دعوة لمواءمة عملك مع الواقع الجديد

11 دقيقة

سنناقش في السطور التالية الأوضاع المستجدة وسبل إعادة تقييم فرص النمو المتاحة للشركات في ظلها، وإعادة صياغة نماذج عملها بما يضمن لها استغلال هذه الفرص أحسن استغلال وإعادة تخصيص رأسمالها بصورة أكثر فاعلية.

لن نحيط علماً بكل آثار جائحة "كوفيد-19" قبل مرور بعض الوقت، لكن بالاطلاع على الأحداث التاريخية التي شهدت صدمات كهذه يمكننا أن نستشف أمرين، أولهما أن بعض الشركات تستطيع الاستفادة حتى في فترات الانكماش والركود الاقتصادي الحاد، فمن بين الشركات الكبيرة التي زاولت نشاطها التجاري خلال فترات الانكماش الأربع، نجح 14% منها في رفع معدل نمو المبيعات وهامش الأرباح قبل خصم الفوائد والضرائب.

ثانيهما أن الأزمات لا تسفر عن عدد هائل من التغيرات المؤقتة فحسب (والتي تتمثل أساساً في تغيرات قصيرة الأجل في الطلب) ولكنها تؤدي أيضاً إلى بعض التغيرات الدائمة، فقد تسببت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول الإرهابية، على سبيل المثال، في تراجع الإقبال على السفر بالطيران بصورة مؤقتة، لكنها أحدثت تحولاً دائماً في المواقف المجتمعية تجاه المفاضلة بين الخصوصية والأمن، ما أدى إلى رفع مستويات التفتيش والمراقبة بصورة دائمة. وبالمثل، غالباً ما تُعزى سرعة التحول الهيكلي إلى التجارة الإلكترونية إلى تفشي فيروس سارس في الصين عام 2003، وهو ما مهّد الطريق لظهور شركة "علي بابا" وغيرها من الشركات الرقمية العملاقة.

فكرة المقالة باختصار

التحدي

تستطيع بعض الشركات الاستفادة حتى في فترات الانكماش والركود الاقتصادي الحاد، فقد نجح 14% من الشركات في رفع معدل نمو المبيعات وهامش الأرباح قبل خصم الفوائد والضرائب خلال فترات الانكماش الأربع التي حاقت بالاقتصاد مؤخراً.

الرابحون

بمقدور صدمة مثل جائحة "كوفيد-19" أن تُحدث تغيرات دائمة في السلوك، وتتميز هذه الشركات بقدرتها على اكتشاف التغيرات بسرعة وتعديل نماذج عملها بحيث تعكس هذه التغيرات ولا تخشى تنفيذ الاستثمارات اللازمة لإنجاح هذه العملية.

المنهجية

ادرس التغيرات الطارئة على عادات الأفراد في قضاء أوقاتهم وإنفاق أموالهم وآثارها على نشاطك التجاري، ثم تأمل انعكاسات هذه التغيرات على كيفية إنشاء القيمة وتقديمها والأطراف التي يجدر بك الدخول معها في شراكة والفئات التي يجب محاولة استهدافها كعملاء لمنتجاتك أو خدماتك. أخيراً، كن مستعداً لاستثمار أموالك حيثما ترشدك التحليلات.

إعادة تقييم فرص النمو

تسببت جائحة "كوفيد-19" في زعزعة الاستهلاك العالمي بشدة، ما أرغم الكثيرين (وحفّزهم) على التخلي عن العادات القديمة وتبني عادات جديدة، إذ أثبتت دراسة أُجريت حول تكوين العادات أن متوسط الوقت اللازم لتكوين عادة جديدة يبلغ 66 يوماً وبحد أدنى 21 يوماً. وقد استمر الإغلاق حتى كتابة هذه السطور لفترة كافية في العديد من الدول لتغيير العادات التي شكلت أساس العرض والطلب إلى حدٍ كبير.

يجب على الشركات تطوير فهم منهجي للعادات المتغيرة إذا أرادت الخروج من الأزمة في وضع أقوى، وهو ما يعني بالنسبة للعديد من الشركات ضرورة ابتكار آلية جديدة لاكتشاف التحولات وتقييمها قبل أن تغدو واضحة للجميع. تتمثل الخطوة الأولى في تحديد التداعيات المحتملة للاتجاهات السلوكية الناشئة من أجل الوقوف على المنتجات أو فرص العمل التي يُرجَّح أن تتأثر بها نمواً أو انكماشاً (راجع الشكل التوضيحي "كيفية تحديد فرص النمو")، مع مراعاة كيفية تسبّب الجائحة في إرغام الناس على التزام منازلهم لفترة أطول. تشمل هذه التداعيات زيادة الإقبال على تجديد المكاتب المنزلية، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة الطلب على المنتجات المصاحبة، بدايةً من مواد الطلاء وصولاً إلى الطابعات. وما لم ننتبه إلى العادات الجديدة وآثارها المتلاحقة غير المباشرة، فسنفشل في تحديد الإشارات الضعيفة ونضيّع على أنفسنا فرص تشكيل الأسواق.

تتمثل الخطوة التالية في تصنيف تحولات الطلب باستخدام مصفوفة بسيطة مكونة من خانتين أفقيتين وخانتين رأسيتين (2 × 2)، على أساس ما إذا كان من المحتمل أن تكون هذه التحولات قصيرة الأجل أم طويلة الأجل وما إذا كانت تشكل اتجاهات موجودة قبل الأزمة أم أنها ظهرت منذ بدايتها. تميز الخانات الأربع بين الطفرات (الانحرافات المؤقتة عن الاتجاهات الحالية)، والإحلال (الاتجاهات الجديدة المؤقتة)، والعوامل المحفزة (تسارع الاتجاهات الحالية)، والابتكارات (الاتجاهات الجديدة الدائمة). عاوِد دراسة فكر التحول السلوكي المتمثل في "إرغام الناس على التزام منازلهم لفترة أطول" والذي كان له أثر خطير على قطاع التسوق. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل سيكون التخلي عن التسوق المباشر من محال البيع بالتجزئة والاستعاضة عنه بالتسوق الإلكتروني ظاهرة مؤقتة، أم أنه سيكون تغييراً هيكلياً له آثار غير مباشرة في مجالات أخرى، مثل العقارات التجارية؟

سنضع التسوق في خانة العوامل المحفزة، فقد أدت الجائحة إلى تضخيم اتجاه قائم فعلياً وتسريعه بدلاً من استحداث اتجاه جديد لأن الناس كانوا في سبيلهم إلى التحول إلى التسوق الإلكتروني قبل الإغلاق، لكن هذا التحول هيكلي وليس مؤقتاً لأن حجم التغيير القسري ومدته، إلى جانب الأداء الإيجابي عموماً لقنوات التسوق الإلكتروني، يشير إلى أن العملاء لن يروا أي حاجة للعودة إلى الاتجاهات السابقة في العديد من فئات التسوق، لذا يجب على مؤسسات البيع بالتجزئة رسـم اسـتراتيجياتها بما يتناسب مع الأوضاع المستجدة. في الواقع، كان الكثير من مؤسسات البيع بالتجزئة يستجيب للتحدي الرقمي من خلال إعادة تعريف الغرض من المحال التجارية بمفهومها التقليدي، غالباً عن طريق النظر إلى التسوق باعتباره تجربة اجتماعية جذابة وليست مجرد عمل روتيني.

يمكن بالتالي استخدام هذا الإطار لتسليط الضوء على الاتجاهات التي يجب اتباعها وأيها يجب تشكيلها بشكل أكثر قوة، ومن نافلة القول أن الشركات لا تستطيع متابعة كل الاحتمالات ويجب ألا تحاول ذلك، لكنك إذا أردت الحصول على فكرة عن الاحتمالات التي يجب دعمها، فاسأل نفسك عما إذا كان أي تغير في الطلب مؤقتاً أم دائماً. كان العديد من التحولات التي لوحظت على الفور استجابةً لجائحة "كوفيد-19" إما مدفوعة بالخوف من الإصابة أو امتثالاً للتعليمات الرسمية، وبالتالي كانت مؤقتة على الأرجح، لكن بعضها الآخر كان مصحوباً بتوفير قدر أكبر من الراحة أو المال، لذا يرجَّح أن تظل كما هي بعد انقضاء الجائحة.

يجب ألا يكتفي أي تحليل لفرص النمو بالتصنيف البسيط لما تعرفه بالفعل، ولا بد من تحدي أفكارك حول ما يحدث في مجالات عملك التقليدية من خلال إلقاء نظرة جديدة ودقيقة على البيانات، وهذا يستلزم البحث بكل همة ونشاط عن أوجه الخلل والمفاجآت.

كيفية تحديد فرص النمو

نوع الاتجاهات الجديدة ومدتها

تعمَّق في البيانات

تنشأ أوجه الخلل في العادة من البيانات التفصيلية (التي تكشف عن الأنماط المتخفية وراء المتوسطات العامة) وعالية التردد (التي تسمح بتحديد الأنماط الناشئة بسرعة)، فمع تغير السلوك نتيجة تفشي فيروس "كوفيد-19"، على سبيل المثال، تضمنت المصادر الغنية بيانات عن حركة الزبائن في المتاجر والإنفاق باستخدام بطاقات الائتمان، وكشف أحد التحليلات أن تراجع الإقبال على دور السينما في الآونة الأخيرة قد حدث قبل إغلاق المسارح رسمياً في الولايات المتحدة. وإذا وضعنا هذه المعلومة في الاعتبار، إلى جانب الاتجاه الحالي لتراجع الإقبال على دور السينما، لوجدنا أن هذا يشير إلى أن التحول كان مدفوعاً بقرار مسبق من المستهلك وربما يستمر حتى بعد انقضاء الجائحة في حال غياب الابتكار عن قطاع السينما، لكننا نلحظ في المقابل عدم تراجع الإقبال على حضور المباريات الرياضية إلا بعد تجميد الأنشطة الرياضية رسمياً، وهو ما يشير بقوة إلى احتمالية انتعاش هذا القطاع من جديد.

تعرَّف على مختلف التصورات

تستخدم الجيوش النظامية استراتيجية "عيون العدو" لاكتشاف ما لا يعرفونه، حيث يسأل القادة العسكريون أنفسهم: ما الذي يركز عليه العدو؟ ومن ثم يركزون هم عليه لتسليط الضوء على الأمور البعيدة عن الرؤية والتصورات البديلة. يمكن تطبيق الاستراتيجية نفسها على المنافسين في القطاع ذاته: مَنْ يبلى بلاءً حسناً؟ ما القطاعات السوقية التي يركز عليها منافسوك؟ ما المنتجات أو الخدمات التي يطرحونها؟ كما يمكن تطبيق المبدأ نفسه على العملاء: أيُّهم يُظهر سلوكيات جديدة؟ أيُّهم حافظ على ولائه للعلامة التجارية؟ ما الاحتياجات الجديدة التي استحدثتها الأزمة لدى العملاء، وما الذي يركزون عليه؟ بل يمكن تطبيقه على الدول: ما الأنماط التي ظهرت في الصين باعتبارها دولة شهدت تفشي المرض وتعافت منه قبل نظيراتها من دول الغرب؟ اطرح الأسئلة التالية في مؤسستك: ما الابتكارات ذات الصلة بمكان العمل التي تترسخ في الشركات الرائدة؟ ما الاحتياجات الجديدة التي يستجيب لها الموظفون؟ ما الفرص التي تتيحها هذه الاحتياجات ويمكن تطويرها وتنفيذها على نطاق أوسع؟

يمكنك الآن الانتقال إلى الخطوة التالية، ألا وهي صياغة نموذج عملك لاغتنامها مسلحاً بفهم سبل التعرف على الفرص المتاحة أمامك.

إعادة صياغة نموذج عملك

ستتحدد الصيغة الجديدة لنموذج عملك وفق التغيرات الطارئة على العرض والطلب في القطاع الذي تعمل فيه، حيث ستتأثر الكثير من شركات التصنيع، على سبيل المثال، بشدة بالصدمات الهيكلية، وربما الدائمة، التي أصابت تيار العولمة في مقتل نتيجة تفشي الجائحة، فمع قيام الأسواق الكبيرة مثل الولايات المتحدة بزيادة القيود التجارية، على سبيل المثال، ستحتاج الكثير من الشركات إلى معاودة الاستعانة بالمكون المحلي في سلاسل التوريد الخاصة بها، بدايةً من البحث والتطوير وصولاً إلى عمليات التجميع.

ولمعرفة نموذج العمل المناسب للوضع الجديد، عليك أن تطرح أسئلة أساسية حول كيفية إنشاء القيمة وتقديمها، والأطراف التي يمكن أن تبرم معها شراكات حيوية، وعملائك الذين سيشترون منتجك. كمثال على ذلك، لنلق نظرة على الكيفية التي يجب أن تتواءم بها مؤسسات البيع بالتجزئة مع تحول الطلب إلى النظام الرقمي.

هل يمكن الحصول على القيمة التي تقدمها من خلال الإنترنت؟ جرى العرف على قياس القيمة التي يقدمها الكثير من مؤسسات البيع بالتجزئة للعملاء بجودة الخدمات المقدمة داخل المتاجر نفسها. خذ مثلاً شركة مستحضرات التجميل الصينية "لين تشن شيان" (Lin Qingxuan)، فقد انهارت مبيعات متاجرها بنسبة 90% بعد تفشي المرض عندما أُرغمت في الكثير من المواقع على الإغلاق وشهدت في مواقع أخرى انهيار حركة الزبائن في المتاجر، واستجابة لهذه المعضلة، طورت الشركة استراتيجية للتفاعل الرقمي مع العملاء من شأنها أن تحل محل الذهاب إلى المتاجر: وذلك بأن حولت خبراء التجميل داخل متاجر الشركة إلى مؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت. أدى نجاح هذه الخطوة إلى زيادة الاستثمار في القنوات الرقمية، وبفضل هذا التغيير والتغييرات المماثلة، استطاعت مبيعات "لين تشن شيان" المتزايدة على الإنترنت تعويض الانخفاض في مبيعات المتاجر خلال الأزمة، بل وتجاوزها، لا سيما في ووهان التي تعتبر أكثر المدن تضرراً.

ما المنصات التي يجب أن تعمل معها؟ أدى التحول إلى التسوق الرقمي إثر وقوع الجائحة إلى تكثيف اعتماد العملاء والشركات على المنصات الرقمية الكبيرة، مثل "جوجل" و"أمازون" و"آبل" في الغرب و"علي بابا" و"تينسنت" في آسيا، إلى جانب مجموعة جديدة من المنافسين الشرسين مثل "ميتوان" (Meituan) الصينية و"ياندكس" (Yandex) الروسية و"غراب" (Grab) السنغافورية. وستتوقف المساحة التنافسية للشركة على النظام الأساسي الذي تعمل معه على نحو متزايد، ونظراً لأن مؤسسات البيع بالتجزئة تسعى إلى الحصول على مكانة مميزة لنفسها، فسيتعين عليها تعلم العمل مع هذه المنصات لابتكار عروض القيمة الخاصة بها وإعدادها. أدى تحويل "لين تشن شيان" لمساعدي المتاجر إلى مؤثرين عبر الإنترنت، على سبيل المثال، إلى الدخول في شراكة وثيقة مع منصة "علي بابا". يجب أن يقوم اختيار النظام الأساسي للشراكة على قدرته على الإسهام في تطوير القدرات والموارد الرقمية الاستراتيجية التي تحتاجها لتقديم قيمة عبر الإنترنت.

هل يمكنك توسيع مجال التسويق لعملائك؟ توفر الرقمنة مجالاً للشركات المتخصصة في مجال تسويق محدد لتوسيع أسواقها، ربما عبر الحدود أو في القطاعات المتجاورة التي لا تلقى العناية اللازمة في الوقت الحالي. خذ مثلاً حالة شركة "في آي بي كيد" (VIPKid) الصينية، إحدى الشركات المصنفة كشركة يونيكورن (شركة ناشئة تبلغ قيمتها مليار دولار أو أكثر) والتي تربط بين المعلمين في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية والأطفال الصينيين الراغبين في تعلم اللغة الإنجليزية. حيث رأت الشركة فرصة لتوسيع روابطها وتعميقها مع الطلاب في الصين والمعلمين في كلٍّ من الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة، وذلك من خلال التحول من التدريس بشكله التقليدي إلى التدريس عبر الإنترنت. قد تجد الشركات المتخصصة في مجال تسويق محدد في القطاعات الأخرى إمكانية لتقديم عروضها عبر الإنترنت في قطاعات تخدمها بالفعل شركات عملاقة في مجال الخدمات الرقمية، بسبب الحذر الانتقائي تجاه شركات التكنولوجيا الكبرى الذي بات أكثر وضوحاً خلال الأزمة. خذ مثلاً منصة "بوك شوب دوت أورغ" (Bookshop.org) المتخصصة في التوزيع والتي تربط بين المكتبات المستقلة التي تخشى أن تتعرض للاستغلال أو التجاهل من قبل "أمازون"، كما تستفيد شركة "ماي لوكال توكين" (My Local Token) أيضاً من الرغبة في طرح بديل لعمالقة التكنولوجيا الأربعة "بيغ تيك" (Big Tech)، وبالتالي توفير عملة مشفرة تمكّن التجار المحليين من خفض رسوم المعاملات واكتساب ولاء العملاء وتحفيز الشركات الصغيرة. يمكن إطلاق وصف شركات التكنولوجيا البديلة "ألت تيك" (Alt-Tech) على مثل هذه المشاريع التي تتمثل قيمتها الأساسية المقترحة في السير عكس اتجاه مبدأ تعظيم الشبكة الذي تسير عليه عمالقة التكنولوجيا الأربعة.

وتعني الاستجابة للتغير في الطلب بالنسبة للغالبية العظمى من الشركات إجراء بعض التحول الرقمي على الأقل، وربما الكثير منه، وهو ما علَّق عليه ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة "مايكروسوفت"، أواخر أبريل/نيسان، قائلاً: "شهدنا خلال شهرين فقط ما يعادل عامين من التحول الرقمي" بين عملائنا من المؤسسات، وسيتواصل جني ثمار هذه الاستثمارات لفترة طويلة من الزمن بعد انتهاء الأزمة، حيث تأقلم موظفو الشركات في مختلف المجالات على العمل عن بُعد والتعاون عبر مؤتمرات الفيديو، ولسوف تترسخ الكثير من هذه العادات والأنماط كأمر واقع.

بدلاً من اكتناز المال والاكتفاء بالتألم لما قد يصيب قطاعاً معيناً، يجب على الرؤساء التنفيذيين استثمار رؤوس أموالهم بصورة أكثر جرأة.

تفسر هذه العوامل مجتمعة السبب، ففي استقصاء شمل الرؤساء التنفيذيين للشركات المدرجة على قوائم "فورتشن 500"، قال 63% منهم إن أزمة "كوفيد-19" ستؤدي إلى الإسراع بعجلة استثماراتهم التكنولوجية على الرغم من الضغوط المالية، فيما قال 6% فقط منهم إنها ستؤدي إلى إبطائها، ولكن إن أردنا إحداث فارق، فيجب أن تركز استثمارات تكنولوجيا المعلومات على ابتكار نموذج عمل مخصص للتعامل مع الفرص الجديدة، بدلاً من زيادة استخدام التقنيات الرقمية على وجه العموم.

إعادة تخصيص رأسمالك

قد يكون من الصعب نفسياً اتخاذ خطوة كهذه إبان الأزمات بسبب تراجع التدفقات النقدية، ولكن لا يوجد أنسب من هذه اللحظة لاتخاذ بعض المخاطر المدروسة جيداً، فقد أثبتت الأبحاث أن الشركات الأكثر نجاحاً لا تستثمر أكثر من أقرانها في الفرص الجديدة فحسب، بل تضع أيضاً بيضها في عدد أقل من السلال، وتخصص أكثر من 90% من صافي الإنفاق لقطاعات تحقق نمواً وعوائد أعلى، حيث تدرك هذه الشركات أن الأزمات تتيح فرصة مواتية لاحتلال مكانة تنافسية جديدة.

وللأسف لا تزال الكثير من الشركات تتمسك بالعادات التقليدية المتمثلة في توزيع الموارد المالية الجديدة بالتساوي بين مختلف أقسام الشركة، ولجوئها عند الضرورة إلى خفض حجم العمالة بصورة أفقية بدلاً من خفضها بصورة موجَهة، ووفقاً لاستقصاء أُجري بمعرفة "بوسطن كونسلتينغ جروب" (BCG) لعددٍ من الشركات الرائدة، فبدايةً من مايو/أيار 2020 لم يُقدِم سوى 39% فقط من الشركات على تعديل خططها الاستثمارية وتخصيص رؤوس الأموال اللازمة لاستهداف محركات النمو الجديدة، ومن بين هذه الأقلية لم يستثمر سوى نصفها فقط في إعداد نماذج عمل جديدة.

لتجنب هذا الفخ، قيِّم مشاريعك الاستثمارية الرأسمالية على محورين: قيمتها المقدرة غداً بعد مراعاة أثر التغير في الطلب ومقدار الأموال اللازمة لاستمرارها اليوم في ضوء تراجع التدفقات النقدية التشغيلية في كثير من الأحيان. يمكنك القيام بذلك على مستوى وحدة العمل، ولكن يحبَّذ أن تتعمق أكثر لدراسة عمليات أو مبادرات محددة بمزيد من التفصيل، وما إن تنتهي من هذه الخطوة، ستدرك على الأرجح أنك بحاجة إلى إعادة تخصيص استثمارات رأس المال بصورة جذرية.

ويُرجَّح أن تستفيد الشركات الكبرى أكثر من غيرها في بيئة العمل الحالية شريطة قبولها بتحمل بعض المخاطر، حيث ستعزف الأسواق والمؤسسات المالية عن توفير رأس المال للشركات الصغيرة والشركات الناشئة أو ستعجز عنه في الوقت الحالي، وهذا يعني أن الشركات الكبيرة العريقة التي تمتلك تدفقات نقدية قوية نسبياً ومن ثم قدرة أكبر على الوصول إلى رأس المال ستكون في وضع يسمح لها بالاستفادة من الفرص التي يتيحها التغير في الطلب.

لكن يجب أن تكون الشركات الكبيرة على أهبة الاستعداد لتحمل هذه المخاطر، وبدلاً من اكتناز المال والاكتفاء بالتألم لما قد يصيب قطاعاً معيناً أو منطقة جغرافية محددة، يجب على الرؤساء التنفيذيين استثمار رؤوس أموالهم بصورة أكثر جرأة وديناميكية، إذ إن استفحال حالة عدم التيقن يعني عجز المؤسسات عن التنبؤ بدقة بالأنشطة التجارية الواعدة في المستقبل المنظور، وبالتالي فهي بحاجة إلى اتباع نهج تجريبي واتخاذ خطوات محددة لتنويع محافظها الاستثمارية بحيث تشمل مجموعة من الرهانات المحتملة، كما أن سرعة وتيرة التغيير تعني ضرورة تحديث محافظها الاستثمارية بصورة دورية، وإعادة تخصيص الموارد المالية حسب الحاجة مع التأكد من توازنها بمرور الوقت ومواءمتها للأولويات الاستراتيجية طويلة المدى للشركات.

تعتبر "أميركان إكسبرس" مثالاً يُحتذى به في هذا الصدد، فقد تعرضت الشركة لتهديد خطير خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008 بسبب زيادة حالات التخلف عن السداد وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي وضعف الوصول إلى التمويل، فطرحت برنامجاً لإعادة الهيكلة من أجل تبسيط الهيكل التنظيمي والحد من استنزاف السيولة، واقتحمت عالم حفظ الودائع من أجل زيادة رأس المال. أدت هذه التحركات إلى تحرير أموال سائلة أو توليدها وقد وجهتها الشركة بعد ذلك نحو استثمارات طويلة الأجل في شراكات وتقنيات جديدة، بحيث أعادت رسم الصورة الذهنية للشركة كشركة خدمات شاملة مدعومة بمنصة قوية وليست مجرد جهة لإصدار بطاقات الدفع. وهو ما علّق عليه الرئيس التنفيذي آنذاك، كين تشينولت، قائلاً: "على الرغم من خفضنا لنفقات التشغيل، فقد واصلنا تمويل مبادرات النمو الرئيسية". ونتيجة لذلك، نمت القيمة السوقية لشركة "أميركان إكسبرس" بأكثر من 10 أضعاف بعد الأزمة.

من السهل أن تتمسك المؤسسات بالعادات القديمة إبان الأزمات، ولكن هذه هي الأوقات التي تزداد فيها قيمة المنهجيات الجديدة، ونظراً لأن الشركات تهيئ نفسها للتأقلم مع الأوضاع المستجدة، فلن تستطيع تحمل قيود مصادر المعلومات ونماذج العمل التقليدية والسلوكيات المعتادة لتخصيص رأس المال، بل يجب عليها بدلاً من ذلك تسليط الضوء على أوجه الخلل وتحدي النماذج العقلية وتطوير نماذج عملها، وإعادة تقييم فرص نموها، واستثمار رؤوس أموالها بشكل ديناميكي ليس فقط للنجاة من الأزمة ولكن أيضاً للازدهار في عالم ما بعد الأزمة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي