نعيش في زمن يتسم بعدم المساواة، حتى أصبحت أسباب اتساع فجوة التفاوت في الدخل والثروة وتبعاتها محل جدال دائم. وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزه الباحثون في توثيق أنماط تفاوت الدخل أو الثروة في الولايات المتحدة، إلا أننا ما زلنا لا نعرف الكثير حول كيفية تطور الاثنين معاً، وهو الأمر الضروري لفهم أسباب تفاوت الثروة في داخل أميركا تحديداً.
استناداً إلى بحثنا الأخير، تحققنا من أنّ أسعار الأصول كانت عاملاً رئيساً في تشكل التفاوت الاقتصادي في أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من تفاقم عدم المساواة في الدخل على مدار عقود طويلة، إلا أنّ عدم المساواة في الثروة لم يتغير كثيراً حتى الآونة الأخيرة، وهنا نتساءل: لماذا؟
أسباب تفاوت الثروة في داخل أميركا
أظهر بحثنا أنّ الطبقتين الأغنى والأقل غنى تمتلكان فئات مختلفة من الأصول، فتتمثل الحصة الأكبر من ثروة الطبقة الوسطى في السكن والعقارات، في حين تمتلك الطبقة الغنية الحصة الأكبر من الأسهم. ومن التبعات المهمة لهذه النتيجة أنّ ازدهار الإسكان يؤدي إلى مكاسب في ثروات أسر الطبقة الوسطى، والتي تستفيد من الاقتراض في الوقت نفسه، وهو ما يؤدي إلى انخفاض التفاوت في الثروة. من جانب آخر، تُعزز فترات ازدهار أسواق الأسهم الثروة في قمة هرم توزيعها؛ لأن الأسهم التجارية المدرجة وغير المدرجة في البورصة تسيطر على المَحافظ الاستثمارية، وبالتالي، يتفاقم التفاوت في الثروة. إذاً، فإن وجود هذه المحافظ المختلفة يعني أنّ عدم المساواة في الثروة هو في الأساس سباق بين سوقي الإسكان والأوراق المالية. وعلى مدى فترات طويلة من التاريخ الأميركي بعد الحرب، كان هذا السباق هو المحرك الأول لتغيرات توزيع الثروة في الولايات المتحدة.
تطلب بحثنا عملاً تمهيدياً ضخماً؛ لأنّ البيانات الضرورية لدراسة هذه المسألة على المدى الطويل لم تكن متوفرة، لكننا تغلبنا على هذا التحدي من خلال جمع بيانات جديدة لـ"المسح التاريخي للأوضاع المالية للمستهلكين" (HSCF) لأبحاث عدم المساواة في الولايات المتحدة على المدى الطويل.
ومع توفر مجموعة البيانات هذه، وثقنا أنّ محافِظ الاستثمار تختلف مع توزيع الثروة بصورة منهجية؛ فبينما تسيطر أسهم الشركات الكبرى وغير الكبرى على محافظ الأسر الغنية، تتركز محافظ الطبقة الوسطى في العقارات السكنية، إلى جانب استفادتها من الاقتراض. بقيت هذه الاختلافات في المحافظ مسقرة على مر الأعوام.
يشير هذا النمط إلى تشكل توزيع الثروة وفق تغيرات أسعار الأصول، وإلى إمكانية فصل أنماط عدم المساواة في الدخل عنها في الثروة لفترات طويلة؛ فعندما ترتفع أسعار الأصول، تنمو الثروة حتى دون مدخرات، وهو ما يمكن أن يعوض الآثار المترتبة على انخفاض معدل نمو الدخل وانخفاض معدلات الادخار على تراكم الثروة. ونحن نوثق هنا أنّ عدم الترابط هذا قائم على مدى العقود الأربعة التي سبقت الأزمة المالية. وهي الفترة التي سرعان ما خسرت فيها الطبقة الوسطى فيما يتعلق بالدخل لصالح الطبقة الأغنى التي تشكل 10% من المواطنين، على الرغم من هذا حافظت الطبقة الوسطى على حصتها من الثروة بفضل المكاسب الكبيرة في الثروة السكنية. وفي حين أنّ دخول الطبقة الأغنى الـ 10% تجاوزت الضعف منذ عام 1971، فإنّ ارتفاع دخول أسر الطبقة الوسطى لم يتجاوز 40%، كما شهدت مداخيل الطبقة الدنيا ركوداً حقيقياً. ولكن الصورة تختلف عندما يتعلق الأمر بالثروة؛ فبالنسبة إلى الطبقة الدنيا التي تشكل 50% من المواطنين، تضاعفت ثرواتها بين عامي 1971 و2007 رغم انعدام نمو الدخل، أما بالنسبة إلى الطبقتين الوسطى والـ 10% الأغنى، فإنهما تعادلا في معامل نمو ثرواتهما تقريباً عند معامل 2.5، ما أدى إلى فصل التفاوت بين الدخل والثروة لمدة 40 عاماً.
بالنسبة إلى الطبقة التي تشكل أدنى 90% من السكانيا، كانت تغيرات أسعار الأصول جوهرية بصورة خاصة؛ لأنها شكلت الجزء المسيطر من نمو ثرواتها قبل بداية الأزمة العالمية عام 2008. ونحن نُقدر أنه في الفترة بين عامي 1971 و2007، نمَت ثروات الطبقة الـ50% الدنيا بنسبة 97% بسبب تغيرات أسعار الأصول فقط، قبل الأخذ بعين الاعتبار أي عمليات ادخار. كما سجل النصف العلوي لتوزع الثروة مكاسب بما يقرب من 60% بسبب ارتفاع أسعار الأصول. من الناحية السياسية، يُعتقد أنّ هذه الزيادات الكبيرة في ثروات الطبقتين الوسطى والوسطى الدنيا ساعدت في تبديد مشاعر الاستياء بشأن ركود الدخل لبعض الوقت.
الأزمة المالية عام 2008
بدأت الأزمة المالية، وعندما انهارت أسعار المنازل عام 2008 انخفضت قيمة محافظ أسر الطبقة الوسطى بشكل كبير، في حين أنّ الانتعاش السريع في أسواق الأسهم عزز الثروة في القمة. ونظراً للاستثمارات الكبيرة في الأسهم، كانت الأسر الأغنى الـ 10% هي المستفيد الأكبر من ازدهار سوق الأسهم، في الوقت نفسه كانت هي الأقل تأثراً بانخفاض أسعار العقارات السكنية. شكلت تبعات خسائر الثروة الكبيرة لدى الطبقتين الدنيا والوسطى، إلى جانب مكاسب الثروة لدى الطبقة العليا، أكبر اتساع في فجوة عدم المساواة في الثروة في التاريخ الأميركي بعد الحرب. ومن دون أسعار الإسكان الذي يحافظ على نمو ثروة الأميركيين، فإنّ اتساع التفاوت في الدخل، والذي كان مستمراً لعقود من الزمن، أصبح فجأة أكثر وضوحاً.
يدرس بحثنا أيضاً الفجوة العرقية في الثروة؛ فعندما يتعلق الأمر بالأوضاع المالية للأسر في الولايات المتحدة، ما زال العرق هو أول الخطوط الفاصلة. تُوفر بيانات المسح التاريخي للأوضاع المالية للمستهلكين منظوراً جديداً للتطور على المدى الطويل فيما يتعلق بالتفاوت العرقي في الثروة، والذي كان مجهولاً إلى اليوم؛ لأن البيانات لم تكن متاحة.
اليوم، يتشابه التفاوت العرقي الكبير في الدخل مع ما كان عليه في حقبة ما قبل حركة الحقوق المدنية؛ عام 1950، كان دخل أسرة الطبقة الوسطى من أصحاب البشرة البيضاء يعادل ضعف دخل نظيرتها من أصحاب البشرة السمراء. وعام 2016، ما زال الوضع نفسه قائماً. وتُعتبر فجوة الثروة العرقية أوسع من فجوة الدخل، وما زالت كبيرة كما كانت عليه في الخمسينات والستينات. أيضاً، تمتلك أسرة الطبقة الوسطى من أصحاب البشرة السمراء ثروة أقل بنسبة 15% من ثروة نظيرتها من أصحاب البشرة البيضاء. وأصابت الأزمة المالية الأسر من أصحاب البشرة السمراء بصورة خاصة، كما ألغت التقدم المتواضع الذي أُحرز نحو تقليص فجوة الثروة العرقية خلال العقد الأول من القرن الحالي. باختصار، الصورة قاتمة، ونحن نوثّق هذا على مدى سبعة عقود؛ فإلى جانب عدم إحراز أي تقدم نحو سد فجوة الدخل بين أصحاب البشرتين البيضاء والسمراء، فإنّ فجوة الثروة العرقية ثابتة وتمثل حقيقة صارخة لما بعد الحرب في أميركا، كما بقيت الأسر النموذجية من أصحاب البشرة السمراء أفقر من 80% من أسر أصحاب البشرة البيضاء.
هيمنت تغيرات تفاوت الثروة في داخل أميركا طوال السنوات السبعين الماضية على السباق بين سوقي الأسهم والعقارات السكنية، وتشير نتائجنا إلى أنّ ديناميكيات أسعار الأصول وتوزيع المحافظ يجب أن يحتلا الصدارة في البحوث المستقبلية حول أسباب عدم المساواة في الثروة وديناميكيته، كما يجب اعتبار الأزمة المالية حدثاً فارقاً في تفاقم عدم المساواة في الثروة داخل أميركا.
اقرأ أيضاً: