حينما يحلُّ فصل الصيف، يشعر الكثيرون منّا بالحنين إلى عهد الطفولة والإجازات الصيفية بأيامها الطويلة الخالية من الهموم ونهارها الذي نقضيه على الشواطئ أو في المروج الخضراء أو بصحبة الأصدقاء وأفراد الأسرة.

لكن بعد أن كبرنا قد يبدو لنا تكرار هذه الذكريات ضرباً من الخيال الذي يستحيل تحقيقه على أرض الواقع.

إذا كنت مواطناً أميركياً، فالاحتمال الأغلب أنك تحصل على إجازات أقل بكثير من العاملين في الدول الأخرى؛ لأن غالبية الشركات والمؤسسات في الولايات المتحدة تمنح الموظف 10 أيام إجازة مدفوعة الأجر فقط، مقابل 28 في المملكة المتحدة و30 في فرنسا، كما أن الولايات المتحدة هي الاقتصاد المتقدم الوحيد الذي لا يضمن تقديم إجازات لموظفيه، ووفقاً لتقرير صادر عن مركز البحوث الاقتصادية والسياسية (Center for Economic and Policy Research)، فإن 1 من كل 4 أميركيين لا يحصل على إجازة مدفوعة الأجر مطلقاً. علاوة على ذلك، من بين الموظفين الأميركيين الذين يأخذون إجازة بالفعل، ينتهي الأمر بمعظمهم بالعمل في أثناء إجازتهم؛ وبخاصة في ظل انتشار الهواتف الذكية وشبكات الواي فاي التي أدت إلى زيادة صعوبة الانفصال عن أجواء العمل.

لكن المشكلة لا تقتصر على الولايات المتحدة وحدها؛ فقد أثبت استقصاء أجرته شركة إبسوس/رويترز في عدد من الدول أن ثلثي الموظفين فقط يستغلون فعلياً أيام إجازاتهم كلها. وأينما كنت تقيم، فإذا كنت شخصاً يدير شركته الخاصة أو تعمل بنظام التعاقد الحر أو بنظام الأجر بالساعة، فإن الإجازة قد تعني خسارة العملاء أو التخلي عن جني أرباح محتملة. أضف إلى ذلك الاتجاه المتزايد نحو حياة العمل بنظام “العامل الحر” الذي يُوصف فيه الفرد بأنه متعاقد مستقل تربطه علاقات ضعيفة بالمؤسسة التي يعمل فيها، وهو ما أدى بدوره إلى عدم استفادة شريحة كبيرة من قوة العمل من فوائد الإجازة.

ولكن حتى الموظفون الذين يتقاضون رواتب في الشركات المستقرة الذين يحق لهم الحصول على إجازات مدفوعة الأجر قد يشعرون، ولهم كل الحق، بأنهم لا يستطيعون مغادرة مقرات العمل لفترة طويلة من الزمن. توضح عضو هيئة التدريس المنتسبة في مركز المؤسسات الإيجابية (Center for Positive Organizations) بجامعة ميشيغان، مونيكا ورلين، أن هذه الظاهرة “تعكس الضغط الناتج عن ضرورة العمل ورفع معدلات الإنتاج”. ومن هنا كانت التداعيات المحتملة للحصول على إجازة هي السبب الأكثر شيوعاً في ظل هذه الظروف. ماذا لو استُغني عنهم؟ أو اعتبرهم رؤساؤهم أشخاصاً غير مسؤولين؟ ماذا لو تفوق عليهم زملاؤهم ومنافسوهم أو تولوا زمام الأمور بطريقة أو بأخرى؟ ماذا لو حدثت مشاكل جسيمة في أثناء غيابهم؟ ماذا لو شكّك مدراؤهم في إخلاصهم للعمل؟ (عندما اكتشف ستيف جوبز أن أحد موظفيه قد لعب الغولف، صاح قائلاً: “غولف؟! مَن لديه الوقت للعب الغولف؟” ففيما يخص الإجازات، قد يرى المدير الذي يتبع نهج القيادة الحازمة أن الهوايات والأنشطة الترفيهية ليست سوى وقت مُهدَر في حياتك كان من الممكن استغلاله في شيء بنّاء).

أما أرباب العمل فيسرّهم أن يروا موظفيهم وهم يتفقدون أحوال العمل في أثناء الإجازة ويكفي أن يبعثوا لهم برسالة إلكترونية ليتجاوب موظفوهم مع احتياجات المؤسسة. فاستمرار حضور موظفيهم حتى في أثناء العطلة سيضمن في نهاية المطاف عدم إغفال أي شيء وسيتيح لهم دائماً القدرة على العثور على شخص يمكن التوجه إليه عند ظهور أي طارئ. وأثبتت الأبحاث أن المدراء يميلون إلى الحكم على إخلاص الموظفين للمؤسسة من خلال مستويات “سلوك الانتماء” الذي يتضمن في بعض الأحيان عدم الاكتفاء بأداء مهامهم الوظيفية لخدمة الصالح العام. وإذا خلط المدراء بين عدم أخذ الإجازة والانتماء، أو لم يدعموا حصول موظفيهم على إجازاتهم، فسيترك الموظفون الكثير من أيام إجازاتهم دون استغلال بغض النظر عن السياسات المؤسسية العامة.

وللأسف فإن منطق كلٍّ من الموظفين وأرباب العمل منطق معيب للغاية؛ فقد فشل كلاهما في إدراك أن تخفيض وقت الإجازات يضر في الواقع بكلٍّ من المؤسسات وموظفيها من حيث التكاليف المالية والإنتاجية، لكن على الرغم من أنني أتمنى أن يكون الأمر مختلفاً، فإنني أدرك أنه ما لم يحصل الموظف على أكبر قدر ممكن من وقت إجازته أو لم يستطع الحصول على أي إجازة أو كان يعمل تحت إشراف مدير يتذمر من فكرة الحصول على إجازة لأسبوعين متتاليين، أو حتى إجازة مدة أسبوع كامل، فعليك أن تجد حلاً بديلاً.

ومن المهم أن تفعل ذلك؛ إذ تشير الأبحاث التي أجرتها سابين سونينتاغ إلى أن الانفصال عن العمل أمرٌ ضروريٌ لتعزيز الإنتاجية. أثبتت دراساتها أن الأشخاص الذين لا ينفصلون عن العمل يعانون مستويات أعلى من الإعياء، في حين أن أولئك الذين يتعافون من ضغوط العمل يتمتعون على الأرجح بمستويات أعلى من الشعور بالاندماج في بيئة العمل. وقد أوضحت لي سونينتاغ في إحدى مقابلاتي الشخصية هذه النقطة قائلة: “يبدو أن المستوى العالي من التعافي والاندماج في بيئة العمل يعزز كل منهما الآخر”.

وقالت لي ورلين موضحة: “نحن جميعاً بحاجة إلى الانفصال التام عن العمل بين الحين والآخر! إذ نعود إلى أعمالنا في واقع الأمر أكثر قدرة على الأداء عندما نسمح لأنفسنا بفترات راحة كافية، وهناك أدلة كثيرة قاطعة تثبت صحة هذه الفرضية في مختلف القطاعات”؛ وبخاصة عندما تكون متطلبات العمل كثيرة، وهو ما يحدث أيضاً عندما يمتنع المحترفون عن منح أنفسهم فترات راحة كافية. “أثبتت الأبحاث حول عوامل النجاح في العمل أن العاملين في الوظائف المرهقة التي تتطلب الكثير من التفكير والتعلم يصلون إلى نقطة تحوّل يعجزون عندها عن مواصلة الأداء ما لم يسمحوا لأنفسهم بفترات من التعافي لاسترداد شعورهم بالطاقة والحيوية”. كيف يمكن لمسؤولي الموارد البشرية التأكد أن الموظفين سينفصلون فعلياً عن العمل؟ تقول ورلين التي تتعاون أيضاً مع مركزنا في ستانفورد، مركز البحوث والتعليم المختص بالتعاطف والإيثار (Center for Compassion and Altruism Research and Education)، إن “مسؤولي الموارد البشرية يمكنهم تثقيف العاملين داخل المؤسسة وتوعيتهم بقيمة فترات الراحة، ويمكنهم النظر إلى تراكم الإجازات بوصفه إشارة تحذيرية تنذر بقرب إصابة العاملين بالاحتراق الوظيفي”.

إذا كنت لا تستطيع حقاً الحصول على إجازة مناسبة، ينصح رائد أعمال لسلسلة من المشاريع الناجحة في وادي السيليكون ومؤسس شركة بانده ويل (PandaWhale)، آدم ريفكين: “توقَّف عن العمل مدة يسيرة من أجل الحصول على القليل من الراحة كل يوم بدلاً من تأجيلها انتظاراً لقضاء عطلة لمدة أسبوع كامل”. تشير أبحاث سونينتاغ أيضاً إلى أنك إذا بذلت جهداً للانفصال تماماً عن أجواء العمل عند انتهاء يوم العمل، من خلال الانخراط في هواية تستمتع بها أو ممارسة الرياضة أو التنزه في أحضان الطبيعة مثلاً، فسوف تجني الفوائد الآتية: سيقل شعورك بالإعياء، وستشعر بأنك أكثر اندماجاً في بيئة العمل وأكثر نشاطاً وحيوية عندما تغادر العمل. وأثبتت الأبحاث المتعلقة بإدارة الطاقة في العمل أن أخذ فترات راحة صغيرة في أثناء العمل (من خلال الاستماع إلى الموسيقى مثلاً) يؤدي إلى تقليل الشعور بالإعياء وزيادة الشعور بالنشاط والحيوية.

لكن عليك أن تنسى أمر فترات الراحة الصغيرة في عطلات نهاية الأسبوع، وتحرص كل الحرص على الاستفادة التامة من يومين كاملين من الراحة لتحقيق أقصى قدر ممكن من التعافي. وقد أخبرني الباحث البريطاني بيتر توتردل: “يجد المرء صعوبة في الشعور بالرفاهة في يوم الراحة الأول مقارنة باليوم الثاني، وعندما يعود العاملون إلى العمل فإن شعورهم بالرضا يرتفع إلى مستويات أعلى بعد حصولهم على إجازة ليومين بدلاً من الحصول على يوم راحة واحد. ومن ثم فإن هذا يشير حقاً إلى قيمة “‘عطلة نهاية الأسبوع'”.

وعندما تأخذ استراحتك اليومية أو إجازتك الأسبوعية، لا تكتفِ بالجلوس أمام التلفزيون. يضيف توتردل: “أثبتت الأبحاث حول الحالات المزاجية في أثناء ممارسة الأنشطة المختلفة أن أوقات الفراغ النشطة (مثل إجراء المحادثات وممارسة الهوايات والرياضة) تؤدي إلى وصول الحالة المزاجية إلى مستويات إيجابية تفوق ما يحدث في أوقات الفراغ السلبية (مثل مشاهدة التلفزيون والكمبيوتر المنزلي)”. ومع ذلك، فإن نوع النشاط المناسب يختلف من شخص لآخر. ويضيف توتردل أن “الأبحاث حول السعادة المستدامة تشير إلى أن الأنشطة يجب أن تتواءم مع أهداف الفرد وسماته الشخصية، ويجب أن تكون متنوعة”. على سبيل المثال، إذا كنت شخصاً انطوائياً فقد تجد أن المكوث في المنزل بمفردك والقراءة يبعث فيك الشعور بالنشاط والحيوية، بينما قد يحتاج الأشخاص المُنفتحون إلى قضاء وقت فراغهم في التواصل الاجتماعي مع الأصدقاء وأفراد الأسرة.

نستخلص من هذا البحث بطبيعة الحال أنك إذا كنت صاحب عمل، فينبغي ألا تمانع في منح موظفيك بعض إجازاتهم فحسب، بل يجدر بك أن تشجّعهم بكل قوة على الانفصال التام عن أجواء العمل. وبالمثل، إذا كنت موظفاً، فاعلم أن إنتاجيتك ستزداد إذا حصلت على إجازة وسمحت لنفسك بالاسترخاء التام، بخلاف ما سيحدث لو واصلت العمل دون انقطاع.

يؤدي امتناع الموظفين عن الحصول على أي إجازات إلى تكبُّد الشركات أو المؤسسات في الولايات المتحدة خسائر ضخمة تُقدَّر بنحو 224 مليار دولار سنوياً في صورة التزامات ومطالبات مالية. علاوة على ذلك، فإن الموظف الذي لا ينفصل عن العمل أبداً هو موظف معرض للإصابة بالاحتراق الوظيفي والتأثُّر بتداعيات التوتر المزمن التي تتراوح ما بين تراجع مدة الانتباه والإصابة بالمتاعب الصحية. والواقع أن المشاكل العديدة المرتبطة بإصابة قوة العمل بالتوتر، كالإصابة بالحوادث والتغيب عن العمل وارتفاع معدل دوران الموظفين وتراجع معدلات الإنتاجية والتكاليف الطبية والقانونية والتأمينية، تكلف قطاع الأعمال في الولايات المتحدة وحدها 300 مليار دولار سنوياً.

لذا احرص بكل الوسائل على استخدام استراتيجيات الاستراحة القصيرة لحل مشكلتك على المدى المنظور؛ لكن عليك أن تعلم أن هذا النهج لا يصلح حلاً على المدى البعيد.