء للأسرة الحاكمة. وهذا التحول يجب أن يتم تصميمه وتنفيذه بعناية.
كما من المعروف أنّ شركة سامسونج تمتلك باعاً طويلاً في القدرة على تحويل الأزمات إلى فرص، فما كانت شركة قوية مثل الآن لولا تعلّمها من الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات. وقد حقق مخزونها خلال عملية سحب هاتفها (Galaxy Note 7) رقماً مرتفعاً باستمرار. وبالطبع، إذا اتخذت الشركة خطوات صحيحة لاسترجاع سمعتها، ستستعيد كامل احترام موظفيها ومواطني كوريا الجنوبية، ومجدداً ستعود العلامة التجارية ذات الثلاثة نجوم والتي بدأت في العام 1938 باستثمار يبلغ دولارين فقط.
هناك الكثير من اللوم، عند دراسة وضع شركة سامسونج والسمعة الأوسع لشركات "شيبول". ومن المؤكد أنّ سياسيي كوريا الجنوبية ووسائل الإعلام يستحقّون الانتقاد بسبب دورهم في تصعيد الفضائح. ومع ذلك، تُظهر الانتخابات الحاسمة لمون جاي إن (Moon Jae-in) والتحقيقات المستمرة لوريث سامسونج أنّ القادة السياسيين والمدّعين العامين مصممون على تصحيح سمعة البلاد كونها متساهلة جداً مع المسؤولين التنفيذيين في الشركات. وعلى عكس المحاولات السابقة لإصلاح شركات "شيبول"، يجب أن تبدأ الجهود الحكومية هذه بالتركيز على السياسات التي تقلل من الفساد والمحسوبية بدلاً من إيجاد كبش فداء لتهدئة الغضب الشعبي.
وأهم ما في الأمر أنّ هذه فرصة لسامسونج وشركات "شيبول" الأخرى لتطهير أنفسهم بعيون شعب كوريا الجنوبية والعالم بأسره.