لطالما ارتبطت التنمية الاقتصادية لأي بلد بالقطاع العقاري، وهو الأمر الذي أخذته المملكة العربية السعودية في الاعتبار عند وضعها قطاع العقارات أحد الركائز الأساسية لتحقيق مستهدفات رؤية 2030 الطموحة، وظهر ذلك بشكل واضح في التحوّل الذي شهده القطاع في السنوات الخمس الأخيرة، حيث تبنت المملكة نموذجاً مثالياً للنهوض بالقطاع، من خلال التركيز على قطاع العقارات السكنية للمواطنين والعقارات المكتبية والتجارية المرتبطة بتحوّل بقية القطاعات أو المشروعات الوطنية الكبرى، ما حقق نمواً ملحوظاً في حجم السوق.
دفع هذا النموذج نحو تحوّل السعودية إلى "أكبر موقع بناء في العالم" خلال السنوات الخمس الماضية، حيث صُنف قطاع البناء السعودي أقوى قطاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في السنوات الأربعة الأخيرة.
صاحب هذا النمو في الأنشطة وزيادة الطلب في السوق تغييرات متعلقة بتفضيلات المستهلكين في السعودية، سواء للمواطن أو المقيم، ما جعل القطاع في حالة حركة ديناميكية للاستجابة إلى هذه التغييرات، ليتحوّل إلى قطاع تنافسي جاذب للاستثمارات المحلية والأجنبية، ومحركاً رئيسياً لنمو العديد من القطاعات.
وسيطرت خمسة مشاهد على السوق العقاري بالسعودية بسبب مجموعة من القرارات والمبادرات الحكومية التي قادت هذا النمو، جاءت على النحو التالي:
1. نمو قطاع العقارات السكنية
فيما يتعلق بالجانب العقاري السكني، أطلقت المملكة برنامج الإسكان، أحد برامج رؤية 2030، والذي يهدف إلى رفع نسبة تملك الأسر السعودية للسكن الخاص إلى 70% بحلول العام 2030، مع وجود التسهيلات في الإجراءات، والخيارات التمويلية المتاحة، والإجراءات التنظيمية والتشريعية الصادرة مؤخراً.
فعلى سبيل المثال، سهّل برنامج الإسكان إجراءات التملك باستحقاق فوري للحصول على القرض العقاري المدعوم عوضاً عن فترات الانتظار التي كانت تصل إلى 15 سنة، كما بسّط إجراءات القروض، وهذا بدوره قاد إلى نمو القروض العقارية السكنية ما أسهم في تعزيز العرض وتمكين الطلب.
حرصت المملكة على إشراك القطاع الخاص في كافة مراحل تطوير سوق العقارات، ومن ضمنها العقارات السكنية، إذ نجح البرنامج في تحفيز العرض عبر الشراكة مع القطاع الخاص من مطورين عقاريين وإنشاء الشركة الوطنية للإسكان، ومركز "إتمام" لخدمات المطورين، كما أطلقت وزارة الإسكان برنامج "شراكات" بهدف إقامة شراكات بين الوزارة والقطاع الخاص، عبر توفير حلول ومنشآت سكنية عالية الجودة بما يناسب متطلبات المواطن واحتياجاته وبالسعر الذي يتلاءم مع دخله.
2. تغيّر تفضيلات المواطن للعقارات
شهدت الفترة الأخيرة تغييرات رئيسية في التفضيلات العقارية للمواطنين، والتي ارتبطت بتغييرات ديموغرافية واجتماعية في التركيبة السكانية للمملكة. فعلى سبيل المثال، أقبل السعوديون على مدار سنوات طويلة على شراء المنازل الكبيرة باعتبارها "منازل العائلة"، ولكن مع خروج المزيد من الشباب السعودي من منازل عائلاتهم للبحث عن وظائف في مكان آخر، لا سيما من جيل زد، شهد سوق العقارات في المملكة العربية السعودية انخفاضاً في الطلب على المنازل الكبيرة، مقابل ارتفاع الطلب على العقارات الصغيرة أو المتوسطة الحجم، وهو الأمر الذي بدأت شركات التطوير العقاري الاستجابة له بزيادة التسويق للأخيرة.
ارتبطت تفضيلات المواطنين المتغيرة أيضاً بعامل آخر وهو الانفتاح على التصاميم الحديثة التي تعني باستغلال المساحات بدقة عالية، ولا تغفل جانب احتياج العائلة، ما أكسبهم نمط حياة أكثر عملية، ومتطلبات مرتبطة بتحقيق المزيد من وسائل الرفاهية.
وقد استجاب المطورون العقاريون إلى هذا التغيير من خلال زيادة المعروض من العقارات السكنية في مناطق المستفيدين وجعلها قريبة من المرافق الخدمية كالمدارس والمساجد وصالات الألعاب الرياضية والمطاعم والمعارض التجارية، ما يؤكد أن العقارات قطاع مفضل لدى المستثمرين الصغار والكبار، وخصوصاً الذين يواكبون التغيير والتطوير.
3. ارتباط القطاع العقاري بالتحول الاقتصادي في القطاعات الأخرى
شهد قطاع العقارات التجارية والمكتبية بدوره نمواً كبيراً، بالتزامن مع النقلة الاقتصادية التي تتخذها المملكة بتنويع مصادر اقتصادها، عبر التركيز على مضاعفة الناتج المحلي من قطاعات مثل الصناعة والسياحة والضيافة والتجارة والتجزئة والقطاع اللوجستي والترفيه، والتي تحتاج جميعها للقطاع العقاري لتلبية احتياجاتها، ما يجعل خيار المملكة محركاً رئيسياً لنمو العديد من القطاعات، إذ يرتبط بأكثر من 120 صناعة اقتصادية أخرى.
إن من أكثر القطاعات التي شهدت نمواً في أنشطة البناء والتشييد العقارات الصناعية والخدمات اللوجستية، وذلك بتهيئة البنية التحتية ولا سيما في المدن الواعدة، حيث قدّم صندوق التنمية الصناعية السعودي محفّزات تمويلية للمشاريع الصناعية في المناطق والمدن ذات المستقبل الواعد.
أما قطاع المساحات المكتبية، ولا سيّما بعد قرار فرض المملكة على جميع الشركات الأجنبية التي تعمل مع الحكومة نقل مكاتبها الرئيسية إلى المملكة العربية السعودية، فهو عامل رئيس لنمو القطاع وعرض مزيد من المباني المكتبية لتغطية الطلب الهائل على الشركات والمستثمرين الأجانب.
4. تطوير البيئة التنظيمية
تأسست الهيئة العامة للعقار لتنظيم النشاط العقاري غير الحكومي والإشراف عليه وتطويره، وتنظيم المعارض العقارية، وكذلك لوضع أسس تحديد المقابل المالي للأنشطة العقارية بما لا يخل بقواعد المنافسة، وتوفير البيئة المنافسة العادلة في هذا المجال، ووجود مؤشرات للقطاع ضمنت تحقيق الاستقرار والتوازن.
كما أصدرت المملكة عدة مبادرات لتنظيم المعاملات في القطاع وتسهيل الإجراءات، مثل برنامج "اتحاد الملّاك" الذي يهدف إلى تسهيل إجراءات إنشاء اتحادات الملاك لتنظيم العلاقة بين الملاك وشاغلي الوحدات السكنية ذات الملكية المشتركة، وبرنامج "وافي" الذي يعمل على إصدار تراخيص مزاولة نشاط بيع أو تأجير الوحدات العقارية على الخارطة، ومركز "إتمام" الذي يسعى إلى تقديم طلبات التراخيص والاعتمادات والتسليمات وتوجيهها ومتابعتها لدى الجهات المختلفة، ومنظومة "إيجار" لحفظ حقوق جميع الأطراف المعنية بالعقد الموحد للإيجار السكني بغرض تأسيس سوق عقاري إيجاري منظم وموثوق به، ومنصة "البناء المستدام" لحماية الراغبين في تملك المساكن، وإطلاق خدمة "فحص جودة البناء"، وخدمة "فحص المباني الجاهزة".
5. تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي
سعت المملكة إلى جذب الاستثمارات إلى القطاع العقاري، سواء المحلية أو الأجنبية، فأنشأت صناديق الاستثمار العقاري (REITs) في عام 2016، والتي تسمح للمستثمرين المحليين والدوليين بالمشاركة في سوق العقارات، ما يشجّع الشفافية والسيولة وممارسات الإدارة المهنية، وكانت هذه الخطوة حاسمة في جذب الاستثمار الأجنبي وتحفيز النمو.
كما اتخذت المملكة خطوة أخرى لا تقل أهمية بالنسبة للمستثمر الأجنبي عبر تحرير السوق العقاري وتخفيف قواعد الملكية الأجنبية، فبعدما كانت ملكية الأجانب للعقارات في المملكة مقتصرة على حالات محددة، أصدرت الحكومة قراراً يسمح للأجانب والأفراد والشركات بتملك العقارات، مع وضع شروط للحفاظ على السيطرة والرقابة. وقد أسهم هذا القرار في زيادة الاستثمار الأجنبي وتعزيز تطوير المشاريع الضخمة.
أدت هذه التحولات إلى إبراز القطاع العقاري السعودي كأقوى قطاع في المنطقة، خاصة مع صعوده وتحقيقه أرقاماً قياسية في 5 سنوات فقط، كشاهد على الجهود التي بذلت لتحويل الرؤية التي يراها الكثيرون مستحيلة إلى واقع ملموس، بل وتجاوزها في بعض القطاعات.