ملخص: إذا أصبح صخب حياتك المهنية طاغياً لدرجة أنه بات من الصعب عليك الاهتمام بجوانب أخرى من حياتك، فأنت لست وحدك. في الواقع، يواجه الموظفون ومؤسساتهم في الوقت الحالي صعوبة في إدارة العديد من الأدوار والهويات المختلفة. فالطبيعة المتطلبة لوظائفنا، التي تفرض علينا أداء أدوار متعددة وبذل المزيد من الجهد والنشاط المستمر، بالإضافة إلى التزامات الحياة الشخصية والضغط الاجتماعي الذي يدفعنا للتركيز على جانب واحد فقط، تحتم علينا تعلم كيفية إدارة هوياتنا المختلفة والتوقعات المرتبطة بها. من خلال إجراء مقابلات مع مئات العاملين، كشف الباحثون أن الاستراتيجيات المناسبة يمكن أن تساعدنا على تسخير هوياتنا المتعددة لصالح أنفسنا وعلاقاتنا والمؤسسات التي نعمل فيها. ويظهر بحثهم أن بعض التغييرات البسيطة في طريقة تفكيرنا في أنفسنا وكيفية تعبيرنا عن هوياتنا والاعتراف بهويات الآخرين يمكن أن يساعدنا على إدارة هوياتنا المتعددة بفعالية والازدهار بصفتنا أشخاصاً كاملين ومتعددي الهويات.
لنأخذ على سبيل المثال الشخصية المعروفة في قطاع الترفيه التي كانت تدير 4 عروض تلفزيونية في الوقت نفسه، شوندا رايمز، والتي وصفت في إحدى محاضرات تيد الحديثة شغفها العميق بعملها قائلة: "عندما أنغمس في العمل بجد، لا يوجد شعور يضاهي ذلك الإحساس. إنه أشبه بالوصول إلى ذروة الأداء، وكأنك تركض في الماراثون، أو حتى كأنك تغني مثل بيونسيه! هذه الأحاسيس كلها في آن واحد. أعشق العمل، فهو يبدأ همهمة في عقلي، تكبر وتكبر، حتى تبدو طريقاً مفتوحاً أمامي يمكنني القيادة فيه إلى الأبد".
لكن على الرغم من شغف رايمز ونجاحها الباهر، قادها تركيزها الشديد على عملها فقط إلى حالة من الاحتراق الوظيفي والإرهاق. ببساطة، لم تعد تستمتع بحياتها. للتعافي، أعادت التركيز على جوانب أخرى مهمة في شخصيتها؛ الأم والصديقة والأخت والرياضية، التي أهملتها بسبب منظورها الضيق الذي يركز على العمل. بدأت تتحدث بجرأة أكبر عن تجاربها امرأة وأمّاً وأميركية من أصل إفريقي تعمل في قطاع الترفيه، تقول: "لا يزال صخب العمل جزءاً مني، ولكنه لم يعد كل شيء في حياتي".
قصة رايمز في الإفراط في الاستثمار بجانب واحد من حياتها؛ أي هويتها المهنية، حتى وصلت للاحتراق الوظيفي، هي نموذج شائع للأسف؛ وعلى النقيض، قصة تعافيها من خلال إحياء جوانب أخرى من حياتها نادرة جداً. إذا أصبح صخب حياتك المهنية طاغياً لدرجة أنه بات من الصعب عليك الاهتمام بجوانب أخرى من حياتك، فأنت لست وحدك. في الواقع، يواجه الموظفون ومؤسساتهم في الوقت الحالي تحدياً في تطوير هوية متنوعة الأوجه والحفاظ عليها. فالطبيعة المتطلبة لوظائفنا، التي تفرض علينا أداء أدوار متعددة وبذل المزيد من الجهد والنشاط المستمر، بالإضافة إلى التزامات الحياة الشخصية والضغط الاجتماعي الذي يدفعنا للتركيز على جانب واحد فقط، تحتم علينا تعلم كيفية إدارة هوياتنا المختلفة والتوقعات المرتبطة بها.
أجرينا مقابلات مع المئات من الموظفين، من استشاريين ومدراء ومهنيين طبيين ومهندسين معماريين ورواد أعمال ومؤلفين ومحامين وموظفي المعرفة وخبراء اللياقة البدنية ومدرسين وضباط عسكريين وصحفيين، فاكتشفنا أن الاستراتيجيات المناسبة يمكن أن تساعدنا على تسخير هوياتنا المتعددة لصالح أنفسنا وعلاقاتنا والمؤسسات التي نعمل فيها. وتشير أبحاثنا إلى أن بعض التغييرات البسيطة في طريقة تفكيرنا في أنفسنا وكيفية تعبيرنا عن هوياتنا والاعتراف بهويات الآخرين يمكن أن تساعدنا على إدارة هوياتنا المتعددة بفعالية والازدهار بصفتنا أشخاصاً كاملين ومتعددي الهويات.
غيّر نظرتك إلى نفسك
الخطوة الأولى هي أن تتحكم في قصتك. ويتطلب ذلك: 1) التأمل في تعقيد شخصيتك، 2) تجنّب تحديد هويتك بناءً على عقلية الربح أو الخسارة، 3) إنشاء الروابط بين هوياتك المختلفة والاستفادة منها.
تأمل في طبيعتك المعقدة
كيف تنظر في الوقت الراهن إلى نفسك وما تفعله؟ هل تشعر بأنك تملك مهارات متعددة ولكنك لا تتقن أياً منها؟ هل يراك الآخرون كذلك؟ لكل واحد منا هويات مختلفة، ولكن وجودنا على الهامش ضمن عدة مجموعات قد يجعلنا نشعر بأننا غرباء على الدوام. على سبيل المثال، أخبرتنا إحدى الممرضات القابلات التي أجرينا معها مقابلة شخصية: "أشعر في بعض الأحيان بأن عملي ممرضة وقابلة يعرضني للانتقادات المرتبطة بكلتا المهنتين، وفي الوقت نفسه، يعني عملي في الوظيفتين كلتيهما أنني لست مقبولة أو محمية تماماً في أي من المجموعتين، وأشعر دائماً بأنني دخيلة عليهما. لذلك غالباً ما أحاول اتخاذ الخيار الآمن والالتزام بالممارسات المقبولة عموماً في المجموعتين".
إذا لم نعالج هذا الخوف، فقد يقيدنا: لقد منع الممرضة القابلة من الانخراط في مسؤولياتها المهنية على أكمل وجه. يتطلب التغلب على هذا الخوف الاعتراف به وتحديد سببه الجذري. هل تجعلك هوياتك المتعددة تشعر بالضعف؟ هل تقلق من أن إحدى هوياتك قد تقوّض الهوية الأخرى؟ هل تشعر بأنك دائماً على الهامش ولا تنتمي إلى أي مكان؟
بمجرد تحديد مصدر خوفك، يصبح بمقدورك وضعه في سياقه الصحيح. متى يظهر هذا الخوف وأين؟ ما الذي يثيره؟ كيف يرتبط خوفك بالعلاقات بين المجموعات أو الأدوار المختلفة التي تنتمي إليها؟ على سبيل المثال، أدركت الممرضة القابلة من خلال مراقبة استجاباتها أن مخاوفها تظهر غالباً خلال المناوبات مع طبيب تعتبره تقليدياً ويميل إلى التسلسل الهرمي. وبعد مزيد من التأمل، أدركت أن المشكلة لم تكن الطبيب، الذي لم ينتقد في الواقع أياً من ممارساتها المتعلقة بالقبالة، بل كان خوفها من أن يعتبرها الآخرون "دخيلة". من خلال الاعتراف بهذا الخوف وفهمه، يمكننا التغلب عليه.
تحرر من فكرة "إما/أو" تجاه هوياتك
لدى الكثير منا ميل طبيعي لتقسيم ذواتنا إلى أجزاء أصغر يسهل تحديدها، تتنافس على وقتنا واهتمامنا. نفكر على سبيل المثال "إذا أصبحت شخصية معينة، فذلك ينتقص من دوري في شخصية أخرى". لكن الهويات ليست مفاتيح يمكن تشغيلها وإيقافها، حتى لو كان محيطنا يفضل أحياناً أن نبقى محصورين في قالب محدد. ومثلما أخبرتنا امرأة أميركية من أصل إيراني: "أنا لست نصف إيرانية ونصف أميركية، بل أنا بالكامل من كليهما". ومثلما قالت الدوقة الممثلة والناشطة ذات الأصول المختلطة، ميغان ماركل، لمجلة إيل (Elle) في إحدى المقابلات معها: "بوصفي 'ملتبسة عرقياً' مثلما وصفوني في هذا القطاع، من المفترض أنه يمكنني أداء أي دور تقريباً، لكن لم يكن لذلك أي أهمية للأسف؛ فلم أكن سمراء بما يكفي لأداء أدوار السُّمر ولم أكن بيضاء بما يكفي لأداء أدوار البيض، فكنت في مكان بينهما أو امرأة 'متلونة عرقياً' لا تستطيع الحصول على وظيفة".
لكن ماركل تغلبت على هذا الأمر، وقالت: "ربما خلق أصلي المختلط منطقة رمادية تحيط بهويتي الذاتية ما جعلني أشعر بأني مضطرة للتعايش بين عالمين، لكني تعلمت تقبّل هذه الحقيقة. أنا أعلن من أنا وأشارك أصولي وأعبّر عن اعتزازي بأني امرأة مختلطة العرق قوية وواثقة بنفسها".
لا تجبر نفسك على اختيار جانب واحد فقط من هويتك، فامتلاك هوية واحدة لا يلغي تلقائياً هوية أخرى، ومحاولة تبديل الهويات من حين لآخر يمكن أن تستنفد الوقت والطاقة. يمكن أن يساعدك تقبّل هذا الواقع على تحديد الروابط بين هوياتك التي يمكنك الاستفادة منها لاحقاً.
أنشئ روابط بين هوياتك
لا تفكر في كل هوية من هوياتك على أنها جزء منفصل من شخصيتك، بل فكر في كيفية ترابطها وتأثير بعضها المحتمل في بعض بطرق مفيدة. ثمة نهج لتحقيق ذلك يتمثل في استخدام عقلية "شاملة" والبحث عن سمة مشتركة تجمع بين هوياتك. على سبيل المثال، تحدثنا في إحدى دراساتنا إلى أفراد مشاركين في فعاليات رياضية لجمع التبرعات لقضية خيرية (مثل ركوب الدراجة الهوائية لصالح مستشفى للأطفال). قال أحد المشاركين، وهو راكب دراجات متحمس: "يجمع هذا الحدث شغفي كله؛ ركوب الدراجات والعطاء ومساعدة الأطفال". ووصف مشاركون آخرون كيف أصبحوا ينظرون إلى هوياتهم المتعددة على أنها "حزمة واحدة" حيث لا يمكن عزل جانب من جوانب شخصياتهم عن الآخر.
للبدء بإنشاء روابط بين هوياتك المتعددة، فكّر في سبب أهميتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض. على سبيل المثال، أوضح أحد المشاركين في دراسة أخرى أن وظائفه المختلفة جميعها؛ مهندس تكنولوجيا المعلومات وصحفي وفنان، تتلاقى حول مهارة الكتابة. لتحديد سمة مشتركة بين هوياتك، ابتعد قليلاً عن صخب أدوارك المختلفة اليومية وحاول العثور على القاسم المشترك بينها، مثل المهارة المشتركة أو المعنى أو الغاية من هذه الأدوار.
ثمة نهج آخر يتمثل في التفكير في كيفية تكامل هوياتك فيما بينها. على سبيل المثال، أخبرتنا إحدى السيدات، وهي قسيسة ومعلمة كاراتيه ومدربة يوغا، كيف دمجت وظائفها في مهنة مُرضية. تقول: "أعتقد أن الإيمان لا يركّز فعلياً على الجانب المادي للحياة، بل يتناول الجوانب العقلية والروحية. بالنسبة لي، معلم اليوغا هو مجرد شخص يساعد الناس على تطوير ممارسة شاملة في حياتهم تشمل كلاً من الجانب الروحي والعقلي والجسدي، جوانب الإنسان كلها". لقد سمعنا قصصاً مماثلة من متخصصين في قطاعات أخرى حول كيفية أدائهم مجموعة متنوعة من الأدوار المتميزة التي مكّنتهم من تجسيد ذواتهم بالكامل.
استفد من هذه الروابط
يمكن أن يحسّن تقبّل هوياتك المتعددة قدرتك على تفهّم وجهات نظر الآخرين والانخراط في سلوكيات مبتكرة وخلاّقة. هل يمكنك تحديد طرق لإعادة توظيف المهارات التي تعلمتها من إحدى الهويات لإفادة هوية أخرى؟ اسأل نفسك: "كيف تمكّنني هويتي تلك من تطوير نفسي في هويتي الأخرى؟"
على سبيل المثال، تحدثت الممرضات القابلات اللواتي أجرينا معهن مقابلات عن دمج خلفيتهن في القبالة والتمريض الطبي لإيجاد حلول مبتكرة للمرضى. وبالمثل، اكتشف رئيس قسم الأشعة، المكلف بدمج أقسام الأشعة في مستشفيين يندمجان، أوجه تآزر كبيرة بين هوياته الوظيفية، وقال: "ينطوي دوري من الناحية الإدارية على إدارة التغيير وتوجيه المستشفيين خلال التغييرات المعقدة. لكن خلفيتي في المجال السريري وخاصة خبرتي في مجال الأشعة في حالات الطوارئ كانت لا تقدر بثمن، فقد استفدت من العلاقات التي كوّنتها والعمل في قسم الطوارئ بصفتي مختصاً في الأشعة في تنفيذ التغييرات التي نجريها هنا".
يمكن أن تكون الروابط بين العمل والمنزل مؤثرة أيضاً. أجرينا مقابلة شخصية مع مصممة من أصول مكسيكية كانت تنتمي إلى مجموعة عرقية بيضاء وعملت في مشاريع الأثر الاجتماعي، حيث قالت إنها نشأت في عائلة متنوعة جداً في العديد من النواحي، الاجتماعية والاقتصادية والعرقية والتعليمية، وإن تجربتها هذه ساعدتها على فهم الناس على حقيقتهم وليس وفقاً لأي نوع من التصنيفات المسبّقة. وقد طبقت هذه العقلية على عملها، فعززت ثقافة تنظيمية فريدة في شركتها تقلل من دور المصمم بصفته صاحب السلطة الوحيد وتضع بدلاً من ذلك سلطة اتخاذ القرار في أيدي عملائها.
غيّر أسلوب تعاملك مع الآخرين
صحيح أن تغيير نظرتنا إلى أنفسنا هو الخطوة الأولى الضرورية، لكننا نحتاج أيضاً إلى تغيير طريقة تجسيد هوياتنا في أفعالنا من أجل إدارة نظرة الآخرين إلينا وطريقة تعاملهم معنا. في بعض الأحيان، يمكن للعلاقات في مجال واحد من حياتنا أن تمارس ضغطاً يجعلنا نهمل جوانب أخرى من هويتنا، أو يمكنها أن تخلق تحديات تجعلنا نشعر بأنه من الأسهل أن نظهر هوية واحدة. على سبيل المثال، عندما يطلب مدير من أب موظف أن يرافق عملاء زائرين في اللحظة الأخيرة، فقد يوافق على مضض، حيث يشعر بأنه مضطر لقمع هويته الأبوية والتزامه تجاه أطفاله من أجل الظهور بمظهر الموظف الجيد. يمكنك إدارة الطريقة التي ينظر بها الآخرون إليك من خلال: 1) تحقيق التوازن بين هوياتك، 2) إدارة حدود دورك، 3) إثبات أصالتك.
حقّق التوازن بين هوياتك
قد لا تكون أنت من اختار هوياتك المتعددة، ولكن ما يمكنك التحكم فيه هو طريقة عيشك لهذه الهويات. ستؤثر الطريقة التي تنظم بها وقتك وبيئتك في قدرتك على تحقيق التوازن والحفاظ عليه، ويختلف هذا التوازن من فرد لآخر.
بالنسبة للبعض، قد ينطوي ذلك على تكريس المرء نفسه بالكامل لدور واحد لفترة محددة، ثم تحويل التركيز إلى أدوار أخرى لتجديد نشاطه. أو قد ينطوي ذلك على تخصيص وقت كافٍ لدور واحد فقط للشعور بالرضا، مع التركيز بصورة أكبر على أدوار أخرى. على سبيل المثال، قد تجد رائدة الأعمال الطموحة أن ساعة من الكتابة المركزة في الصباح الباكر هي كل ما يتطلبه الأمر لتشعر بأنها تحرز تقدماً في مشروعها الجانبي، ثم يمكنها بعد ذلك التوجه إلى وظيفتها الأساسية وهي تشعر بالحيوية والإلهام.
بالنسبة لآخرين، قد يتطلب تحقيق التوازن التخطيط الدقيق لأسابيعهم المقبلة لضمان تخصيص وقت لأداء كل دور من أدوارهم بانتظام. لقد تعلّم أحد استشاريي الإدارة الذين تحدثنا إليهم أن يتعامل مع أسرته بالقدر نفسه من الأهمية التي يوليها لأي عميل لضمان قدرته على تخصيص وقت لهم خلال أسبوع العمل.
بمجرد ترسيخ مثل هذه الممارسات، من المهم التعبير عنها للآخرين بوضوح لتشكيل توقعاتهم تجاهك وتجنب الخلافات الشخصية والحصول على مساعدتهم في الحفاظ على أولوياتك. من المفيد أيضاً أن تراجع نفسك بانتظام. أخبرتنا إحدى السيدات التي تعمل في 4 وظائف بأنها بدلاً من تقييم "توازنها" في نهاية كل يوم أو أسبوع، كانت تخصص وقتاً في نهاية كل شهر لتقييم إذا ما كانت راضية عن تخصيص وقتها وطاقتها، والتغييرات التي تحتاج إلى إجرائها للشهر المقبل.
أدر حدود هوياتك
خطوة مهمة أخرى هي إدارة حدود هوياتك بطريقة تحمي كل هوية مع تمكين التآزر بينها، وهذا يتطلب فطنة اجتماعية وقدرة على التكيف. على سبيل المثال، طور بعض مستشاري الإدارة علاقات مع زملاء يمكنهم التعبير لهم بصراحة عن التزاماتهم تجاه كل من العمل والعائلة، حيث يقدم هؤلاء الزملاء لهم الدعم العاطفي وكذلك العملي (مساعدتهم على رفض طلبات العمل الإضافية مثلاً) حتى يتمكنوا من الحفاظ بصورة أفضل على الحدود بين العمل والمنزل.
يلجأ البعض الآخر على نحو متزايد إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتحكم في الحدود بين هوياتهم. على سبيل المثال، يمكن للشخص الذي يتنقل بين عدة وظائف استخدام منصات معينة (إكس ولينكد إن) للنشاطات المهنية، ومنصات أخرى (فيسبوك) للجوانب الشخصية. تحدثت صحفية قابلناها عن الفصل الكامل على الإنترنت بين حياتيها الشخصية والمهنية قائلة: "أتعامل مع الكثير من الأفراد المزعجين، لدرجة أنني غيرت إعدادات حسابي على فيسبوك وجعلت نفسي بعيدة المنال قدر الإمكان. لا يمكن لأحد العثور على حسابي على الرغم من أنهم يقولون لي في كل مؤتمر صحفي أحضره إنه يجب أن يكون لدي حساب عام في فيسبوك حتى أتمكن من التفاعل مع الآخرين، لكنني لا أستطيع. يجب أن أحمي نفسي".
عبّر عن نفسك بصدق، ولكن بطريقة مدروسة
نواجه جميعاً ضغطاً مجتمعياً لكي "نكون صادقين". لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنك مضطر إلى أن تكون شفافاً تماماً وتشارك كل شيء عن نفسك مع الجميع طوال الوقت. يمكنك مشاركة جوانب مختلفة من هويتك اعتماداً على تفضيلاتك وظروفك.
في إحدى دراساتنا مثلاً، كشف الأشخاص الذين يشغلون وظائف متعددة تدريجياً عن جوانب من هوياتهم عندما كان ذلك وثيق الصلة بتفاعلاتهم مع العملاء. على سبيل المثال، لم تتحدث إحدى العاملات في مجال رعاية الأطفال التي كانت تدير أيضاً متجراً لأغذية الأطفال عن متجرها إلى الآباء إلا عندما شعرت بأنه يمكنهم الاستفادة من بعض النصائح الغذائية لأطفالهم.
غالباً ما يكون الأشخاص الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين ماهرين في تغيير الجانب الذي يبرز من هويتهم بحسب الثقافة التي يتفاعلون فيها. وتمتد هذه الممارسة حتى داخل البيئات المهنية. أخبرتنا إحدى الموظفات في وول ستريت بأنها تربط أجزاء مختلفة من هويتها بعملاء مختلفين، إذ يمكنها أن تقدم شخصيتها الجنوبية المتزنة بصدق عندما تقابل عملاءها في برمنغهام، في حين تقدم شخصيتها النيويوركية الحازمة بصدق أيضاً عندما تتفاوض في مانهاتن.
تقبّل تعقيد الآخرين أيضاً
التفكير في أنفسنا وعلاقاتنا خطوة أولى ضرورية للازدهار في ظل التعقيد، لكن التغيير الحقيقي يتطلب منا أيضاً الاعتراف بتعقيد الآخرين. لتحقيق ذلك، يجب أن 1) إعادة تقييم قدواتنا و2) تشجيع الآخرين على قبول التعقيد.
إعادة تقييم قدواتنا
نحتاج جميعنا إلى توسيع نطاق سردياتنا حول ما يشكّل النجاح. تتأثر حياتنا المهنية إلى حد كبير بالقدوات التي نحتذي بها. في كثير من الأحيان، نتصوّر أبطال العمل على أنهم أحاديو الجانب، ونركز على جزء واحد فقط من هوياتهم ونتجاهل حقيقة أن جوانب أخرى من ذواتهم ربما أسهمت في نجاحهم.
على سبيل المثال، تعمدت المخرجة المشهورة، شوندا رايمز، خلق شخصيات معقدة ومتعددة الأوجه في مسلسلاتها التلفزيونية بهدف تطبيع الخلفيات كلها وتوجيه وعينا الاجتماعي للابتعاد عن فكرة وجود طريقة صحيحة واحدة للعيش.
وبالمثل، يمكننا جميعاً العمل على زعزعة سردياتنا المشتركة حول ما يتطلبه النجاح. تشارك مؤلفة كتاب "توقع الربح" (Expect to Win)، كارلا هاريس، أمثلة على مواقف ساعدها فيها المرشدون داخل مؤسستها على إظهار ذاتها المتعددة الأوجه، مثلما حدث عندما دعاها أحد الزملاء الرعاة للغناء في حفل عمل. لقد أسهم ذلك في مساعدتها على التواصل بطرق هادفة مع زملاء آخرين وفي النهاية جعلها تشعر بأصالتها في العمل.
يضطلع القادة والمدراء بدور مهم في هذا الصدد أيضاً، إذ يتعين عليهم التفكير ملياً فيمن يميزونه ويثنون عليه من أعضاء الفريق. على سبيل المثال، أخبرتنا إحدى رائدات الأعمال بأنها عندما تقدّم المتحدثين الضيوف في المؤتمرات التي تستضيفها تحرص على دمج حقائق مثيرة للاهتمام حول خلفية المتحدث وأدواره الأخرى من أجل إبراز تعقيد شخصيته.
تتشارك المؤسسات أيضاً مسؤولية تعزيز تعقيد الهويات في مكان العمل، ويمكنها تحقيق ذلك من خلال الاعتراف صراحة بأن للموظفين أكثر من جانب واحد فقط، ومكافأة مختلف أنواع الأداء. على سبيل المثال، تقول إحدى مؤسِّسات التمويل المتناهي الصغر الملتزمة بتعزيز مهمة اجتماعية وتحقيق الجدوى التجارية إن الموظفين هم عاملون في مجال الخدمات الاجتماعية ومصرفيون في آن معاً. ولضمان اضطلاعهم بالدورين كليهما، تكافئ موظفي الإقراض على نجاحهم التجاري وكذلك على النهوض بمهمتهم الاجتماعية.
شجع الآخرين على توسيع هوياتهم
الخطوة التالية هي مساعدة الآخرين على تبني هويات متعددة. يجب أن يدرك القادة والمدراء قوتهم في صياغة المعايير والسياسات التي تسمح (أو تمنع) بتعدد هويات الموظفين. على سبيل المثال، تشير بيانات أولية من دراسة نجريها مع نخبة من الضباط العسكريين إلى أن معظمهم يرون أن توسيع نطاق الخبرات، الذي يعرّف على أنه مجموعة مهام تجبر الجنود على الانخراط في أدوار تتجاوز نطاق تخصصهم الحالي، عنصر حاسم في التدريب على القيادة. في الواقع، يحدد بعض قادة الجيش الذين تحدثنا إليهم توسيع نطاق هويات مرؤوسيهم هدفاً صريحاً في فلسفات قيادتهم.
في سياق مختلف، طلب المشرفون في شركة تصميم من الموظفين عدم العمل لساعات طويلة جداً، وبدلاً من ذلك الخروج إلى العالم واستخدام هوياتهم الأخرى. لقد أدركت هذه الشركة أن مساعدة الموظفين على توسيع نطاق هوياتهم يمكنّهم من الإسهام في عملهم برؤى أكثر ابتكاراً وتفرداً.
والأهم من ذلك، يجب على القادة أن يتبنوا تعقيد هوياتهم هم أنفسهم ليضمنوا شعور الآخرين في مؤسساتهم بأن الكشف عن تعقيداتهم آمن وعلى درجة من الأهمية. على سبيل المثال، تتقبّل الرئيسة التنفيذية لشركة أكسيوم (Axiom)، إيلينا دونيو، دمج مسؤولياتها بصفتها أماً مع حياتها المهنية وتتحدث عن هذا الجانب بصراحة في المنتديات العلنية أو الخاصة. تشير بياناتنا إلى أن إظهار مثل هذا التعقيد مهم جداً. فعلى سبيل المثال، بدأ صحفي شارك في إحدى دراساتنا بكتابة مقالات مؤثرة حول قضايا الهجرة بعد أن ألهمه صحفي آخر كشف عن وضعه غير القانوني.
لكي نكون فعالين في مكان العمل المعاصر، علينا أن ننتقل بعقليتنا وأفعالنا من إدارة الذات إلى إدارة مجموعة ذوات. قد يؤدي ذلك في البداية إلى بعض الفوضى، لكن بمجرد أن نتقبل تعقيداتنا بالكامل، يمكننا أن نشعر بمزيد من الرضا وننشئ مؤسسات ومجتمعات أكثر استدامة ومرونة.