لقد نشبت حروب أسعار في قطاعات التجارة الاستهلاكية حول العالم. ولطالما لجأت شركات تجارة التجزئة الكبرى مثل "ألدي" و"وول مارت" إلى توظيف الأسعار في معركة تثبيت مواقعهم في السوق بمواجهة منافسيهم التقليديين، وذلك من خلال تقليص هوامش الربح في جميع الاتجاهات. كما بتنا نرى مدراء الأصول المالية في الشركات يضاربون منافسيهم من خلال تخفيض أسعارهم في أرصدة المقايضة، وذلك في مسعىً منهم لزيادة حصصهم في السوق. وكذلك، فإن كبرى شركات الاتصالات الأميركية تتنافس بشراسة حول إقناع الزبائن بالثمن لكسب زبائن جُدد. أما شركات الطيران، فتستعد لحرب أسعار على الرحلات العابرة للمحيط، بينما تخطط خطوط الطيران الاقتصادية لإقامة رحلات جوية بين الولايات المتحدة وأوروبا.
تلجأ هذه الشركات إلى تخفيض أسعارها لاعتقادها بأن ذلك من شأنه أن يعزز تقدير قيمتها في نظر المستهلكين. لكن مع تنامي الضغوط لخفض الأسعار، سواء من خلال تخفيضها في لوائحها أو من خلال منح الحسومات، فإن المدراء قد يتصرفون بتسرّع من دون إجراء حساباتهم الدقيقة التي يطبقونها عادة قبل اتخاذ قراراتهم الاستثمارية الأخرى مثل توظيف رأس المال أو تحسين المنتجات.
اقرأ أيضاً: كيف تخفض الخطوط الجوية متدنية التكلفة أسعار تذاكرها؟
غير أن أولئك المدراء عندما يخفضون أسعار منتجاتهم قد يفوتهم أحياناً طرح السؤال الأساسي التالي: هل سيلحظ الزبائن ذلك التخفيض ويمنحونه حقه من التقدير فيتصرفون وفق ما هو متوقع؟ الجواب في أغلب الأحيان هو لا. ذلك أن تقدير الزبائن للسعر لا يقل أهمية عن السعر ذاته. وحتى لو لم يلاحظ المستهلكون تغيّرات السعر لكل سلعة على حدة، فإن على الشركات ضمان أن زبائنها يشعرون بالفرق بين أسعارهم وأسعار منافسيهم. ولعل معظم الشركات -ما خلا مروّجي البضائع الكمالية- يرغبون في أن يرى الزبائن أسعار منتجاتهم أقل من أسعار منتجات منافسيهم. فالمتجر الذي يبيع بنفس أسعار منافسيه يرغب في أن يعتقد الزبائن بأن منتجاته أرخص من منتجات منافسيه؛ وشركة بيع التجزئة التي تبيع بأسعار أعلى بنسبة 10% من أسعار منتجات أحد منافسيها الرئيسيين تتطلع إلى أن تبدو أسعار منتجاتها من منظور الزبائن أعلى بنسبة 5% فقط.
في معركة التأثير على تقدير الزبائن للأسعار والفوز برضاهم هناك رابحون وهناك خاسرون. ومؤخراً أجرت شركة "باين آند كومباني" وشركة "آر أو آي" للخدمات الاستشارية (بول بَزَر، سابقاً) استطلاعاً شمل حوالي 2,200 مستهلك في مدينتَي أتلانتا وواشنطن دي سي، لمعرفة آرائهم حول أسعار ثماني سلاسل بيع للمواد الغذائية بالتجزئة. ولقد وجدنا أنه من المحتمل أن تحظى المتاجر بتقدير أفضل أو أسوأ من ذلك الذي تستحقه بناءً على سوية أسعار منتجاتها الفعلية.
فعلى سبيل المثال، إن سمعة أحد المتاجر بوصفه مركز تخفيضات مخصصاً للزبائن الميسورين، المبنية على تصميم صالة البيع وهيئة المنتجات، قد أوحت للمستهلكين بأنه يبيع بسعر أعلى من منافسيه، في حين أن أسعار منتجاته كانت في الواقع أخفض بقليل من المعدل الوسطي لأسعار المنتجات في المدينتَين السابقتين. فاستراتيجيته في التسعير لم تكن تتوافق مع صورته العامة لدى الزبائن، الأمر الذي أدى إلى أن أسعار منتجاته لا تلقَ التقدير الذي تستحقه. وهكذا، فإن أحد الخيارات المتاحة أمامه هو رفع الأسعار بنسبة ضئيلة على اعتبار أن زبائنه قد سبق أن أدخلوا ذلك الانطباع (الخاطئ) -بأنه يبيع بسعر أعلى من منافسيه- واعتمدوه في قرارات تسوّقهم.
اقرأ أيضاً: كيف تؤثر شخصية الرئيس التنفيذي على سعر أسهم شركته؟
إن المنافسة الشرسة في ميدان التسعير التي تُهيمن على قطاعات تجارية عديدة تجعل تقدير المستهلكين لأسعار المنتجات أكثر أهمية من أي وقت مضى. وتوفر مواقع استطلاع آراء المستهلكين ومقارنة أسعار منتجات الشركات وضوحاً في الأسعار وسهولة أكبر في مقارنة المنتجات في قطاعات الصيرفة والتأمين والفنادق وغيرها من الأسواق الاستهلاكية. كما أنه أصبح من السهل على المستهلكين توزيع إنفاقهم بين مورّدين مختلفين يحققون أفضل معادلة لتناسب السعر مع القيمة. ويُظهر استطلاع الرأي الذي أجرته شركة "باين" حول متاجر البقالة أن نصف الإنفاق الشهري للمستهلكين يذهب إلى غير صندوق متجرهم الرئيسي.
وهكذا، باتت إدارة تقدير الزبائن للأسعار بشكل عام، لا الاقتصار على الاهتمام بتركيبة الأسعار وشرائحها الفعلية فقط، من أهم القدرات التي يتعين على الشركات امتلاكها في قطاع الأسواق الاستهلاكية.
إقناع الزبائن بالثمن وتحسين تقدير الزبائن للأسعار
كيف يمكن للشركات إقناع الزبائن بالثمن وأن تُحسّن تقديرهم لأسعار منتجاتها، بحيث تجتذبهم وتكسب ولاءهم؟
بوسع الشركات اختيار تكتيكاتها من بين 4 أنماط: إما تخفيض الأسعار، أو الإعلان عنها بشكل مكثف وصارخ، أو تقديم عروض مغرية، أو تفصيل خبرة الزبائن تبعاً لرغباتهم. ومن الأمثلة على تلك التكتيكات: انتهاج سياسة الشرائح السعرية (كأن ينتهي السعر بالرقم 9)، ووضع اللافتات الإعلانية داخل المتجر أو على موقعه على شبكة الإنترنت، ومنح قسائم الشراء، وعرض تشكيلات فيها مزيج من البضائع متصاعدة الجودة. وتتوقف التركيبة الصحيحة للتكتيكات المتّبعة على القطاع الذي تعمل فيه الشركة، واستراتيجيتها العامة وصورتها لدى الزبائن.
فعلى سبيل المثال، يجب على البقّال التقليدي الذي يخدّم زبائن من ذوي الدخل المرتفع أن يعرض تشكيلة واسعة من المنتجات التي تحظى بتقديرهم بوصفها عالية الجودة. وبالتالي عليه التركيز على اتباع خطوات هادفة ومدروسة ليجعل تقدير الزبائن لأسعار منتجاته تنسجم مع صورته بوصفه متجراً يبيع منتجات عالية القيمة، كانتهاج سياسات ترويجية استراتيجية والاهتمام باللافتات الإعلانية أكثر من تركيزه على تبنّي تكتيكات لتغيير صورته جذرياً، مثل تكتيك مطابقة الأسعار أو منح قسائم الشراء.
أما البقال الذي يبيع منتجاته بأسعار مخفضة، فإنه خلافاً لسابقه، غالباً ما يعرض بضائع تحمل علامة تجارية فارقة للتأثير على تقدير الزبائن للأسعار. ولما كان زبائن ذلك البقال أقل تأثراً بجودة البضائع وتنوعها، فإن بوسعه تقليص تشكيلتها، الأمر الذي يُتيح له خفض أسعارها وبناء سمعة في السوق بوصفه متجراً مخصصاً للبضائع الرخيصة.
ولاختيار التكتيك الأنسب، على الشركة أن تكتسب أولاً فهماً أعمق لسوية أسعارها الراهنة نسبة إلى تقديرات الزبائن. ومن مقارنة أسعار منتجاتها بأسعار منتجات مشابهة لمنافسيها تتكشف فجوات فعلية في تلك الأسعار. ولدى معرفة تقديرات المستهلكين يتبين ما إذا كانوا يرون تلك الفجوات وكيف يقيّمونها. تنطوي تقنيات الاستطلاع الأساسية على الطلب من المستهلكين اختيار زوج من المورّدين المتنافسين وقياس تقديرهم لأسعار منتجات كل منهما. وبجمع مئات أو آلاف الإجابات يتبيّن نمط تقدير خاص لدى الزبائن لأسعار منتجات كل مورّد.
أما المهمة التالية فهي تحديد العوامل الأكثر تأثيراً على تقدير الزبائن للأسعار، وذلك من خلال القيام بزيارات ميدانية إلى نقاط البيع وإجراء استطلاعات رأي المستهلكين حول اللافتات الإعلانية للمورّد وقسائم الشراء وغيرها. ومن جمع الإجابات وتحليلها يستطيع المدراء معرفة تقدير الزبائن لأداء شركاتهم في كل تكتيك متّبع نسبة إلى منافسيهم. فإذا كان تقدير الزبائن لأسعار منتجات سلسلة تجارية ما أدنى من قيمها الفعلية، فإن التحليل يرشد مدير هذه السلسلة إلى أكثر التكتيكات كفاءة في رفع سوية ذلك التقدير.
اقرأ أيضاً: عندما يرضى ويعترض العملاء على شخصنة الأسعا
وتشكّل قاعدة البيانات حول العوامل المؤثرة في تقدير الزبائن للأسعار منطلقاً أساسياً لوضع خطة تهدف إلى إنشاء صورة سعرية فعّالة للمتجر، وتتضمن في الغالب مزيجاً من تعديلات مباشرة في الأسعار إضافة إلى تكتيكات غير مباشرة كبرامج الحوافز والمكافآت على سبيل المثال.
تبيّن خبرة أحد متاجر بيع الألبسة الأوروبية بأسعار مخفضة كفاءة التطبيق المنضبط لبرنامج تقدير الأسعار. ففي مواجهة منافسة قوية من متاجر مشابهة، لجأ هذا المتجر إلى تخفيض حاد وشامل لأسعاره، بيد أن غالبية الزبائن لم يلحظوا ذلك التخفيض بالشكل المطلوب، وبالتالي، لم يحقق المتجر الزيادة المتوقعة في حجم المبيعات. فقرر صاحب المتجر التراجع خطوة إلى الوراء وانتهاج خطة مدروسة بشكل أفضل. ومن خلال اتباع آلية مشابهة لآلية الاستطلاع الموصوفة أعلاه، بادر إلى دراسة أسعار بضائعه وتحليلها نسبة إلى أسعار بضائع منافسيه وتقديرات الزبائن، ووجد أن الزبائن قد كوّنوا انطباعاً خاطئاً بأن أسعار متجره كانت أعلى من أسعار منافسيه الرئيسيين. وقد كان أحد أسباب ذلك الانطباع هو أن المتجر قد عرض عدداً من الشرائح السعرية فاق عدد شرائح منافسيه، الأمر الذي أثار الحيرة لدى الزبائن. كما وجد أيضاً أن الزبائن كانوا أكثر اهتماماً بالأسعار بالنسبة لأصناف محددة من المنتجات كقمصان الأطفال على سبيل المثال.
لقد حدد صاحب المتجر "أدواراً" جديدة لأصناف منتجاته استناداً إلى تقدير الزبائن لها وسعّرها وفقاً لتلك الأدوار. فعلى سبيل المثال، أسند إلى بعض المنتجات دور اجتذاب المستهلكين إلى داخل المتجر، في حين أوكل لأصناف أخرى منها دور تعزيز هوامش الربح. كما عمل على تعزيز مشاوراته حول موضوع الأسعار بهدف جعلها تنسجم مع التقديرات المنشودة، وخفّض عدد الشرائح السعرية. وبالنتيجة فقد بنت الشركة "صورتها السعرية" المرجوة بوصفها متجراً يهتم بالقيمة، وطوّرت منهجاً أكثر استراتيجية في التسعير محققة زيادة في الإيرادات بنسبة قاربت 1%.
وكما أظهرت تجربة هذا التاجر، فإن كفاءة التسعير لا تتوقف على تعديل الأسعار فحسب، بل تتأثر أيضاً بعوامل كثيرة أخرى. كما أن توجيه دفّة الاستثمار نحو تخفيض الأسعار فقط قد لا يزيد من حجم المبيعات، بل قد يأتي بنتائج عكسية إذا لم يلقَ تقديراً كافياً من المستهلكين وإذا لم يتم إقناع الزبائن بالثمن ولم يعادل قيمته الفعلية. وفي المقابل، فإن بعض التكتيكات غير المباشرة مثل إعداد اللافتات الإعلانية واستخدام العلامات الفارقة من شأنها أن تؤثر تأثيراً بالغاً على تقدير المستهلكين للأسعار، ما يشكّل سبيلاً مضموناً لنمو إيرادات مربح.
اقرأ أيضاً: لماذا تستخدم جميع خدمات البث المشابهة لنتفليكس نموذج التسعير نفسه؟