كان رونالد كوس محقاً في عام 1937 عندما قال: "إن الكفاءة القابلة للتعميم هي الدافع الرئيس للنمو في المؤسسات الضخمة. فالتنسيق بين نشاطات عدد كبير من الأشخاص أسهل وأرخص بكثير عندما نراهم ضمن مؤسسة واحدة بدلاً من توزعهم على العديد من المؤسسات المستقلة.
لكن هناك تحدٍّ. الكفاءة القابلة للتعميم تؤدي عملها على أفضل وجه في المنظمات بطيئة النمو. على فرضية أن الجهات التي تستهدفهم هذه المنظمات سوف يختارون منتجات وخدمات تلبي الحد الأدنى المشترك من الاحتياجات.
نحن نعيش اليوم في عالم تحدد شكله تقنيات رقمية متسارعة التطور، وهي بدورها تسرّع التغيير وتزيد من عدم الوضوح في الرؤية وتضغط من أجل أداء عالمي المستوى. والمستهلكون اليوم ليسوا مستعدين لقبول ما كان يُعرض عليهم من منتجات موحدة كتلك التي كانت سبباً في نجاح مؤسسات ضخمة في الماضي. من مؤشرات هذا الضغط على الأداء بحثنا الذي يتناول التراجع الطويل الأمد في العائد على أصول الشركات العامة في الولايات المتحدة من عام 1965 إلى اليوم (تراجع بنسبة 75%). المؤشر الثاني، هو تراجع مدة حياة الشركات المدرجة في مؤشر "ستاندارد آند بور 500". أما المؤشر الثالث، فهو تراجع معدلات الثقة بحسب مقياس "إيلدمان تراست" –فمع اتساع الفجوة بين ما نريده ونتوقعه وبين ما نحصل عليه، تتآكل ثقتنا في قدرة هذه المؤسسات على تلبية احتياجاتنا.
ولمواجهة هذه التحديات، نحتاج إلى تحرك يتجاوز النقاشات الضيقة عن ابتكار المنتجات والخدمات ويذهب أبعد من النقاشات المتطورة عن عملية الابتكار أو ابتكار نماذج العمل. نحن بحاجة إلى الحديث عن الابتكار المؤسساتي، أو إعادة النظر في المنطق الذي يبرر وجود هذه المؤسسات في المقام الأول.
ونرى أنه لا يزال هناك منطق يبرر وجود المؤسسات الكبيرة، لكن هذا المنطق يختلف كثيراً عن الكفاءة القابلة للتعميم، إنه التعلم القابل للتطور. ففي عالم تزداد سرعة تغيره وتتنامى فيه احتياجاتنا بمعدلات متسارعة، ستكون أكبر احتمالات النجاح في صالح المؤسسات التي توفر فرصة للجميع للتعلم معاً على نحو أسرع.
ولا نتحدث هنا عن تقاسم المعرفة الحالية بفاعلية أكثر، على الرغم من أن ذلك فرصة كبيرة بلا شك، لأن المعرفة تُستهلك بمعدلات متسارعة في عالم التغيير المتسارع. كما يُعتبر أقوى أنواع التعلم في عالم من هذا النوع هو ذلك الذي يخلق معرفة جديدة، وهو تعلم لا يحدث في قاعات التدريب بل في أثناء العمل وخلال بيئة العمل اليومية.
على سبيل المثال، توصل استبيان غير رسمي أجريناه تناول كيفية قضاء الموظفين لوقتهم في الأقسام الأساسية في مختلف الشركات الكبيرة إلى أن ما بين 60% إلى 70% من وقتهم يُستهلك في "معالجة الاستثناءات" -التعامل مع أحداث غير متوقعة لا يمكن التعامل معها باستخدام الإجراءات الحالية. مع أن هذه الاستثناءات تقدم فرصة كبيرة لخلق معرفة جديدة - كيف تعالج أمراً غير متوقع - إلا أن إنجازها يتم عموماً بطريقة تفتقر إلى الكفاءة، حيث يعاني العاملون كثيراً لإيجاد بعضهم البعض وللوصول إلى البيانات والتحليلات المطلوبة لحل الاستثناء. وحالما تُحل مشكلة الاستثناء، تضيع على المنظمة فرصة الاستفادة من معظم ما تعلّموه.
بالإضافة إلى هذا، يبدو أن الكثير من المؤسسات تستخدم التقية الرقمية لأتمتة المهام واستبعاد العنصر البشري. أما التعلم القابل للتطور، فيسّخر التقنية لتعزيز مقدرات الأفراد. وصحيح أن هناك حاجة إلى أتمتة المهام الروتينية، لكن الهدف منها هو تحرير الناس لجعلهم يكتشفون منهجيات جديدة تخلق المزيد من القيمة. وعلى هذا الأساس فإن أحد أهم العوامل الأساسية في التعلم جعل العاملين يكتشفون كيف يمكنهم استخدام تلك الأدوات الرقمية المتزايدة القوة في سياقات محددة. حيث أظهرت الدراسات التاريخية للثورة الصناعية وجود تأخر كبير ما بين إدخال المكننة الصناعية إلى مكان العمل والتحسينات التي حصلت على الإنتاجية، وذلك لأن العاملين احتاجوا وقتاً لتطوير المهارات المطلوبة لتحقيق أقصى قيمة ممكنة من الآلة، وهي مهارات لم يكن بالإمكان تعليمها إلا في طريقة محدودة للغاية بسبب الحاجة إلى تكييفها وفق سياقات واحتياجات معينة.
لا يساعد التعلم القابل للتعميم فقط الأشخاص في داخل المؤسسة للتعلم بشكل أسرع، بل إنه يعمم أيضاً التعلم بالتواصل مع آخرين خارج المؤسسة ويبني علاقات عميقة معتمدة على الثقة يمكنها مساعدة جميع المشاركين على العمل معاً من أجل تعلم أسرع. على سبيل المثال، أنشأت مجموعة من شركات ريادة الأعمال في مجال الدراجات النارية في تشونجكينج في الصين شبكات لتصميم المنتج ربطت عدداً كبيراً من التقنيات وموردي القطع وساعدتهم على العمل معاً لتحسين تصاميم الأجزاء بطريقة أدت إلى خفض كبير في التكلفة مع المحافظة على أداء المنتج وموثوقيته أو تحسينها حتى.
لكن ماذا لو ذهبنا أبعد من ذلك، فأعدنا تصميم بيئات عملنا من الأنظمة المادية والافتراضية والإدارية لتسريع التعلم وتحسين الأداء في العمل؟ مع أننا لم نستطع إيجاد شركة واحدة فعلت ذلك بطريقة ممنهجة وشاملة، لكننا وجدنا أمثلة مثيرة عن شركات أدخلت عناصر مهمة على مكان العمل لتسريع التعلم. على سبيل المثال، نفذت شركة "إنتويت" (Intuit)، منصات تجريبية في مختلف أرجاء الشركة لتشجيع الموظفين على تجريب واختبار أساليب جديدة تقدم المزيد من القيمة، وتدير في الوقت نفسه المخاطر المرتبطة بهذه التجارب.
في المؤسسات التي تتبنى كفاءة قابلة للتعميم، تكون مسؤولية الفرد هي التوافق مع المهام والأدوار الموكلة إليه. أما في المؤسسات التي تتبنى التعلم القابل للتعميم، فإن المؤسسة نفسها مطالبة بإيجاد طرق لتطوير وتبني احتياجات الأفراد في بيئة عملها.
ومن ناحية أخرى، لا تتطلب الكفاءة القابلة للتعميم الانسجام بين الأفراد داخل المنظمة فحسب، بل تتطلب أيضاً انسجاماً بين من تخدمهم، وهذا هو السبيل إلى الكفاءة القابلة للتعميم. أما التعلم القابل للتطور، فدافعه رغبة بمعرفة المزيد عن أولئك الذين تخدمهم المؤسسات، ومن ثم توفير قيمة أكبر لهم عبر منتجات وخدمات مصممة على قياسهم لتلبية احتياجاتهم المتزايدة والفردية. ويمكن القول إن ذلك التعلم هو شرط مسبق لفهم كيفية منح المزيد من القيمة لمن تتم خدمتهم. وبدوره، يساعد هذا التجاوب مع الاحتياجات الفريدة والمتطورة للأفراد الذين تخدمهم المؤسسات في استعادة الثقة المتآكلة.
أخيراً، لن يساعد الابتكار في التعلم القابل للتطور في إعادة بناء الثقة بمؤسساتنا فحسب، بل يمكنه أيضاً إحداث تحول عميق في طبيعة تحسين الأداء. حيث يُعتبر نموذج الكفاءة القابلة للتعميم نموذج عوائد متناقصة، إذ كلما زادت كفاءة المؤسسات، يصبح بلوغ الدرجة الأعلى من تحسين الأداء أصعب ويتطلب وقتاً أكثر. أما التعلم القابل للتطور، فيوفر للمرة الأولى قدرة على التحول إلى نموذج من العوائد المتزايدة تزداد فيه سرعة خلق القيمة كلما زاد عدد من يعملون معاً من أجل تعلم أسرع.