في ظل بيئة الأعمال المتقلبة اليوم، يجد حتى القادة المخضرمون أنفسهم عند مفترق طرق غير متوقع. واجه آدم، وهو مدير تنفيذي في الإدارة العليا بشركة دولية مقرها الإمارات، واحدة من هذه اللحظات المصيرية خلال معتكف تخطيط استراتيجي. كانت شركته تواجه تقلبات السوق الناجمة عن تغييرات التعرفات الجمركية والخلافات الثقافية بين الفرق وطلبات العملاء المتغيرة باستمرار.
قبل عام من ذلك، ربما كان آدم سيواجه هذه الضغوط بثقة مفرطة، فبعد أعوام من النجاح، صار يعتبر نفسه قائداً كاملاً لا يحتاج إلى أي تطوير إضافي. واستبعد فكرة الاستعانة بمدرب تنفيذي، إذ رأى أنها مناسبة للقادة الذين يعانون مشكلات في العمل، وليس لشخص في مستواه.
غير أن بوادر أزمة كانت تلوح في الأفق، فكثيراً ما كان آدم يسهر ليلاً غارقاً في سيناريوهات كارثية تدور في ذهنه. وفي الاجتماعات، كان يخفي تراجع ثقته بنفسه وراء ثقة زائفة، متجاهلاً المخاوف ومتمسكاً بقرارات متسرعة. وعندما طرحت عليه فكرة التدريب، كان رد فعله الأول هو الخوف، ظناً منه أن الاعتراف بحاجته إلى مساعدة سيفهم ضعفاً.
كانت جلسات التدريب الأولى متعثرة، حيث كان آدم متشككاً واتخذ موقفاً دفاعياً، لكن مع مرور الوقت، سمحت له الثقة التي تولدت بينه وبين مدربه بخفض الحاجز النفسي، وبدأ بمواجهة حقائق مزعجة حول عاداته، ففهم أن التوتر كان يحوله إلى شخص عنيد، وأن رغبته في السيطرة كانت تقوض ثقة فريقه به. لم تعد التقنيات التي تعلمها، مثل ممارسات اليقظة الذهنية وتحديد العواطف وإعادة التأطير الإدراكي، مجرد تمارين نظرية، بل أصبحت منقذة له من الضياع.
وعندما وقف آدم أمام فريقه في ذلك الاجتماع الحاسم، لم يكن يقود من موقع الخوف كما كان من قبل؛ توقف لحظة وأنصت باهتمام، واعترف بحالة عدم اليقين التي يواجهونها، لكنه نقل في الوقت نفسه قناعة راسخة بإمكانية رسم مسار جديد معاً. لم تكن تلك اللحظة مجرد محطة مهنية في مسيرته، بل تحولاً كبيراً في فلسفته القيادية.
تظهر رحلة آدم حقيقة أعمق، وهي أن المرونة ليست سمة فطرية تحتكرها قلة محظوظة، بل هي قدرة يمكن تنميتها من خلال التدريب الذي يوفر البنية الداعمة للنمو.
لماذا أصبحت المرونة أهم اليوم؟
بصعوبة بالغة يجد القادة اليوم وقتاً لالتقاط الأنفاس، فثمة عوامل قد تؤدي إلى قلب أكثر الاستراتيجيات دقة رأساً على عقب، مثل تحول مفاجئ في السوق أو دخول منافس جديد، أو إدارة فرق عبر مناطق زمنية متباعدة. عندما تتصاعد الضغوط، إما أن يتطور القادة وإما أن ينهاروا، فالذي يتعثر يعرض فريقه بأكمله للخطر. وعلى النقيض من ذلك، يمثل القائد المرن قوة استقرار؛ فهو يفكر بوضوح تحت الضغط ويتكيف بسرعة، ويلهب الحماس حتى في خضم الفوضى.
يواجه القادة تحديات حقيقية، ووفقاً لتقرير ماكنزي آند كومباني لعام 2023، يرى أكثر من نصف القادة العالميين أن المرونة هي إحدى أهم القدرات القيادية التي يجب تطويرها. ومع ذلك، غالباً ما يساء فهم المرونة على أنها تعني الصلابة أو التحمل. وكما يوضح توني شفارتز وكاثرين مكارثي في مقالتهما المنشورة عام 2016، فإن المرونة لا تعني مجرد التحمل، بل القدرة على استعادة الطاقة والحفاظ على الصفاء الذهني والتفكير المرن والتفاؤل الواقعي، حتى عند غياب الحلول المباشرة.
تؤكد الأبحاث المستمرة أهمية هذه القدرة، ومن بين 110 من القادة التنفيذيين الذين شاركوا في دراستنا حول المرونة، أكمل 55 منهم استبيانات قبل التدريب وبعده، بالإضافة إلى المقابلات المنظمة. وأظهرت النتائج تحسناً ملحوظاً في الثقة، والقدرة على التكيف، والحفاظ على الصفاء الذهني تحت الضغط. في عالم يشهد اضطرابات لا هوادة فيها، لم تعد المرونة مجرد ميزة مستحسنة، بل صارت ضرورة استراتيجية للقيادة.
كيف ينمي التدريب المرونة؟
يوفر التدريب التنفيذي مساراً منظماً وقائماً على الأدلة لتنمية المرونة. وقد أكدت الأبحاث هذه الحقيقة من خلال دراسة 5 متغيرات هي: الكفاءة في الدور القيادي، والمرونة، والأمان النفسي، والنرجسية، والثقة بين المدرب والمتدرب. وبعد انتهاء جلسات التدريب، أظهرت النتائج تحسناً ملحوظاً ذا دلالة إحصائية في ثقة القادة بكفاءتهم الذاتية، وبقدرتهم على اتخاذ القرارات وإدارة عواطفهم.
تتوافق هذه النتائج مع مجموعة متنامية من الأدلة التي تثبت أن التدريب التنفيذي ليس مجرد تجارب فردية، بل هو تدخل مدروس بعمق، فقد أظهر تحليل ميتا (التجميعي) عام 2023 لتجارب منضبطة باستخدام عينات عشوائية أن التدريب يحسن على نحو موثوق نتائج مثل تحقيق الأهداف، والرفاهية، والمرونة. كما أكدت دراسة منفصلة أن برنامجاً تدريبياً مدته 10 أسابيع خفض مستويات الاحتراق الوظيفي ورفع مستوى النشاط والحيوية.
يظهر إطار الدراسة الذي يرتكز على 4 قدرات أساسية كيف يعزز التدريب المرونة:
1. إعادة بناء الثقة
قد يشعر القائد حين يعمل في ظروف غير مستقرة بالعزلة في بعض الأحيان؛ ويعمل التدريب على إعادة ربطه بنقاط قوته الأساسية، ويساعده على إعادة تعريف النجاح بما يتجاوز الإنجازات القصيرة المدى. وفي الاستبيانات، سجل القادة درجات أعلى في كفاءة الأدوار بعد التدريب، وأظهروا ثقة أكبر في قدرتهم على اتخاذ القرارات المعقدة والتركيز على الأهداف حتى تحت الضغط.
يتوافق ذلك مع أبحاث رأس المال النفسي (PsyCap) التي تعرف الأمل والكفاءة والمرونة والتشاؤم على أنها المكونات الأساسية لفعالية القيادة.
وصرح أحد المدراء التنفيذيين في مقابلة: "قبل التدريب، كنت أظن أن الثقة تعني بذل جهد أكبر، لكنني أدركت بعد التدريب أنها تكمن في التواضع وترك مساحة للآخرين عندما يتطلب الأمر".
2. تعزيز القدرة على إدارة العواطف
تظهر دراسة جينفر جورج عام 2000 أن الذكاء العاطفي له أثر كبير في فعالية القيادة. غالباً ما يحط القادة من شأن تأثير عواطفهم الشخصية في المناخ العام لفرقهم. وفي دراستنا، كان القادة في البداية يخفون التوتر من خلال التعامل بحدة أو الانطواء. لكن بعد التدريب، أظهروا قدرة أكبر على تمييز المحفزات العاطفية مبكراً واختيار استجاباتهم بطريقة مدروسة.
وعززت بيانات الاستبيان هذه النتائج، حيث ظهرت تحسينات ملحوظة في مؤشرات المرونة مثل القدرة على التركيز، والحفاظ على الصفاء الذهني تحت الضغط، والتعامل مع العواطف المزعجة، وهذا يتوافق مع الدراسات التجريبية التي تظهر أن التدريب يحسن القدرة على إدارة العواطف، ويقلل الإرهاق المرتبط بالتوتر.
كما لخص أحد المدراء التنفيذيين الفكرة بقوله: "الهدوء معدٍ". فعندما يتعلم القادة ضبط أنفسهم يخلقون بيئة مستقرة لفرقهم.
3. تعزيز التفكير الاستباقي
يحول التدريب القادة من التفاعل مع الأزمات إلى التفكير الاستباقي فيها. ففي البداية، قاوم آدم تمارين التخطيط الاستباقي، لكن أزمة لاحقة أثبتت له قيمتها. وتعكس هذه النقلة النوعية ما أبلغ عنه مدراء تنفيذيون آخرون، حيث أصبحوا يركزون أكثر على استخدام أدوات مثل محاكاة السيناريوهات والتحليل الاستباقي للمخاطر.
وأظهرت البيانات تحسناً ملموساً بعد التدريب في ثقة القادة بقدرتهم على التكيف مع التغيير ومواصلة السعي لتحقيق الأهداف على الرغم من العقبات.
وهذا يتوافق مع دراسة علمية أكدت أن التدريب يعزز الثقة بالكفاءة الذاتية والسلوكيات القيادية التي تركز على التغيير. كما لخص أحد المدراء التنفيذيين هذه النقلة بقوله: "أصبحت أفكر بالأخطاء المحتملة وليس بالأخطاء التي وقعت بالفعل فقط، لقد علمني التدريب أن أستعد للتقلبات بدلاً من أن أكتفي بالتفاعل معها حين حدوثها".
4. صقل مهارة اتخاذ القرار
غالباً ما تدفع حالة عدم اليقين القادة إلى اتخاذ إجراءات قبل اكتمال المعلومات. هنا يأتي دور التدريب، الذي يساعد على التروي في اتخاذ القرارات من خلال تشجيع النقاش البناء لاختبار الفرضيات وتقييم الخيارات غير المثالية.
وفي الدراسة، كشفت استبيانات ما بعد التدريب أن القادة أصبحوا أكثر تروياً، وأظهروا صفاء ذهنياً أكبر في حالة الضغط الشديد. ووصف أحد المشاركين كيف تعلم ذلك فقال: "آخذ استراحة ذهنية عشر ثوانٍ إضافية قبل الرد في الاجتماعات المهمة"، ما ساعده على تجنب القرارات الاندفاعية.
تتماشى هذه النتائج مع المراجعة المنهجية التي أجرتها مجلة فرونتيرز إن سايكولوجي عام 2024، والتي حددت إعادة التأطير الإدراكي وحل المشكلات المنظم آليتين أساسيتين يعزز التدريب من خلالهما المرونة.
متى يحقق تدريب بناء المرونة أكبر أثر ممكن؟
لا تحدث جلسات التدريب كلها تغييراً جذرياً، فالسياق مهم. وتظهر النتائج المدعومة بالأبحاث السابقة 3 شروط لتحقيق أقصى استفادة من التدريب في بناء المرونة:
- الأمان النفسي: يجرب القادة استراتيجيات المرونة عندما تتبنى الثقافة التنظيمية فكرة تقبل الأخطاء (إيمي إيدموندسون 1999)، فغياب هذه البيئة يمنع الاستفادة من أدوات التدريب ولو كانت أفضل الأدوات.
- الثقة في المدرب: كانت مؤشرات الثقة بين المدرب والمتدرب من أقوى عوامل اكتساب المرونة. فقد أظهر القادة الذين وثقوا بمدربيهم استعداداً أكبر للكشف عن نقاط ضعفهم وتجربة أساليب جديدة.
- عقلية النمو مقابل عقلية التصحيح: عندما قدم التدريب على أنه تطوير للقدرات وليس علاجاً للنقائص، أظهر القادة حماساً والتزاماً أكبر، وكما أشار أحد المدراء: "كان الفرق أنهم أخبروني بأن الهدف من التدريب هو تنمية قدراتي، وليس إصلاح عيوبي".
من خلال تحقق هذه الشروط يصبح التدريب رحلة تحويلية حقيقية لا مجرد خدمة استشارية
جعل التدريب استراتيجية قيادية أساسية
اعتبار التدريب خياراً ثانوياً يعني تفويت فرصة ثمينة. فهو لا يمكن أن يعوض عن بيئات العمل السامة، أو أعباء العمل المستحيلة، أو القيم المؤسسية غير المتوافقة. ومن ثم يحقق التدريب أفضل النتائج في أماكن العمل التي توفر توقعات واقعية ومعقولة، وبيئة آمنة نفسياً، وأنظمة مكافأة تقدر القدرة على التكيف أكثر من الإنجازات الفردية.
ويجب على المؤسسات أيضاً أن تقيس أثر التدريب، فغالباً ما يجري تقييم الاستثمارات في التدريب من خلال استبيانات الرضا فقط، في حين تؤكد الدراسة أهمية تتبع التغيرات الملموسة في القدرة على التعامل مع العواطف وجودة القرارات والمرونة، بدلاً من الاعتماد على القصص المشجعة لكن غير الموثوقة.
المنافع الاستراتيجية لتعزيز المرونة
تظهر الأدلة بوضوح أن التدريب يبني المرونة بطرق تفيد القادة والمؤسسات على حد سواء. ففي الدراسة، أبلغ المدراء الذين أكملوا برامج التدريب عن تحسن ملحوظ في القدرة على التكيف والثقة بالنفس وبالقدرة على اتخاذ القرارات، وقد انعكست هذه النتائج في المقابلات، حيث أشار القادة إلى أن عزلتهم قد قلت وتركيزهم على المستقبل ازداد، وقدرتهم على تحقيق الاستقرار لفرقهم تحسنت.
وتؤكد تحليلات ميتا (التجميعية) أن التدريب يحقق هذه النتائج باستمرار عبر مختلف السياقات. فالقادة المرنون يؤدون دوراً في امتصاص الصدمات التنظيمية، إذ يحمون الموظفين من الاحتراق الوظيفي ويحافظون على الأداء تحت الضغط، ويعززون الثقة حتى في فترات التقلبات.
بالنسبة للمؤسسات، فإن الاستثمار في التدريب ليس علاجاً تصحيحياً، بل ميزة استراتيجية.
الخلاصة: لا تعني المرونة التحمل، بل تعني صفاء الذهن تحت الضغط والتكيف خلال عدم اليقين والتفاؤل وسط التحديات. فالتدريب التنفيذي هو الذي يبني المرونة، لا بوصفها صلابة، بل بوصفها قدرة قيادية قابلة للتطوير وفق أسس منهجية.
وكما تؤكد رحلة آدم والدراسات العالمية: يمكن تطوير المرونة وقياسها وتعميمها، والسؤال الجوهري ليس: هل تحتاج المؤسسات إلى قادة مرنين؟ بل هل هي مستعدة للاستثمار في التدريب الذي يبني هذه المرونة؟