يشهد قطاع الرعاية الصحية جهوداً تهدف إلى إكسابه طابعاً محلياً أكثر، كما هو الحال مع قطاعات الأطعمة ومواد التجزئة وغيرها. فكيف يمكن تعزيز خدمات الرعاية الصحية المحلية؟
يتطلع أولئك الذين يحتاجون العلاج بشكل متزايد إلى إيجاد بدائل لخدمات المستشفيات والأطباء التي جرت العادة أن تتوفر في مواقع مركزية أو في مناطق بعيدة جغرافياً في أغلب الأحيان، سواء كان ذلك من خلال توفير المزيد من الراحة للعائلات التي تعيش في ضواحي المدن أو تمكين المجتمعات الريفية والمناطق الحضرية التي تفتقر إلى الخدمات الكافية وكبار السن الذين يُلازمون بيوتهم من الاستفادة من خدمات رعاية أفضل. ويهدف الشكل المتطرف من تقديم الخدمات محلياً، الذي يُطلق عليه غالباً اسم "الصحة المتصلة" (connected health)، إلى إحضار الرعاية مباشرة إلى المريض من خلال زيارات افتراضية أو أشكال أخرى من التواصل الإلكتروني. وتستند تلك الجهود إلى الافتراض بأنّ الرعاية المقدّمة بالقرب من منزل المريض أو داخله ستحسّن الجودة من خلال تحقيق وصول أكبر وتقليص التكاليف عبر عدد أقل من الزيارات إلى أقسام الطوارئ وعمليات الإدخال غير الضرورية إلى المستشفيات.
توفير خدمات الرعاية الصحية المحلية
ومن هذا المنطلق، تراهن متاجر التجزئة الوطنية الأميركية، وأشهرها "وول مارت" (Walmart) و"بيست باي" (Best Buy)، كثيراً على قدرتها على تلبية هذه الاحتياجات من الرعاية الصحية المحلية. للوهلة الأولى، تعتبر هذه التحركات مفاجئة بعض الشيء نظراً لأنّ هذه الشركات لم تركّز في السابق على تقديم خدمات الرعاية الصحية. لكن النجاحات التي حققتها متاجر التجزئة الإلكترونية تركت تلك الشركات مع مجموعتين من الموارد، تتمثلان في مواقع تخزين كبيرة وأعداد هائلة من الموظفين ذوي الأجور المتدنية، وتواجهان خطر التحول إلى أصول متقادمة. وتشير الإعلانات الأخيرة الصادرة عن شركتي "وول مارت" و"بيست باي" إلى أنهما من الممكن أن تعتبرا تقديم خدمات الرعاية الصحية المحلية فرصة لإعادة توزيع الموظفين في المتاجر التابعة لهما.
وقد قامت الشركتان مؤخراً بالترويج لخطوات كبيرة للانتقال إلى سوق الرعاية الصحية المحلية. في سبتمبر/أيلول، افتتحت شركة "وول مارت" أول عيادة صحية تابعة لها بالقرب من متجرها (وليس داخله) الموجود في مدينة دالاس بولاية جورجيا الأميركية. ومقارنة بعيادات "وول مارت" الداخلية السابقة، يوفر الموقع الجديد مجموعة أشمل من خدمات الرعاية الأولية والعناية بالأسنان وتقديم الاستشارات والتصوير بالأشعة السينية، ويعمل فيه طبيب، وليس ممرضين ممارسين أو آخرين من غير الأطباء. وبالمثل، فقد أبدت شركة "بيست باي" نيتها أن تصبح معروفة كإحدى شركات الرعاية الصحية، وليس مجرد شركة تجزئة معنية بالأجهزة الإلكترونية. وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف، أنفقت الشركة نحو مليار دولار في العام الماضي لتستحوذ على ثلاث شركات تقدم إما خدمات لمراقبة الرعاية الصحية لكبار السن أو خدمات أشمل في مجال تحليلات الرعاية الصحية.
دخول الشركات التكنولوجية إلى قطاع الرعاية الصحية
وتأتي هذه الخطوات التي قامت بها شركتا "وول مارت" و"بيست باي" في وقت يتراجع فيه عدد الوظائف في شركات التجزئة التقليدية في الولايات المتحدة. انخفضت العمالة في قطاع تجارة التجزئة بأكثر من 140,000 وظيفة منذ يناير/ كانون الثاني 2017، ما يجعله أحد القطاعات القليلة التي تخسر الوظائف في اقتصاد الولايات المتحدة. وفي هذه الأثناء، يتوقع مكتب إحصاءات العمل الأميركي (Bureau of Labor Statistics) زيادة قوية في معدلات العمالة في قطاع الرعاية الصحية بنسبة 14% على مدار العقد القادم. ولهذا فمن المحتمل أنّ دخول "وول مارت" و"بيست باي" إلى قطاع الرعاية الصحية هو بمثابة جهود بسيطة لتحقيق مزيد من الأرباح. وقد يفسر ذلك المنطق، في حقيقة الأمر، دخول شركات تكنولوجية كبيرة، بما فيها "أمازون" و"جوجل" و"آبل" ، إلى فضاء الرعاية الصحية في السنوات الأخيرة. لكن بالنسبة لمتاجر التجزئة الكبرى المثقلة بعبء المواقع الفعلية والتي يعمل بها عمال ذوي مستويات متدنية من التدريب المهني، يتعدّى الانتقال إلى قطاع الرعاية الصحية باعتباره خطوة لزيادة الإيرادات، حيث يمثل فرصة لزيادة التدريب والمهارات في أوساط القوى العاملة، وإعادة توجيه استراتيجيات أعمالها في هذه الأثناء.
وبالنسبة لشركة "وول مارت"، فإنّ عيادتها الجديدة هي فرصة لتقديم مجموعة أشمل من الخدمات مقارنة بالموجودة في عياداتها الداخلية الحالية وتلك التي يقدمها منافسوها مثل "سي في إس هيلث" (CVS Health) و"وولغرينز" (Walgreens). وتجدر الإشارة إلى أنّ مواقع "وول مارت" الجديدة ستتيح سُبُل الوصول إلى طاقم سريري مدرّب أكثر، ويشتمل على أطباء وخدمات أكثر تقدماً، بالإضافة إلى الأخصائيين والممرضين الممارسين الذين يعملون في معظم عيادات التجزئة الحالية. وتهدف هذه العيادات إلى تطوير علاقات تدوم طويلاً مع المرضى الذين يبدؤون باستخدام المركز كمصدر لرعايتهم الأولية، بدلاً من توفير زيارات من حين لآخر للتطعيمات والتهابات الأذن. تعتبر "وول مارت" النموذج خياراً جذاباً على نحو خاص بالنسبة لزبائنها وموظفيها في أسواق الأرياف، حيث يُعدُّ الوصول الحالي إلى المستشفيات والأطباء محدوداً بحكم موقعها الجغرافي.
وتأمل "وول مارت" في حال نجاح عيادتها التجريبية في ولاية جورجيا أن تفتتح أماكن في ولايات أخرى، ما يتطلب من الشركة بناء قوة عامة أكبر من المتخصصين في مجال الرعاية الصحية، وتشمل ممرضين ممارسين ومساعدين طبيين، وربما حتى عمال رعاية صحية منزلية. ولذا فليس مفاجئاً أنّ افتتاح عيادة "وول مارت" الجديدة تزامن مع إعلان عن أنها ستعرض على عمالها البالغ عددهم مليون ونصف في الولايات المتحدة الفرصة للحصول على درجة البكالوريوس والدبلومات المهنية عبر الإنترنت في المجالات المتعلقة بالصحة بتكلفة مدعومة تبلغ دولاراً واحداً عن كل يوم.
وبالنسبة لشركة "بيست باي"، فإنّ السعي للرعاية المحلية يعني علاج الزبائن وهم يتمتعون بالراحة في بيوتهم، وخصوصاً المواطنين من كبار السن وأولئك الذين يعانون من ظروف طبية تجعل من الصعب عليهم السفر إلى المستشفى أو مكتب الطبيب. وبالتالي، بدلاً من بناء العيادات، تعزز شركة "بيست باي" العلاقة التي تطورها مع الزبائن من خلال بيعهم مجموعة واسعة من الأجهزة الإلكترونية، كالتلفزيونات والكمبيوترات والهواتف المحمولة وأجهزة تتبع اللياقة والمساعدات الرقمية، وكلها قادرة على مساعدة المرضى في الاتصال بشكل افتراضي بخدمات الرعاية الصحية. وإلى جانب الهواتف والمساعدات الرقمية، تبيع "بيست باي" أيضاً أجهزة خاصة بالصحة مثل معدّات "تيتو هوم" (TytoHome) التي تسمح للمرضى بأن يجمعوا بأنفسهم الكثير من البيانات المطلوبة لإجراء زيارة رعاية صحية شاملة عن بعد مع أطبائهم المختصين بالرعاية الأولية.
وعلى الرغم من اختلاف النهج الذي تتبعه الشركة لجعل الرعاية ذات طابع محلي أكثر عن استراتيجية "وول مارت" القائمة على العيادة، إلا أنه يعزز أيضاً موارد مشابهة، تتمثل في قوتها العاملة الحالية غير الطبية. يتألف موظفو الشركة الذين يصل عددهم إلى نحو 125,000 موظف من نسبة كبيرة من العمال داخل المتاجر، إضافة إلى قرابة 20,000 موظف في وحدة "غيك سكواد" (GeekSquad) التابعة لها، والتي تقدّم خدمات التركيب والصيانة في المنازل للمنتجات التي تبيعها الشركة.
وعلى العكس من "وول مارت"، لم تعلن شركة "بيست باي" بشكل رسمي عن جهودها لإعادة تدريب موظفي المتاجر في مهن مرتبطة بالقطاع الصحي. وفي ضوء ذلك، لا عجب أنّ الشركة قد ترغب في نهاية المطاف بفعل ذلك. ربما ترى مستقبلاً يتمتع فيه الزبون الذي يشتري عدة أجهزة إلكترونية بفرصة للتسجيل في خدمة منزلية شاملة تجمع بين الدعم المستمر للأجهزة مع "دعم صحي" روتيني لمستخدمي هذه المنتجات.
تقدم "بيست باي" بالفعل خدمة "عيش مضمون" (Assured Living)، والتي توفر خدمات مراقبة عن بعد بتكلفة شهرية لكبار السن الذين يعيشون بمفردهم وقد يكونوا عرضة لخطر السقوط أو نسيان جرعة دواء أو يعانون من انخفاض غير متوقع في مستوى نشاطهم. ويعني ذلك بالنتيجة المنطقية أنّ بالإمكان توسيع نموذج "بيست باي" الخاص بالرعاية المحلية إلى ما يتجاوز المراقبة عن بعد. وربما يمكن تدريب الفنيين الحاليين في "غيك سكواد" ليوفروا الدعم لكل من الأجهزة والرعاية الطبية الأساسية، أو يمكن تدريب موظفي متاجر التجزئة الحاليين في وظائف رعاية صحية ذات صلة ويسافرون جنباً إلى جنب مع زملائهم في "غيك سكواد". وفي كلتا الحالتين، من المحتمل أن تتمكن "بيست باي" من إنشاء نموذج يدمج الدعم الفني مع الرعاية الصحية المنزلية الشخصية التي أصبحت بشكل متزايد بمثابة خدمات بالغة الأهمية للمواطنين من كبار السن الذين يُلازمون بيوتهم.
مشكلة العمالة في قطاع الرعاية الصحية
وبالقدر الذي توسّع به التحركات التي تقوم بها "وول مارت" و"بيست باي" مهارات عمالهم، فهي لا تمثل ببساطة جزءاً من استراتيجية للرعاية الصحية، إنما تشكّل أيضاً أحد مكوّنات ما تدعوها الأستاذة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) زينب تون بـ "استراتيجية الوظائف الجيدة". وبعيداً عن انخفاض نسبة التوظيف في تجارة التجزئة، تبقى جودة الوظائف في القطاع متدنية نسبياً مع المستويات العالية من الرتابة، والاعتماد الضئيل نسبياً على تقدير العمال وحكمهم على الأمور، والساعات غير المتوقعة، وباقات المزايا المحدودة، وندرة فرص الترقية. وبينما تسعى استراتيجية خالصة للوظائف الجيدة إلى جعل الوظائف في تجارة التجزئة نفسها أكثر إرضاء، فإنّ إعادة تدريب العمال الذين شغلوا هذه الوظائف سابقاً ليعملوا في مناصب تتطلب مستويات أعلى من المؤهلات المهنية تمثل بديلاً مُجدياً لإنجاز أهداف مشابهة.
وبصرف النظر عن إمكانات الوظائف الجيدة، قد يتساءل البعض فيما إذا كانت اختراقات "وول مارت" و"بيست باي" لقطاع الرعاية الصحية المحلية ستبقى مرتبطة جداً بنماذج كثيفة العمالة. وتحديداً، بالنسبة لمنافسين يركزون على التكنولوجيا، مثل شركات "أمازون" و"جوجل" و"أبل"، وجميعها تبيع أجهزة تهدف إلى ربط الزبائن بمجموعة واسعة من الخدمات بما فيها خدمات الرعاية الطبية، هل يمكن أن ينتهي الأمر بهم بتقديم حلول للرعاية الصحية المحلية أو تمكينها بحيث لا تتطلب تواصلاً شخصياً بين المرضى ومقدمي تلك الخدمات؟ وهل تستطيع هذه الشركات التكنولوجية بالتالي أن تتجاوز متاجر التجزئة الكبرى والأنظمة الصحية القائمة في السباق نحو تقديم رعاية محلية حقيقية؟
في نهاية المطاف، يبدو أنه ما زال ثمة متسع لشركات مثل "وول مارت" و"بيست باي". وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي السريع وزيادة الأجهزة المتصلة، سيتطلب تقديم الرعاية الصحية مستوى معين من الاتصال البشري في المستقبل القريب. ومع ذلك، لن يتطلب هذا التواصل المحلي بالضرورة خبرة سريرية متقدمة، إنما سيتطلب قدرة على المساعدة في مجموعة من الأنشطة اليومية، وبعضها له علاقة كبيرة بالطب والكثير منها أقل. وسيعتمد النجاح في هذا المجال على القدرة على إدارة القوة العاملة بمستوى متدنٍّ من التدريب المهني واستعداد للتفاعل مع الزبائن. وهنا تكمن فرصة تنافسية لشركتي "وول مارت" و"بيست باي".
وقد تجد الشركتان في جهودها الرامية إلى توفير خدمات الرعاية الصحية المحلية، سبيلاً لتحويل أحد هواجسهما الجوهرية المتمثلة في قواها العاملة إلى مصدر للنمو لهؤلاء الموظفين ولمؤسساتهم على حد سواء.
اقرأ أيضاً: