هل يجعلك العمل سعيداً؟ أدلّة وبراهين من تقرير السعادة العالمي

6 دقائق

بما أنّ معظمنا يقضي قسطاً كبيراً من حياته في العمل، فإنّ ذلك يحتّمُ علينا القول بأنّ للعمل دوراً أساسياً في تحديد مستويات السعادة لدينا. وفي فصل جديد في تقرير السعادة العالمي، الذي يُنشر سنوياً تزامناً مع يوم السعادة العالمي الذي أعلنته الأمم المتحدة، نلقي نظرة معمّقة على العلاقة بين العمل والسعادة. وقد اعتمدنا كثيراً على استطلاع غالوب العالمي للآراء، الذي أجرى مسحاً شمل أناساً يعيشون في أكثر من 150 بلداً حول العالم منذ العام 2006. وتسمح لنا هذه الجهود بتحليل البيانات المأخوذة من مئات آلاف الأفراد في جميع أنحاء المعمورة، وبتحديد تأثير الجوانب المختلفة للحياة العملية للناس، والتي يمكن أن تكون الدافع الأساسي لرفاهيتهم.

يمكن قياس عدّة أبعاد للرفاهية الذاتية – التي يشار إليها عادة بطريقة أو أخرى على أنها السعادة. فنحن ندرس بصورة أساسية الطريقة التي ينظر بها الناس إلى جودة حياتهم الإجمالية، التي يقيسها استطلاع غالوب وفق "سلم كانتريل" (Cantril Ladder)، وهو عبارة عن مقياس مؤلف من 11 نقطة، حيث أن الدرجة العليا هي أفضل حياة يمكنك أن تعيشها، في حين أن الدرجة الدنيا هي أسوأ حياة يمكنك أن تحياها. ثمّ يطلب استطلاع غالوب من المشاركين فيه تحديد الدرجة التي يجدون أنفسهم عندها في الوقت الحاضر. نحن نراجع هذا التصنيف، ونستقصي إلى مدى يختبر الناس حالات فكرية إيجابية وسلبية مثل المتعة والتوتر والقلق في حياتهم اليومية، إضافة إلى تحليل الإجابات المرتبطة بمقاييس تخصّ العمل مثل الرضى الوظيفي وتفاعل الموظفين مع عملهم.

ما هي أكثر الوظائف إسعاداً للناس؟

يتضمّن استطلاع غالوب 11 نوعاً من الفئات الوظيفية. وتغطّي الفئات المتوفّرة العديد من أنواع الوظائف، بما في ذلك امتلاك شركة شخصية، أو ممارسة العمل المكتبي، أو تولي الإدارة، أو العمل في الزراعة، أو الإنشاءات والبناء، أو المناجم والتعدين، أو النقل. فما هي فئات العمّال الأسعد عموماً؟

أوّل شيء نلاحظه هو أن عمّال الطبقة الكادحة أو من يُسمَّون أيضاً بأصحاب الياقات الزرقاء أفادوا عن مستويات أدنى من السعادة الإجمالية في جميع المناطق حول العالم. ونرى هذا الأمر يتكرّر في مجموعة متنوّعة من المهن التي تتطلّب جهداً عضلياً كبيراً مثل الإنشاءات والبناء، والمناجم والتعدين، والتصنيع، والنقل، والزراعة، وصيد الأسماك، والعمل في الغابات. أمّا الموظفون الذين يضعون أنفسهم في خانة المدير، أو المدير التنفيذي، أو المسؤول، أو الموظف في المهن الفكرية فإنّهم يمنحون جودة حياتهم علامة أعلى بقليل من 6 من أصل 10 علامات، في حين أنّ الناس العاملين في مجال الزراعة، أو صيد الأسماك، أو الغابات يمنحون جودة حياتهم علامة بحدود 4.5 من أصل 10 علامات وسطياً.

ولا يقتصر وجود هذه الصورة على النظرة الإجمالية لجودة الحياة وإنما يمتد ليشمل تفاصيل التجارب العاطفية اليومية في حياة هؤلاء العمّال. فبالنسبة للعمّال ذوي الياقات البيضاء (أي من يعملون في المهن الفكرية والمهن ذات الأجور العالية) فإنهم يمرّون بحالات إيجابية أكثر مثل الابتسام، والضحك، والمتعة، فضلاً عن أنهم يمرّو بحالات سلبية أقل مثل الشعور بالقلق والتوتر والحزن والغضب.

تمثّل هذه الإحصائيات الوصفية الفروق البحتة في السعادة بين مختلف أنواع الوظائف. وبطبيعة الحال، من المحتمل جدّاً أن تكون هناك أشياء كثيرة مختلفة بين الناس الذين يعملون في هذه الحقول المتنوّعة ربما تكون هي السبب وراء هذه الاختلافات في درجة السعادة. لكن المفاجئ في الأمر ربما هو أن معظم تفاصيل الصورة تظل متشابهة حتّى عندما نعدّل توقعاتنا لنأخذ بعين الاعتبار الفروقات في الدخل والتعليم إضافة إلى عدد من العناصر الديموغرافية الأخرى مثل العمر والجنس والوضعية العائلية (الزواج والطلاق والعزوبية).

الوضع في حالة المستقلين معقد

هناك علاقة متعدّدة الأوجه بين عمل المستقل لحسابه الخاص (الفريلانس) وبين رفاهيته. فعندما ننظر إلى المعدّلات الوسطية العالمية، نجد بأنّ عمل المرء لحسابه الخاص يقترن عموماً بمستويات أدنى من السعادة مقارنة مع الأشخاص الموظفين والمتفرّغين للعمل بدوام كامل. لكن التحليلات اللاحقة تشير إلى أنّ هذا الأمر يتوقّف إلى حدّ كبير على المنطقة الجغرافية المدروسة في العالم إضافة إلى نوع المقياس المستخدم لتحديد الرفاهية الذاتية.

في معظم الدول المتقدّمة، نجد بأنّ عمل المستقل يقترن بإعطاء علامة أعلى لجودة الحياة وبقدر أكبر من المشاعر السلبية اليومية مثل التوتر والقلق. وبالتالي سيكون من غير المفاجئ على الأرجح لأي شخص يمتلك شركته الخاصّة بأن يعلم بأن عمله لحسابه الخاص هو أمر له منافع ويتسبّب بالتوتّر في الوقت ذاته.

البطالة هي حالة مزرية

واحدة من أقوى النتائج التي توصّل إليها علم اقتصاد السعادة هي أن البطالة تُعتبرُ حالة هدّامة لرفاهية الناس. ونجد بأنّ هذا الأمر يصح على معظم دول العالم. فالأشخاص الموظفون يعطون علامة وسطية أعلى لجودة حياتهم مقارنة مع العاطلين عن العمل. وبالنسبة للأفراد العاطلين عن العمل، فهم يعيشون تجارب عاطفية سلبية أكثر بنسبة 30% تقريباً في حياتهم اليومية.

وتمتد أهمية امتلاك وظيفة إلى أكثر بكثير من مجرّد تقاضي راتب لقاء أداء هذه الوظيفة. فقد أظهرت أبحاث كثيرة بأنّ الجوانب غير المالية للعمل الوظيفي تُعتبرُ من العوامل الأساسية أيضاً في وصول الناس إلى شعور بالرفاهية. فالمقام الاجتماعي، والعلاقات الاجتماعية، وطريق عيش الحياة اليومية، والأهداف هي كلّها عوامل تترك أثراً كبيراً على مدى سعادة الناس.

فالأشخاص العاطلون عن العمل ليسوا أقل سعادة عموماً من الناس العاملين فحسب، وإنما نجد أيضاً في أبحاثنا بأن الناس عموما لا يتأقلمون مع مرور الوقت مع حالة البطالة. لا بل أكثر من ذلك، يبدو أنّ لعنات البطالة تترك تأثيراً مرعباً على رفاهية الناس، حتى بعد أن يتوظفوا ويخرجوا من حالة البطالة.

يمكن لتجربة البطالة أن تكون مدمّرة للشخص المعني، لكنها تؤثّر أيضاً على الأشخاص المحيطين به. فأفراد عائلة العاطل عن العمل وأصدقاؤه يتأثرون بطبيعة الحال، لكن هذه التأثيرات تمتد امتداداً أكبر حتى. فمستويات البطالة الأعلى تزيد من إحساس الناس بعدم الأمان الوظيفي، وتؤثر سلباً حتى على الأشخاص الذين لازالوا يعملون.

الرضا الوظيفي في أنحاء العالم

ناقشنا حتى الآن كيف ينظر الناس إلى حياتهم بأكملها وكيف يعيشون هذه الحياة، ولكن ماذا عن بعض المقاييس المحدّدة والخاصة بالرفاهية في مكان العمل مثل الرضى الوظيفي؟

طرح استطلاع غالوب العالمي على المشاركين سؤالاً إجابته نعم أو لا بخصوص ما إذا كانوا راضين عن وظيفتهم أم لا. وكانت النسبة المئوية للأشخاص الذين أشاروا إلى "رضاهم" (مقارنة مع من عبّروا عن "عدم رضاهم") أعلى في الدول الواقعة في أميركا الشمالية والجنوبية، وأوروبا، واستراليا، ونيوزلندا. وبالتحديد، فإنّ النمسا تصدّرت القائمة حيث بلغت نسبة من عبّروا عن رضاهم الوظيفي 95%. وقد حلّت النرويج واستراليا مباشرة بعد النمسا. ونحن نجد ارتباطاً طفيفاً (بنسبة 0.28 في حين أن الارتباط المثالي هو 1.0) بين الرضى الوظيفي ونظرة المشاركين في استطلاع غالوب العالمي إلى حياتهم.

ولكي نحدّد السبب الذي يجعل مستويات الرضى الوظيفي أعلى في بعض المجتمعات مقارنة مع غيرها، لجأنا إلى بيانات أكثر دقّة يوفّرها "المسح الاجتماعي الأوروبي" والذي يستطيع أن يقدّم لنا معلومات أكثر حول جودة الوظائف من خلال الكشف عن بعض السمات الخاصة بمكان العمل والمتعلقة بسعادة الموظف. وكما هو متوقع، فقد وجدنا بأنّ الناس الذين يعملون في وظائف ذات أجور جيّدة هم أسعد وأكثر رضى عن وظائفهم، لكن كان هناك عدد من الجوانب الأخرى المرتبطة بوظائف الناس والتي كانت بمثابة مؤشرات قوية تدل على عدد من المقاييس المتنوّعة للسعادة.

ويبرز التوازن بين العمل والحياة الشخصية بوصفه مؤشراً قوياً على مدى سعادة الناس. وثمّة عوامل أخرى تشمل التنوّع الوظيفي، والحاجة إلى تعلّم أشياء جديدة، إضافة إلى مستوى الاستقلال الذاتي الذي يتمتّع به الموظف. وعلاوة على ذلك، فإنّ هناك علاقة ارتباط إيجابي بين بين السعادة وبين الأمان الوظيفي ورأس المال الاجتماعي (وهما يقاسان من خلال الدعم الذي يتلقاه الإنسان من زملائه في العمل)، في حين أنّ الوظائف التي تنطوي على مخاطر تهدّد الصحّة والسلامة ترتبط عموماً ارتباطاً سلبياً بمستويات أدنى من الرفاهية. ونحن نعتقد بأنّ الدول التي تحلّ في مرتبة مرتفعة من حيث الرضى الوظيفي توفّر وظائف ذات جودة أفضل من خلال الاهتمام بهذه الجوانب الوظيفية غير المرتبطة بالمال.

الرضا الوظيفي العالي قد يخفي انخفاضاً في التفاعل الوظيفي

طرح استطلاع غالوب العالمي على المشاركين سؤالاً عمّا إذا كانوا "متفاعلين بنشاط" أم "غير متفاعلين" أم "غير متفاعلين على الإطلاق" مع وظائفهم. وفي مقابل الأرقام العالية نسبياً للرضى الوظيفي، فإنّ هذه البيانات ترسم صورة أشد قتامة. فعدد الناس الذين أشاروا إلى أنّهم متفاعلين بنشاط مع عملهم يقلّ عادة عن 20%، في حين أنّ هذه النسبة هي بحدود 10% في أوروبا الغربية، وأقل من ذلك حتّى في شرق آسيا.

ربما قد يكون الفرق في النتائج العالمية بين الرضى الوظيفي وتفاعل الموظفين مع عملهم عائداً جزئياً إلى قضايا تخص المقاييس المستعملة. لكنّ ذلك له علاقة أيضاً بحقيقة أن كلا المفهومين يقيسان جوانب مختلفة للسعادة في العمل. فالرضى الوظيفي يمكن أن يُختزل ربما إلى شعور المرء بالقناعة بوظيفته، لكنّ مفهوم تفاعل الموظف (بنشاط) يتطلّب من هذا الموظف أن يكون لديهم شعور إيجابي تجاه العمل وأن يلتزم التزماً كاملاً بالدفاع عن مصالح المؤسسة. وبالتالي فإن زيادة تفاعل الموظفين مع العمل يمثّل عقبة أصعب وليس من السهولة أزالتها.

رغم أنّنا قد ركّزنا هنا على دور العمل والتوظيف في تحديد مدى سعادة الناس، من الجدير بالذكر بأنّ العلاقة بين السعادة والتوظيف هي علاقة تفاعل معقد وديناميكي يسير في الاتجاهين. لا بلّ أنّ هناك مجموعة كبيرة من الأبحاث التي تُظهر بأنّ العمل والتوظيف لا يُعتبران بمثابة دافعين أساسيين لسعادة الناس فحسب، وإنما هي تُظهر بأنّ السعادة نفسها يمكن أن تساعد في تحديد طبيعة سوق العمل والإنتاجية بل وحتّى أداء الشركات. وبالتالي فإنّ السعادة في العمل ليست مسألة شخصية فحسب، وإنما هي مسألة اقتصادية أيضاً.

اقرأ أيضاً: 3 طرق سهلة تدخل من خلالها السعادة إلى قلوب موظفيك.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي