تقسيم المشاريع العملاقة إلى وحدات تجميعية

15 دقيقة
المشاريع الضخمة

يؤدي كل من التصميم القابل للتكرار والسرعة في التكرار إلى تخفيض التكاليف والمخاطر، ويساعدان على تحقيق العائدات على نحو أسرع.

تفكر قطاعات كثيرة في إجراء تغييرات كبيرة في التكنولوجيا والبنية التحتية الأساسية، ويساهم التغير المناخي في تسريع الوتيرة بدرجة كبيرة. وقد أفسحت مولدات الطاقة التي كانت تعمل بالنفط والفحم واستخدمناها على مدى القرن الماضي المجال لمزارع توليد طاقة الرياح ومنظومات توليد الطاقة الشمسية، ومن المحتمل أن تصبح السيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري وشبكات محطات الغاز جزءاً من التاريخ قريباً. ستصبح استثمارات رؤوس الأموال الضخمة ضرورية في جميع القطاعات تقريباً، وستترافق مع مخاطر كبيرة.

أجريتُ أبحاثاً وقدمت استشارات حول المشاريع الضخمة على مدى ما يزيد على 30 عاماً وتوصلت إلى عاملين لهما دور حاسم في نجاح المؤسسة أو فشلها: تقسيم المشروعات إلى وحدات تجميعية قابل للتكرار والسرعة في التكرار. إذا كان بالإمكان تسليم المشروع بسرعة وعلى هيئة وحدات تجميعية، مع إتاحة التجريب والتعلم في أثناء العمل عليه، فعلى الأرجح أنه سينجح. أما إذا تم إجراؤه لمرة واحدة على نطاق واسع وتم العمل عليه مع مكونات متكاملة بدرجة كبيرة تستخدم لمرة واحدة فعلى الأرجح أنه سيواجه بعض الاضطرابات أو سيبوء بالفشل.

من المؤسف أنه في المشاريع الضخمة التقليدية التي تقوم بها الشركات والحكومات، كالسدود الكهرومائية أو معامل المعالجة الكيميائية أو صناعة الطائرات أو الأنظمة الثورية لتخطيط موارد الشركات، لا تزال القاعدة هي بناء كلٍّ موحّد بتصميم مخصّص. ويجب أن يكتمل المشروع بنسبة 100% كي يحقق الفوائد؛ حتى وإن كان قد اكتمل بنسبة 95%، فلن يكون المفاعل النووي ذا فائدة.  تكون المكونات عادة مفصلة حسب الطلب بدرجة عالية من التحديد بدلاً من أن يكون التصميم قائماً على الوحدات التجميعية، ما يحدّ من فرص التعلم ويزيد تكاليف التكامل والإصلاح عند ظهور المشكلات. أصبحت التكنولوجيا والتصاميم المخصصة الجديدة شائعة ولكنها تعيق السرعة والتوسع في الوحدات التجميعية، أضف إلى ذلك أن حجم المشاريع الضخمة يكون محدداً عادة قبل عدة أعوام من تحديد عمليات بدء تنفيذها، ويؤدي ذلك إلى كارثة إذا تم بناء قدرة أكبر مما يلزم أو إذا كان الطلب على الخدمة أكبر من المتوقع ولا يمكن إضافة قدرة إضافية لتلبيته. خذ مثلاً نفق المانش الذي يصل بين فرنسا والمملكة المتحدة مثلاً، فسكته الحديدية تتمتع بقدرة ثابتة، ولأن استخدام النفق لا يكاد يصل إلى نصف معدل الاستخدام المتوقع فقدرته الهائلة والمكلفة مهدورة فعلياً، وبالتالي أصبح هذا الاستثمار نكبة مالية. (انظر إلى الشريط الجانبي: "نفق المانش: عندما يتحول النجاح إلى كارثة")

قد لا تكون تجاوزات التكاليف المقدرة هامة بالنسبة لشركة كبيرة متعددة الجنسيات تفكر في مشروع تصل قيمته إلى 10 ملايين دولار، مثل "بي بي" (BP) أو "تسلا". في هذه الشركات لن يتأثر صافي المبيعات بزيادة مبلغ 10 ملايين دولار على الميزانية، ولكن عندما تبدأ الميزانية المقدّرة بمبلغ 10 مليارات دولار تكون المخاطر أعلى بكثير حتى بالنسبة للحكومات. ولذلك تتبنى المؤسسات الذكية عمليات وحلولاً تكنولوجية قائمة على الوحدات التجميعية والتعلم السريع ولا تحتاج إلى عمليات إصلاح معقدة عند حدوث المشكلات.

سيبدو ذلك مألوفاً ومنطقياً بالنسبة لرواد الأعمال الذين يعملون في قطاع التكنولوجيا، لكن الشركات الكبيرة والحكومات لم تستوعب هذه الدروس بعد بالنسبة للمشاريع الضخمة. بالتأكيد لن يكون كثير من المشاريع الضخمة معتمداً على الوحدات التجميعية بالكامل، مثل الجسور ومحطات توليد الطاقة، لكن لا يزال المجال كبيراً لاختيار الحلول التكنولوجية التي تتيح التوسع السريع وإدخال مفهوم الوحدات التجميعية عن طريق تطبيق تكنولوجيا مجربة ومثبتة بطرق ابتكارية. فلنبدأ بالتفكير في العوامل التي تتيح توسيع المشاريع بسرعة.

ما أهمية السرعة والنهج القائم على الوحدات التجميعية؟

السرعة مهمة لنجاح المشاريع الضخمة لأن الجداول الزمنية المطولة تترافق مع تزايد المخاطر والغموض. أجرى الأستاذ في كلية وارتون، فيليب تيتلوك أبحاثاً على مدى عدة عقود من الزمن أكدت له أنه بالنسبة لأحداث معينة، مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي وسياسات الاقتصاد الكلي والدورات الاقتصادية والتطورات التكنولوجية والنزاعات الجيوسياسية، يمكن للإنسان توقع أحداث معينة بدرجة من الدقة على مدى فترات تصل إلى عام واحد، لكن بعد ذلك تتناقص الدقة بسرعة لتتلاشى في ضباب العشوائية بعد فترة زمنية تتراوح بين 3 و5 أعوام.

لربما كانت تقديرات تيتلوك هذه شديدة التفاؤل، فقد توصل إليها بناء على عمل أمهر خبراء التوقعات، والتوقعات التي عمل على دراستها مبسطة ضمن إطار أسئلة ثنائية الجواب، أي يمكن الإجابة عنها بـ "نعم" أو "لا"، مثل: "هل ستنسحب أي دولة من منطقة اليورو في العام المقبل؟" أو "هل ستفجر كوريا الشمالية جهازاً نووياً قبل نهاية هذا العام؟" لكن معظم خبراء التوقعات على أرض الواقع لا يواجهون أسئلة كهذه، بل يواجهون أسئلة تشمل أجوبتها مجموعة واسعة من النتائج المحتملة، مثلاً: "ما هو عدد الوفيات المتوقع نتيجة لكوفيد-19 على مدى العام المقبل؟" أو "ما هي الكلفة المتوقعة لنظام القطارات السريعة في ولاية كاليفورنيا؟" الإجابة عن الأسئلة بـ "نعم" أو "لا" فقط أسهل من الإجابة عن أسئلة لها عدة أجوبة محتملة، لكن الأخيرة هي الأكثر شيوعاً فعلياً.

لطالما فهم رواد الأعمال والخبراء الماليون في وادي السيليكون أهمية السرعة، فهم يتنافسون في أسواق يستحوذ الرابح عليها بأكملها، ولذلك تركز المشاريع الجديدة في قطاع التكنولوجيا بشدة على تطوير منتج الحد الأدنى (MVP) في عامها الأول وإثبات نفسها كشركة رائدة في السوق في غضون ما بين 3 و5 أعوام. يطلق الشريك المؤسس لشركة "لينكد إن" ريد هوفمان على هذه العملية "التوسع الخاطف"، ويقول إن الشركات الحديثة ذات النمو السريع هي التي جعلت وادي السيليكون يتميز عن بيئات العمل التكنولوجية الأخرى، وليس الشركات الناشئة.

لكن السرعة ليست سوى نصف المعادلة، والنصف الآخر يحدده رئيس شركة ألفابت ورئيسها التنفيذي السابق إيريك شميت، ونائب الرئيس الأول السابق للمنتجات في شركة "جوجل" جوناثان روزنبرغ؛ اشحن وكرر. يقولان في نصيحتهما: "اصنع منتجاً واشحنه للبيع وراقب مدى نجاحه وصمم التحسينات وطبقها عليه واشحنه للبيع مجدداً، والشركات التي تقوم بهذه العملية على نحو أسرع هي التي ستنجح".

يضمن التكرار أن تتحسن جودة المنتج مع الاستمرار بإنتاجه. وضح الأستاذان المتقاعدان في كلية هارفارد للأعمال كارليس بالدوين وكيم كلارك على مدى العقدين الماضيين أن التكرار يتيح التعلم عن طريق خلق حلقة ملاحظات وتقييم، فالخبرة الناتجة عن إنتاج وحدة واحدة تؤدي إلى تحسين إنتاج الوحدة التالية بصورة متكررة. كما أن التكرار يتيح المجال للتجريب، وبدلاً من العمل بالقدرة القصوى فوراً، تقوم بتجريب بعض الوحدات وتحسين الوحدات التجميعية التالية وتكرر العملية إلى أن تتقن الإنتاج، وعندئذ يمكنك العمل بالقدرة القصوى. من السهل أن تلاحظ مساهمة السرعة في هذه العملية، فكلما ازدادت سرعة التكرار ازداد مقدار ما تتعلمه وتمكنت من تخفيض التكاليف ورفع الأمان والإنتاجية بدرجة أكبر.

يجيد الإنسان بطبيعته التجريب والتعلم، ولهذا السبب تزداد احتمالات نجاح المشاريع القائمة على الوحدات التجميعية التكرارية مقارنة بتلك التي تعتمد على التخطيط والتوقع طويل المدى، لأن الإنسان بطبيعته لا يجيد ذلك.

فلنلق نظرة على مشروع عملاق يلخص فكرة التوسع الذكي.

غيغا نيفادا (Giga Nevada): التوسع بطريقة ذكية

أحد مصانع شركة "تسلا" الذي يسمى مصنع "غيغا نيفادا" أو "غيغا 1" (Gigafactory 1) هو مصنع قيد الإنشاء بقيمة 5 مليارات دولار لبطاريات الليثيوم أيون ذات التكنولوجيا الفائقة في شرق مدينة رينو. يتمثل الهدف من المشروع الضخم في جعل السيارات الكهربائية وأنظمة الطاقة المنزلية ميسورة التكلفة أكثر عن طريق إنتاج البطاريات على نطاق غير مسبوق. إذا اكتمل المشروع كما هو مخطط له فسيكون مصنع "غيغا 1" هو الأكبر في العالم بمساحته التي تبلغ نصف مليون متر مربع، أو ما يعادل 170 ملعب كرة قدم.

يعتمد تصميم المبنى على الوحدات التجميعية. في البداية، حددت شركة "تسلا" منشأة أو "مجمع" لإنتاج منتج الحدّ الأدنى يمكن البدء بتشغيلها ما أن يكتمل بناؤها والتعلم منها لبناء مزيد من المجمعات. بدأ بناء مصنع "غيغا 1" في أواخر عام 2014، وبحلول الربع الثالث من عام 2015 اكتمل بناء الجزء الأول وبدأ بإنتاج نظام "تسلا باور وول" (Tesla Powerwall) لتخزين الطاقة المنزلية. في شهر يوليو/تموز احتفلت شركة "تسلا" بالافتتاح الكبير للمصنع مع إتمام 3 مجمعات من أصل 21 مجمعاً أي ما يعادل نسبة 14% من الحجم الكلي المتوقع. بدأ إنتاج خلايا البطاريات بكميات كبيرة في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2017، أي بعد بدء المشروع بعامين ونيف. هذه الوتيرة أسرع كثيراً من الوتيرة الشائعة في المشاريع من هذا الحجم، حيث تبدأ العمليات عادة بعد 5 أو 7 أعوام من بدء التشييد. في عام 2014، كانت القدرة المستهدفة لمصنع "غيغا 1" تقدر بنحو 35 غيغا واط في الساعة سنوياً، لكن بدا أن هذه القدرة قد تحققت حتى قبل أن يكتمل بناء المصنع، ما يشير إلى أن الشركة تعلمت الكثير في أثناء عمليتي البناء والتصنيع.

جنت شركة "تسلا" ميزتين هائلتين من تركيزها على السرعة؛ الأولى هي أن الشركة خفّضت مخاطر تجاوز التكاليف المقدرة التي تتضخم كلما طالت مدة جدول العمل، والثانية هي أنها بدأت بتوليد الربح في غضون عام من قرارها ببدء تنفيذ المشروع، وهذا الوقت أقصر بكثير من الوقت الذي كان سيستغرقه توليد الربح لو أنها اتبعت النهج التقليدي المتبع في تنفيذ المشاريع الضخمة. هاتان الميزتان حاسمتان في الشركات سريعة النمو التي لا يمكنها تحمّل ارتباط أموالها بمشاريع البناء عالية الخطورة وبطيئة الحركة.

وللأسف نرى أن نتائج المشاريع الضخمة التقليدية مغايرة.

محطة "مونجو" (Monju) ومشكلة التعلم السلبي

محطة "مونجو" اليابانية للطاقة النووية هي نموذج أولي لمفاعل استنسال (توليد) سريع، وكانت أول محطة من نوعها تخصص للاستخدام التجاري. سميت المحطة على اسم إله الحكمة البوذي، وكان من المفترض أن تصبح حجر الزاوية لبرنامج وطني له أولوية قصوى لإعادة استخدام الوقود النووي وإنتاجه في نهاية المطاف في دولة لا تملك مصادر للطاقة.

كان تصميم المحطة مخصصاً بالكامل؛ تم إنشاء كل جزء ومكون وإنتاجه لاستخدام واحد ولتطبيق تكنولوجيا متطورة متميزة. بدأ البناء في عام 1986، وتم تحقيق الحرجية النووية الأولى (أي تفاعل الانشطار المتسلسل المستمر) في الموعد المحدد بعد 8 أعوام في عام 1994. ثم بدأت عمليات الاختبار وتبعها التدشين في شهر أغسطس/آب من عام 1995. في شهر ديسمبر/كانون الأول من نفس العام أدى حريق هائل إلى إغلاق المنشأة وتأخير تشغيلها لمدة 5 أعوام، ودام التأخير مدة أطول نتيجة لاكتشاف مزيد من المشكلات. لم يبدأ التشغيل التجريبي إلا بحلول عام 2010، وبعدها بفترة قصيرة سقطت آلة لتعبئة الوقود تزن 3 أطنان في حوض المفاعل واستغرق إخراجها منه نحو العام.

وبعد ظهور مزيد من المشكلات واكتشاف عيوب جسيمة في الصيانة، صدر في عام 2013 أمر بإيقاف أعمال تحضير مفاعل محطة "مونجو" لإعادة استخدامه في أغراض تجارية. أعلنت هيئة التنظيم النووي أن مشغّل محطة "مونجو" غير مؤهل لتشغيل المفاعل، وفي شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2016 أغلقت الحكومة المحطة بصورة نهائية.

بعد أكثر من 30 عاماً وإنفاق 12 مليار دولار، يُقال إن محطة "مونجو" ولّدت الكهرباء لمدة ساعة واحدة فقط خلال حياتها التي استمرت 22 عاماً، ومن المتوقع أن يستغرق إيقاف التشغيل 30 عاماً أخرى، أي حتى عام 2047، بتكلفة إضافية تبلغ 3.4 مليار دولار. إذا كنت تعتبر التجارب السابقة دروساً تتعلم منها، فيجب أن تعلم أن هذه الأرقام متفائلة جداً، ومن شبه المؤكد حدوث تأخيرات إضافية وتجاوز للتكلفة المقدرة. على أقل تقدير، سينتهي المطاف بمشروع محطة "مونجو" مدته 60 عاماً بتكلفة 15 مليار دولار بدون فوائد أو بفوائد سلبية. مشروع "مونجو" ليس وحيداً وإنما هو أحد أوضح الأمثلة.

إن التباين بين مشروع "مونجو" ومشروع شركة "تسلا" شديد للغاية، إذ لا يمكن مقارنة أي عنصر في تصميم محطة "مونجو" مع وحدات الإنتاج التجميعية القابلة للتكرار في مصنع "غيغا 1" حيث كان التعلم مستمراً وأصبح التوسع أفضل وأسرع مع مرور الوقت، في حين تم إنجاز كل شيء في مشروع "مونجو" دفعة واحدة وبتعقيد هائل وأدى ذلك إلى خلق ظاهرة يسميها خبراء العمليات "التعلم السلبي" التي تتمثل في أن التعلم يجعل التقدم بطيئاً بدلاً من أن يزيد سرعته؛ كلما تعلم فريق مشروع "مونجو" أكثر ازدادت العقبات والأعمال الإضافية الضرورية المترافقة معها.

كما هو حال مشروع "مونجو"، يصعب تفكيك كثير من المشاريع الضخمة إلى وحدات قابلة للتكرار السريع من أجل التعلم والتحسين، فبمجرد حفر حفرة في الأرض مثلاً يبدو توقع ما سيحدث غير ممكن وتتباطأ الأمور وتزداد تفاصيلها، لكن الصعب ليس مستحيلاً. في أي مشروع تقريباً، يمكن جعل أجزاء كبيرة من العمل قابلة للتكرار ما يتيح مجالاً أكبر لتحويل التعلم السلبي إلى إيجابي حتى في المشاريع الأقل قابلية للتوسع. الأمر ليس خياراً بين أمرين؛ قابل للتوسع أم لا، بل هو زيادة قابلية المشروع للتوسع بأقصى درجة ممكنة، وحتى لو كان غير قابل للتوسع.

لنأخذ مثالاً آخر.

مترو مدريد متعدد الوحدات التجميعية

يفهم مانويل ميليس ماينار أهمية قابلية التوسع، وهو مهندس مدني محنّك ورئيس مؤسسة "مترو مدريد" وكان مسؤولاً عن إحدى أكبر عمليات توسيع شبكة مترو الأنفاق وأسرعها في التاريخ. يعتبر بناء شبكة أنفاق المترو عموماً عملية تقليدية بطيئة بطبيعتها، وقد تستغرق 10 أعوام بكل بساطة بداية من اتخاذ قرار الاستثمار في خط جديد وحتى بدء سير القطارات فيها، كما كان حال بناء "الطريق الدائري لمدينة كوبنهاغن" مؤخراً، وهذا إذا لم تواجه العملية أي مشكلة، وإلا فسيستمر العمل ما بين 15 و20 عاماً كما حدث في بناء خط فيكتوريا بمدينة لندن. عرف ميليس أنه لا بد من وجود طريقة أفضل، وتمكن من اكتشافها.

بدأ توسيع شبكة مترو الأنفاق في مدينة مدريد عام 1995 وأنجز على مرحلتين استغرقت كل منهما 4 أعوام فقط بفضل نهج ميليس الثوري في حفر الأنفاق وبناء المحطات (من عام 1995 إلى عام 1999 تم إنشاء سكة حديدية بطول 56 كيلومتراً تمر على 37 محطة، ومن عام 1999 إلى عام 2003 تم إنشاء سكة حديدية بطول 75 كيلومتراً تمرّ من 93 محطة). من منظور إدارة المشاريع، هذه التجربة مغايرة بدرجة كبيرة لتجربة بناء نفق المانش الذي كلّف مستثمريه مبالغ باهظة جداً. أتى نجاح ميليس نتيجة لتطبيق 3 قواعد أساسية على تصميم المشروع وإدارته:

لا معالم معمارية. قرر ميليس أنه لن يضيف بصمته المعمارية الخاصة على المحطات لتصبح معالم معمارية بتوقيعه، على الرغم من أن هذا النوع من التجميل والزخرفة شائع ونرى في بعض الأحيان أن المهندس يضيف بصمة معمارية مختلفة في كل محطة يبنيها (مثل المحطات في مدن ستوكهولم وموسكو ونابولي وخط جوبيلي في لندن). لكن ميليس يعرف أن البصمة المعمارية معروفة بأنها تسبب تأخير العمل وتجاوز تكاليفه المقدرة، فلم يجلب المتاعب لنفسه؟ قرر أن يبني جميع المحطات بنفس التصميم التجميعي المعتمد على الوحدات التجميعية ويستخدم أساليب "القطع والتغطية" التي ثبتت فعاليتها في البناء، ما يتيح التكرار والتعلم من محطة إلى أخرى مع توسع خط المترو.

لا تكنولوجيا جديدة. تجنب ميليس استخدام تقنيات البناء والتصميمات والقاطرات الجديدة في المشروع، ومجدداً، هذه العقلية تعاكس طباع معظم خبراء تخطيط أنفاق المترو الذين يفتخرون عادة بتقديم أحدث أنظمة الإشارات والقطارات ذاتية القيادة وما إلى ذلك. أدرك ميليس أن تطوير المنتجات الجديدة هو أحد أخطر الأعمال التي تقوم بها أي مؤسسة، وهذا يشمل مؤسسته، ولم يرغب في أي من ذلك. لم يهتم سوى بما يؤدي الغرض المطلوب وما يمكن إنجازه بسرعة وبأقل التكاليف وبأقصى درجة من الأمان وأعلى مستوى من الجودة، فاستعان بالمنتجات والعمليات المتاحة المجربة المثبتة ودمَجها بطرق جديدة. هل يبدو ذلك مألوفاً؟ يجب أن يبدو كذلك؛ فهذه هي الطريقة التي تتبعها شركة "آبل" للابتكار بنجاح كبير.

السرعة. أدرك ميليس أن الوقت كالنافذة، كلما ازداد حجمها ازدادت الأشياء السيئة التي يمكن أن تدخل من خلالها، ومنها الأحداث الكارثية غير المتوقعة أو ما يسمى ظاهرة "البجعة السوداء". فكر ملياً وطويلاً في طريقة لجعل هذه النافذة أصغر بكثير عن طريق تنظيم عمل حفر الأنفاق على نحو يتيح إنجازه بسرعة. عادة، تستعين المدن بآلة أو آلتين لحفر نفق المترو، لكن ميليس قام بحساب المسافة المثلى التي يمكن لآلة حفر الأنفاق وفريق العمل عليها حفرها من النفق، والتي تبلغ عادة 6 كيلومترات وتستغرق مدة تتراوح بين 200 و400 يوم، وقسّم الطول الكلي للنفق الذي يجب حفره على ذاك الرقم، ثم وظف عدداً من الآلات والفرق اللازمة لإنجاز العمل وفقاً لجدول المواعيد. استخدم في بعض الأحيان نحو 6 آلات في وقت واحد، وكان أول من يقوم بذلك. كانت وحدته التجميعية عبارة عن المسافة المثلى الذي يمكن للآلة الواحدة حفرها من النفق، وكما هو الحال في وحدات المحطات تم تكرار وحدات الأنفاق مرة تلو الأخرى، وأدى ذلك إلى تسهيل التعلم الإيجابي.

تمثلت إحدى الفوائد غير المتوقعة في أن فرق حفر الأنفاق بدأت بالتنافس فيما بينها، ما أدى إلى تسريع وتيرة العمل أكثر. كان أفراد هذه الفرق يلتقون في حانات مدينة مدريد ليلاً ويقارنون التقدم الذي أحرزته فرقهم لمعرفة الفريق الأكثر تقدماً، وكانوا بذلك يتناقلون ما يتعلمونه فيما بينهم. ومع عمل عدد من الآلات والفرق في نفس الوقت تمكن ميليس من دراسة الفرق التي كان أداؤها أفضل وتوظيفها في عملية الوحدة التالية. المزيد من التعلم الإيجابي. تم إعداد نظام لتقديم التقييم والملاحظات من أجل تفادي الخلافات التي تستهلك الوقت بين المجموعات المحلية، وأقنع ميليس الفرق بالموافقة على الاستمرار بالعمل في حفر الأنفاق 24 ساعة على مدار أيام الأسبوع بدلاً من العمل وفق أوقات الدوام المعتادة في أيام العمل الأسبوعية، واستطاع فعل ذلك بتخييرهم صراحة بين بناء الأنفاق في 3 أعوام أو 8 أعوام.

لا معالم معمارية ولا ابتكارات، واتباع نهج تجميعي قائم على الوحدات التجميعية مع الحرص على السرعة. تبدو وصفة لتصميم ممل متدني الجودة، أليس كذلك؟ اذهب إلى مدينة مدريد لترى المحطات وأنفاق القطارات الكبيرة والعملية وجيدة التهوية التي لا تشبه السراديب المظلمة والضيقة في مدينتي لندن ونيويورك. مترو الأنفاق الذي بناه ميليس لا يتوقف عن العمل ولا يضم أي تكنولوجيا فارهة تعطل العمليات، وينقل ملايين الركاب يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام تماماً كما هو مفترض. حقق ميليس ذلك بنصف التكلفة وضعف السرعة المعتادتين في القطاع، وهو أمر يراه الكثيرون مستحيلاً.

نفق المانش: عندما يتحول النجاح إلى كارثة

في كثير من الحالات، يَثبت أن المشاريع الكبيرة التي تبدو من روائع إنجازات البشر وإبداعاتهم هي عبارة عن كوارث اقتصادية، وقناة المانش أطول نفق للقطارات في أوروبا هي مثال على ذلك. اتُخذ القرار ببناء القناة التي مولتها جهات خاصة في شهر فبراير/شباط من عام 1986، وبدأ تقديم خدمات المسافرين الكاملة بعد 9 أعوام تقريباً في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1994.

ثبت أن تنفيذ التصميم المخصص للنفق والقطارات في القناة صعب ومكلف أكثر بكثير مما أفادت به التقديرات، إذ ازدادت تكاليف البناء بنسبة 80% في الواقع وازدادت تكاليف التمويل الإضافية بنسبة 140%. كان يجب دفع هذه التكاليف وسداد الديون في أثناء عمليات البناء في حين أنه لم يكن من الممكن توليد الإيرادات إلا بعد أعوام. عندما تحققت الإيرادات أخيراً في عام 1995 بلغت خُمس الإيرادات المتوقعة، ما أدى إلى أول حالة إعسار مالي وإعادة هيكلة مالية للقناة. في أثناء العمل الطويل على المشروع دخلت شركات الطيران منخفضة التكلفة إلى السوق فقوضت قوة التسعير التي كان يتمتع بها القطار الذي ينقل الركاب ما بين مدينتي لندن وباريس بطرق غير متوقعة.

قدرت خسائر الاقتصاد البريطاني وحدها بنحو 17.8 مليار دولار مع نسبة عائد على الاستثمار سالبة بقيمة 14.5%. في التقييم اللاحق لقناة المانش، الذي أجرى مقارنة منهجية بين التكاليف والفوائد المقدرة والفعلية، تبين أنه "كان من الأفضل لبريطانيا عدم بناء القناة".

في عام 2020، أثرت جائحة كوفيد-19 على أعداد المسافرين بدرجة كبيرة وخلقت حالة إعسار مالي جديدة، وأدى ذلك إلى إضعاف احتمالات أن تصبح قناة المانش عملاً تجارياً قابلاً للاستمرار وأن يحقق أثراً إيجابياً صافياً على بريطانيا وفرنسا من الناحية الاقتصادية الأشمل.

مسار أكثر حكمة

تشير التجارب المتعاكسة في المشاريع الكبيرة التي استعرضناها هنا إلى أنه عند بدء مشاريع كبيرة يجب على الشركات والحكومات الاختيار بعناية والاستثمار بحكمة في التكنولوجيا التي تمكنها من التوسع بذكاء.

لنعد إلى قطاع الطاقة الذي لكي يتمكّن من الاستمرار يجب أن يكسر حلقة التعلم السلبي المفرغة الحالية وفهم نهج التوسع السريع القابل للتكرار. هذا ما تهدف له مفاعلات الوحدات الصغيرة التجميعية (SMR)، وهي محطات الطاقة النووية التي تقدّر تكلفة كل منها بمليار دولار. يعمل كل من بيل غيتس ووارن بافيت على تمويل بناء مفاعل الوحدة الصغيرة في ولاية وايومينغ، وهذه هي الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، لكن المشروع لا يزال بطيئاً إذ يمتد جدوله الزمني لنحو 7 أعوام، ونحن لا نملك الوقت للانتظار لا سيما مع الأزمة المناخية التي تلوح في الأفق.

من حيث قابلية التوسع، البديل الأفضل هو طاقة الرياح، فالعنفات (التوربينات) بطبيعتها ذات طبيعة تجميعية وقابلة للتكرار وبالتالي فهي مرشح مثالي للتوسع الذكي. كان يتم بناء هذه المفاعلات بادئ الأمر في الموقع، ولكن القطاع الناشئ تعلم بسرعة أن هذا النهج غير فعال وتحول إلى تصنيعها في الداخل باستخدام العمليات واللوجستيات الصناعية التي يمكن التحكم بها وتحسينها بفعالية. كانت منظومة مدينة لندن في المملكة المتحدة تعد أكبر مزرعة بحرية لتوليد طاقة الرياح في العالم عندما استكمل بناؤها في عام 2013 بتكلفة 3 مليارات دولار بحسب أسعار عام 2012. بدأ المشروع في شهر مارس/آذار من عام 2011، وبدأ إنتاج الكهرباء في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2012، وكانت جميع العنفات تعمل بطاقتها الكاملة بحلول شهر أبريل/نيسان من عام 2013، أي بعد عامين وشهر واحد من بدء عمليات البناء. لكن ذلك لم يعد سريعاً وفقاً لمعايير اليوم، أي بعد أقل من عقد من الزمن. في عام 2018، تم توسعة مزرعة "والني" (Walney) لتوليد طاقة الرياح، وتقع قبالة ساحل إنجلترا وتضم 87 عنفة، في أقل من عام.

قطاع الطاقة ليس القطاع الوحيد الذي بدأ بالابتعاد عن المشاريع العملاقة التقليدية، خذ مثلاً قطاع الفضاء. تستغرق وكالة ناسا عادة عقداً من الزمن لتخطيط تصميماتها المعقدة وعقداً آخر لبنائها، والمهمات التي تقوم بها أكبر بكثير من أن تفشل، وإذا فشلت فالبدء بها من جديد سيكون شديد البطء. كلما طال الوقت ازدادت مخاطر الفشل في نهاية المطاف وتتضاءل فرص التعلم في هذه الأثناء، لكن الجيل الجديد من رواد أعمال الفضاء (ومنهم إيلون ماسك) يخفّضون التكاليف ويقللون وقت التسليم بدرجة كبيرة عن طريق الاعتماد على استخدام القوالب المبنية المصنّعة وإعادة استخدامها.

خذ مثلاً ويل مارشال الذي بدأ كمهندس شاب يعمل في "مختبر وكالة ناسا للدفع النفاث"، فقد سئم من بطء العمل وعدم الاستفادة من الفضاء الكبير فقرر أن يتبع طريقة مختلفة في العمل. عمل مع موظفين سابقين في وكالة ناسا وأسس مؤسسة "بلانيت لابز" (Planet Labs) وبنى قمراً صناعياً أسماه "دوف" (Dove) في مرأب منزله في مدينة كوبرتينو بولاية كاليفورنيا.

تزن أقمار "دوف" الصناعية 4.5 كيلوغرامات ويستغرق بناؤها بضعة أشهر، وتبلغ تكلفتها أقل من مليون دولار (تشمل تكاليف الإطلاق والعمليات)، وهي أصغر وأسرع وأقل كلفة من أي قمر صناعي لدى وكالة "ناسا"، لكن هندستها تتساوى مع هندسة أقمار وكالة "ناسا" من حيث الجودة وتتفوق عليها من حيث المرونة. يتألف كل قمر صناعي من 3 وحدات "كيوبسات" (CubeSat) تجميعية وتتكوّن كل وحدة من عدة وحدات بأبعاد 10x10x10 سم، والتي يسميها مارشال "قطع الليغو". تُصنع وحدات "كيوبسات" من مكونات إلكترونية وهيكلية تجارية جاهزة، كالتي يتم إنتاجها بكميات كبيرة للهواتف الخلوية والطائرات المسيرة "الدرون" الترفيهية، وهو ما يبقي التكاليف منخفضة وأوقات الإنتاج قصيرة. في أثناء العقد الثاني من الألفية الثالثة، أطلقت مؤسسة "بلانيت لابز" عدة مئات من الأقمار الصناعية وهي أكبر مجموعة وضعت في المدار على الإطلاق وتعمل على جمع المعلومات الحديثة لمراقبة المناخ والزراعة والاستجابة للكوارث والتخطيط العمراني.

خسرت مؤسسة "بلانيت لابز" 26 قمراً صناعياً في عام 2014، إذ كانت هذه الأقمار على متن صاروخ كبير انفجر على منصة الإطلاق، لكن لم تؤثر هذه الخسارة كثيراً على الشركة نظراً لنجاحها في 9 عمليات إطلاق أخرى حينئذ. استبدلت الشركة الأقمار الصناعية التي خسرتها بسرعة، ووضعت الأقمار الجديدة في المدار. يعني النهج القائم على الوحدات التجميعية الذي يتبعه مارشال أن كل مهمة يقوم بها تكون رخيصة التكاليف لدرجة أنه بالإمكان تكرارها في حال الفشل، مع الاستفادة من الدروس وتطبيقها بصورة فورية.

نصيحتي لأي شخص يخطط لمشروع عملاق هي أن يتبع خطى "تسلا" و"بلانيت لابز" ومدينة مدريد ومزارع توليد طاقة الرياح. احرص عند الإمكان على اختيار التكنولوجيا الأساسية التي تعتمد على النهج التجميعي القائم على الوحدات التجميعية وقابلية التكرار، وعندما لا يكون ذلك ممكناً حاول أن تستخدم تكنولوجيا عادية ومجربة بطرق ابتكارية قائمة على الوحدات التجميعية كي تتعلم في أثناء العمل وتقلل التكاليف وتزيد سرعة التنفيذ كلما كررت العمل. إذا كان هذا النهج ناجحاً في أعمال صعبة ومفصلة بالضرورة مثل حفر نفق مترو تحت مدينة فسينجح في أي مشروع تقريباً. والخيارات غنية بغنى مخيلتك.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي