على الرغم من كثرة الأزمات الحديثة بكافة أشكالها، وما يرافقها عادة من ضغوطات حرجة على المؤسسات لاتخاذ إجراءات تقشفية قاسية لخفض وترشيد النفقات، إلا أن المثير للاهتمام أن الأدب الإداري ما زال يفتقر للأطر المؤسسيّة الواضحة لإدارة عمليات التقشف (Austerity Management) لمساعدة المؤسسات على ترشيد قراراتها وتمكينها من تجاوز تلك الظروف الاستثنائية بأعلى مستوى من الفاعلية، أو بأضعف تقدير، تجنب أقل الخسائر. لذا، يأتي هذه المقال ليؤسس للقواعد الأساسية والإطار العام الذي يمكن أن يساعد المؤسسات على اختلاف أنواعها في ضبط عملية إدارة التقشف أثناء الظروف العاصفة التي تواجهها وبالشكل الذي يتم فيه الحفاظ على رأسمالها البشري.
الموارد البشرية وإدارة سياسات التقشف
يعتبر المورد البشري من أهم عناصر الإنتاج لدى المؤسسات، فهو المحرك الرئيس لها جميعاً. لذا، يُفترض بالمؤسسات المتأثرة بالأزمات عند اتخاذها لأي إجراءات تقشفية أن تتجنب الاقتطاع من رواتب وبدلات العاملين لديها أو الاستغناء عنهم قدر الإمكان، فكما أشار كريسبيان فولر من جامعة كادريف (Cardiff University) في ورقة بحثية له حول إدارة المدن في عصر التقشف (City government in an age of austerity) نُشرت في عام (2017): إلى أنه (على أقل تقدير، على المؤسسات أن تتجنب أن يكون الاقتطاع من مرتبات العاملين لديها أول الحلول، بل يكون فقط ملاذها الأخير). وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي خلفتها جائحة مرض "كوفيد-19"، إلا أن العديد من الشركات حول العالم مثل "إيجيان بينتس" (Asian Paints) و"جونسون آند جونسون" (Johnson & Johnson) قد صمدت بقوة وتجنبت الاقتطاع من رواتب العاملين ومنافعهم، واستمرت بمنح الترقيات والزيادات لموظفيها، باعتبار أنهم في أمس الحاجة للدعم المادي والمعنوي في هذه الظروف الحرجة.
وفي المقابل، هناك شركات عالمية قامت بالفعل بالاستغناء عن أعداد كبيرة من عامليها، أو أعلنت أنها بصدد القيام بذلك ابتداء من شهر أبريل/ نيسان وحتى شهر يونيو/ حزيران 2020، مثل "الخطوط الجوية البريطانية" (British Airways) التي سرّحت نحو 12 ألف موظف من أصل 42 ألف موظف لديها، وشركة "راين إير" (Ryanair) الإيرلندية التي سرحت 15% من عامليها، وغيرها الكثير من الشركات العالمية. والمثير هنا، أن الدراسات التي تتبعت أداء المؤسسات التي انتهجت برامج تخفيض العمالة لديها أثبتت أن أداءها لم يتفوق البتة على أداء المؤسسات التي لم تقم بذلك.
وعندما يكون الاقتطاع من رواتب الموظفين وبدلاتهم ضرورة لا يمكن تفاديها، فإنه لدى الإدارة خيارات عدة للقيام بذلك بطرق مختلفة وأكثر رشداً. ومن هذه الطرق :
1- تشجيع خيار التقاعد المبكر، وهو ما فعلته شركة "جنرال موتورز" الأميركية.
2- تستطيع المؤسسات أيضاً تقديم خيار الإجازات غير مدفوعة الأجر أو المدفوعة جزئياً كما فعلت "شركة تايوان تي إس إم سي لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) والتي كانت تشغل 23 ألف عامل، فبعد تجاوز الظرف المالي الحرج الذي واجهته سنة 2009 والعودة للوضع الطبيعي، حققت نتائج مبهرة ونسبة تشغيل فاقت بكثير ما كان عليه الحال قبل الأزمة.
3- يمكن للمؤسسات إجراء تعديلات على أنظمة الحوافز بحيث يتم ربطها بمدى قدرة العاملين واللجان والوحدات المختلفة على توفير وخفض النفقات عند أداء الأعمال مع وقف الزيادات السنوية لفترة مؤقتة ومكافأة الموظفين المبدعين، وهو برنامج طبقته هيئة الحوافز والإنتاجية في ولاية تكساس (TIPC) ونال حظاً وافراً من النجاح. ولنا أيضا بالتجربة النيوزلندية خير مثال، عندما استحدثت الحكومة نظاماً يربط مقدار الخفض في النفقات أو زيادة العوائد التي يحققها المدراء العامون بقرار تجديد عقودهم سنوياً.
في جميع الأحوال، يجب ألا يغيب عن الذهن أنه عادة ما يكون لدى الإدارة خيارات متعددة للتوظيف المرن والعمل عن بعد أو العمل الجزئي أو العمل الموسمي أو تقديم خدمات محددة حسب الحاجة أو مزيج من بعضها أو كلها، مع الحرص على قيام الإدارة بذلك بطريقة ممنهجة ومدروسة وبالاتفاق والتوافق مع عامليها.
4- يمكن للمؤسسات أن تجمّد عمليات التوظيف لديها، وتركز على الاستفادة القصوى مما يتوفر لديها من الموارد البشرية وتمكينها وتدريبها وإعادة تدويرها وتوزيعها بما يتناسب والظرف الحرج الذي تمر فيه.
نود الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من أن استراتيجية الدفاع هي الاستراتيجية الأمثل وقت الأزمات، إلا أن اتباع المؤسسة لهذه الاستراتيجية هو سلوك إداري ولا يمكن اعتباره قيادياً. فهناك قادة أذكياء وجدوا الأزمات سانحة لاستقطاب بعض العاملين الذين استغنى عنهم منافسوهم للعمل في مؤسساتهم، ومثال ذلك قيام رجل الأعمال الأردني زياد المناصير، الرئيس التنفيذي لـ "مجموعة المناصير"، بتوظيف 2,600 موظف في شركاته خلال الأزمة المالية العالمية عام 2009، وكانوا من الكفاءات التي استغنت عنها شركاتهم خلال تلك الأزمة. هنا، يمكننا أن نتصور النظرة الإيجابية لتلك المؤسسة بعيون عامليها ومجتمعها مقارنة بغيرها من المؤسسات التي قامت بالتضحية بهم والتخلي عنهم عند أول منعطف.
توفر المهارات القيادية للمدراء ضرورة لإدارة التقشف
الظروف الاستثنائية تحتاج لمهارات قيادية استثنائية أيضاً، إلى جانب المهارات الإدارية الاعتيادية. فمثلاً في حالة الاقتطاع من مرتبات الموظفين، فعادة ما يهتم "المدير" بمبدأ المساواة بين العاملين بالاقتطاع بصرف النظر عن اختلاف فئاتهم، وعن مدى تأثر كل فئة بالاقتطاع، ومدى قدرة كل فئة على تحمّله. فالمدير بهذا الوصف، لا يميّز كثيراً الوحدات الأكثر إنتاجية من غيرها، مما لا يحقق مبدأ العدالة كما يفعل "القائد" وذلك حسبما يراه كل من آيدان كيلي المحاضر في جامعة إيست لندن، ورينغا رودلا (Ringa Raudla) وزملاؤها من جامعة تالين للتكنولوجيا في إستونيا، فتشعر هذه الفئات بالظلم الناتج عن مساواتها بغيرها.
لهذا، وكما يذكر لنا واين كاسيو في مقالته "إدارة عمليات التقليص" أنه عندما واجهت شركة "إجيلينت تكنولوجيز" (Agilent Technologies) ظروف انفصالها القاسية عن شركة "هيوليت-باكارد" (آتش بي) (Hewlett-Packard) واضطرت للاستغناء عن بعض موظفيها من خلال خطة محكمة (وكآخر الحلول، وبعد ثبوت عدم جدوى الحلول الأخرى)، قررت أن هذه العملية لا يجب أن تتم بشكل متساو دون دراسة واقع وحدات الشركة، ما أدى إلى نجاحها الملموس بتجاوز الأزمة.
وعادة ما يركز المدراء على تقليص النفقات كماً ورقماً أكثر منه نوعاً وقيمة وتأثيراً. كما أنهم يبدون اهتماماً أكثر بالتفاصيل، ووضع الخطط المرحلية قصيرة المدى أكثر من اهتمامهم بالتخطيط الاستراتيجي، والرؤى الاستشرافية بعيدة المدى كما يفعل القادة. وفي جميع الأحوال، على المدراء أن يتصرفون كقادة خاصة بالظروف الاستثنائية. فعندما يكون الاقتطاع من رواتب وبدلات العاملين أمراً لا مفر منه، فالأصل أن يساوون أنفسهم ببقية العاملين وذلك على أقل تقدير.
إلا أنه يمكنهم أن يتصرفون بأكثر من ذلك، فيبدؤون الاقتطاع من مرتباتهم وبدلاتهم أولاً ليكونوا قدوة لغيرهم، بل ربما أكثر بكثير مما يقررون اقتطاعه من بقية الشرائح الأخرى. لقد قالها مهاتما غاندي للناس في كفاحه من أجل استقلال الهند ذات مرة: (إذا واجهنا المجاعة، كونوا على يقين أننا سنأكل بعد أن تأكلون).
ويعتبر لي أياكوكا مثالاً آخر على ذلك. فقد شغل أياكوكا منصب رئيس شركة "فورد" طيلة 30 عاماً لكنه طُرد من الشركة عام 1978 بعد أن اختلف مع مالكها هنري فورد نتيجة لأفكاره غير التقليدية. وقبل نهاية سبعينيات القرن الماضي، كانت شركة "كرايسلر" (Chrysler) تقترب من الإفلاس التام، فاستقطبته ليتولى منصب المدير التنفيذي لها. كانت الشركة توظف حوالي 650 ألف عامل، وكانوا جميعاً يتهدّدهم المصير المجهول من فقدان وظائفهم حال وصلت الشركة إلى الانهيار. كان أول قرار اتخذه "أياكوكا" فور توليه قيادة الشركة أن جعل راتبه دولاراً واحداً فقط، بينما كان مرتبه 360 ألف دولار، وعندما كان بحاجة لقرض كبير لإنقاذ الشركة، في الوقت الذي امتنعت البنوك التجارية عن اقراضه، فكر بطريقة ذكية، فخاطب الكونغرس الأميركي لأخذ قرض قيمته مليار ونصف دولار أو أن يجدوا 650 ألف عامل بالشركة عاطلاً عن العمل! حصل الرجل على القرض، وبدأ بإعادة بناء الشركة من أساسها باختصار النفقات غير الضرورية وتركيز الاهتمام بالعاملين بمنطقة الهجوم بساحات معركة الشركة، فكان ينصت جيداً لنصائحهم، وتخلص من طبقة المدراء المترفة بالمواقع العليا من الذين كانوا عبئاً على الشركة.
جعل هذا الرجل نفسه قدوة لغيره من العاملين الذين أظهروا استعدادهم للتضحية بالتنازل عن بعض امتيازاتهم، فطلب بعضهم إجازات غير مدفوعة الأجر بناء على رغبتهم.
أخيراً كانت النتيجة أن الرجل استطاع إنقاذ شركته من الإفلاس وأحياها من جديد واستطاع تسديد جميع ديونه في أقل من خمس سنوات، محافظاً على أهم موظفيه.
السياسات التقشفية الناجحة
جرى العرف لدى كثير من المؤسسات باختلاف أشكالها، وحال مواجهتها لظروف استثنائية طارئة، أن تنتهج سياسات وإجراءات وخطط تقشفية قصيرة المدى وعلى رأسها تسريح العاملين أو الاقتطاع المباشر من مرتباتهم وامتيازاتهم، بيد أن قلة قليلة من المؤسسات التي تعتمد إجراءات أكثر رشداً وفاعلية على المدى البعيد، تستطيع من خلالها المحافظة على أهم مواردها على الاطلاق وهو رأسمالها البشري.
والحقيقة أن مدى نجاح المؤسسات يقاس بمدى قدرتها على الاحتفاظ بمواردها البشرية خاصة في ظل الظروف العصيبة مثل الأزمات. وغير ذلك، فإن المؤسسات التي تلجأ لجيوب عامليها كحل أولي توصف بعجزها وضيق أفقها وضعف الثقة بها وبقدرتها على التفكير بحلول أخرى خلاّقة خارج الصندوق. وعلى بالرغم من حقيقة أن الأزمات، وإن طالت، مصيرها للزوال، إلا أنها تعد اختباراً حقيقياً للمؤسسة وبقدرة إدارتها على قيادة دفة السفينة لبر الأمان.
بالمحصلة النهائية، التغيير هو سمة الحياة، إلا أن القضية ليست بالتغيير نفسه، ولا بالإجراءات التقشفية التي تتخذها إدارة المؤسسة، بل بكيفية إدارة التقشف الإدارة الناجعة. فمن سمات الأزمة أنها تضرب بعمق أحيانا، لكنها حتماً سترحل في نهاية المطاف، وستصبح يوماً ما تاريخاً مضى وجزءاً من ذاكرة المؤسسة التنظيمية، فإن أحسنت إدارتها، تذكرها الكل بالخير وتعلقت بأذهانهم كتجربة إيجابية لأبعد مدى، والعكس صحيح، فيمكن أن تترك آثاراً نفسية مدمرة على كل من مروا بها فيصعب عليهم نسيانها، وقد يمتد أثرها للمدى البعيد.