يشعر العديد من الموظفين بالقلق والإرهاق والإحباط؛ إذ أصبحت الأخبار والتقارير الإعلامية تركز بدرجة كبيرة على موضوع الاستعاضة عن الموظفين بالذكاء الاصطناعي، في الوقت الذي يعلن فيه الرؤساء التنفيذيون صراحة عن خطط تسريح العاملين وخفض التكاليف. كما تزداد هذه المخاوف بسبب حالة الغموض الاقتصادي الناجمة عن الحروب التجارية والتعريفات الجمركية والتضخم.
تكشف الأرقام عن حقيقة صادمة، إذ على الرغم من ارتفاع نسبة مشاركة الموظفين وتفاعلهم في الشركات حول العالم منذ عام 2008، فالبيانات التي نشرتها مؤسسة غالوب في شهر أبريل/نيسان تظهر أن النسبة لا تزال منخفضة جداً ولا تتجاوز 21% فقط، ما يمثل انخفاضاً عن النسبة المسجلة في العام السابق، وكانت أكبر معدلات التراجع بين المدراء الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً، وهي الفئة التي تتولى عادة مهمة الربط بين أولويات الإدارة العليا وتوجهاتها وتنفيذ المهام في الخطوط الأمامية. حتى بالنسبة للموظفين الملتزمين والمتفاعلين في مكان العمل، يمكن أن تؤدي زيادة مستويات القلق إلى عجزهم عن تطوير أدائهم، ومنعهم من التعبير عن آرائهم وأفكارهم والبحث عن فرص جديدة واتخاذ زمام المبادرة أو التصرف بجرأة. يظهر تأثير هذا الشعور بالإحباط على المستوى الجماعي داخل المؤسسات؛ إذ تلجأ مؤسسات بأكملها إلى اتخاذ مواقف دفاعية أو متحفظة عند مواجهة الحالات الغامضة، وتركز على حماية أسواقها وخفض التكاليف أو تقليد استراتيجيات المنافسين الناجحة بدلاً من البحث عن فرص نمو فريدة ومبتكرة.
وعلى الرغم من خطورة هذه التحديات وصعوبتها، فهي تقدم فرصة حاسمة لتجسيد القيادة الحقيقية والفعالة. وللنجاح في الأوقات العصيبة، يجب أن يدرك المدراء التنفيذيون بالإدارة العليا، والمدراء في المستويات كلها أن فرقهم ومؤسساتهم بحاجة إلى نهج يختلف عن الممارسات الاعتيادية في العمل، وعليهم العمل على صياغة استراتيجيات ذكية وإظهار البراعة في تنفيذها، بالإضافة إلى الاهتمام بحالة فرقهم العاطفية، وتحويل مشاعر الخوف من المستقبل إلى ثقة وقدرة على الإنجاز، وتبني نظرة تفاؤلية وإيجابية نحو المستقبل.
كيف يمكنك تجسيد هذه الشجاعة؟ من خلال توضيح القيم الأخلاقية وإظهار الالتزام الشخصي والحفاظ على الاتزان ورباطة الجأش في مواجهة الضغوط. احرص على تحفيز موظفيك وطمأنتهم من خلال منحهم هدفاً يجمعهم، وتجسيد القيم والغايات التي تهمهم، والحفاظ على هدوئك وحضورك الدائم.
تتمثل القيادة الحقيقية في استيعاب المشاعر والتفاعل معها، والتصرف بطرق تعزز شعور الآخرين بامتلاك القدرة وتجدد نشاطهم وحيويتهم. وقد عبرت الكاتبة مايا أنجيلو عن ذلك بطريقة مثالية من خلال قولها: "قد ينسى الناس ما قلته وما فعلته، ولكنهم لن ينسوا الأثر أو الشعور الذي تركته فيهم أبداً".
فيما يلي أمثلة على كيفية تطبيق هذه الأساليب عملياً.
التواصل مع فريقك وتوضيح أهداف تحمل قيماً أخلاقية.
تتمثل مهمتك في توضيح غاية المؤسسة والغرض الأساسي من العمل بحيث يشعر الآخرون بأنهم جزء من كيان مهم يحمل قيمة كبيرة.
عندما تولى واين تينغ منصب الرئيس التنفيذي لشركة لايم المتخصصة في تأجير الدراجات الهوائية داخل المدن، لم يروج فكرة تقديم وسائل نقل مريحة وسهلة الاستخدام، بل تحدث عن إنقاذ الكوكب من خلال خفض انبعاثات الكربون وتقليل التلوث في المدن. لم يهدف مؤسسو شركة كريم، وهي شركة متخصصة في تقديم خدمات النقل حسب الطلب في الشرق الأوسط، وقد استحوذت عليها شركة أوبر لاحقاً، إلى إحداث تغييرات جذرية في قطاع سيارات الأجرة؛ بل ركزوا على توفير حرية التنقل للنساء في المناطق التي كانت تقيد حركتهن. عندما أسس رائدا الأعمال، داريو ودانييلا أمودي، شركة أنثروبيك للذكاء الاصطناعي لم يكن هدفهما إنشاء أقوى نموذج لغوي كبير فحسب، بل ركزا على تطوير الذكاء الاصطناعي المتقدم وصيانته بطريقة مسؤولة لخدمة البشرية على المدى البعيد.
يدرك هؤلاء القادة أمراً بالغ الأهمية؛ فلكي تثير الشغف والحماس والالتزام ومشاعر الفخر لدى موظفيك، يجب ألا تكتفي بوصف المنتجات أو الخدمات التي تقدمها الشركة، بل يجب توضيح سبب أهميتها وتأثيرها وقيمتها. امنح الموظفين هدفاً يحمل قيمة حقيقية ويستحق العناء من أجل تحقيقه بحيث يشعر كل فرد بأنه حقق إنجازاً شخصياُ مهماً. ساعدهم على الشعور بأنهم جزء من مهمة جماعية، من خلال تصوير المؤسسة على أنها مجتمع أخلاقي يرتكز على قيم مشتركة. تحدث عن التحديات المشتركة والتضحيات التي تبذل في سبيل تحقيق الهدف، مع التركيز على الأدوار المميزة التي يؤديها الأفراد والفرق في نجاح الشركة.
تجسيد القيم الأساسية للمؤسسة من خلال السلوك والممارسة.
تنطوي هذه الاستراتيجية الثانية على تطبيق ما تدعو إليه فعلياً، ويشمل ذلك تقديم تضحيات حقيقية وتحمل مخاطر واضحة لتحقيق أهداف المؤسسة. اعمل على التعبير بصدق عن قيمك والمبادئ التي تؤمن بها عبر أفعالك. أظهر التزامك بمبادئ الشركة وقيمها الأساسية واهتمامك الشخصي بنجاحها المستقبلي، واجعل الآخرين يدركون أن مصير المؤسسة ومستقبلك الشخصي مرتبطان ارتباطاً وثيقاً.
يجسد المؤسسون عادة هذه السلوكيات بطريقة طبيعية وفطرية. على سبيل المثال، جسدت سيدة الأعمال، آنيتا روديك، قيمها المتعلقة بالنشاط البيئي والعدالة الاجتماعية بصدق لدرجة أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هوية شركتها، ذا بودي شوب. أما مؤسس شركة بلاك روك، لاري فينك، فلم يسمح لشركته بإجراء تداولات مسبقة غير نزيهة معتمداً على نهج يركز على الأمانة المهنية، ومكرراً دائماً شعار "إياكم أن تنسوا الأشخاص الذين نعمل من أجلهم"، في إشارة إلى ملايين الأشخاص الذين تعمل الشركة على إدارة مدخراتهم التقاعدية.
ولكن القادة من غير المؤسسين يمكنهم فعل ذلك أيضاً. عندما قاد الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، ساتيا ناديلا، عملية تحول شركته، عمل على تجسيد عقلية النمو التي كان يدعو إليها، من خلال الاعتراف بأخطائه وإظهار شغفه بالتعلم وحب الاستطلاع. كما طبقت الرئيسة التنفيذية لشركة بيبسيكو، إندرا نوي، استراتيجية "الأداء الهادف" التي تتبناها الشركة، من خلال تحويل مجموعة منتجاتها إلى خيارات صحية أكثر، بالإضافة إلى تركيزها على إنشاء بيئة عمل إيجابية. ولتعزيز شعور موظفيها بالتقدير، اتخذت خطوة غير اعتيادية تمثلت في كتابة رسائل شخصية إلى آباء قادة الشركة وأمهاتهم تشكرهم فيها على جهودهم في تربية أبنائهم.
من المهم أن تكون شخصاً يشعر الآخرون بأنهم يستطيعون التواصل معه بسهولة. تواصل مباشرة مع أعضاء الفريق في المستويات كافة وساعدهم على الشعور بأن التزامك تجاههم وتجاه المؤسسة وأهدافها وقيمها حقيقي، ما يدفعهم للاقتداء بك ويحفزهم على التقدم والتصرف بجرأة حتى في مواجهة التحديات والمخاوف.
عندما يتصرف القادة بهذه الطريقة، ينظر إليهم الآخرون على أنهم رمز يعكس هوية المؤسسة. خذ على سبيل المثال قادة مثل الرئيس التنفيذي لشركة جنرال إلكتريك، جاك ويلش، والرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز، ألفريد سلون، والرئيس التنفيذي لشركة آبل، ستيف جوبز؛ تتمثل أسباب ارتباط هؤلاء القادة المميزين ارتباطاً وثيقاً بشركاتهم في نجاحاتهم وإنجازاتهم، بالإضافة إلى التزامهم الشخصي العميق الذي أظهروه تجاه مؤسساتهم، لا سيما في أوقات الأزمات أو في ظل الظروف الغامضة.
الهدوء والتصميم والتركيز.
يبدو أن هذا النهج الثالث غير بديهي، كن شديد الاهتمام، ولكن لا تدع النتائج -لا سيما المحبطة منها- تسيطر على مشاعرك. بدلاً من ذلك، احرص على إظهار ثباتك العاطفي وتصميمك القوي وركز على المهام التي يجب إنجازها.
ليس من السهل تحقيق هذا التوازن، فمن جهة، أنت شديد الالتزام تجاه مؤسستك ورسالتها وأهدافها والعمل على النجاح، فهذا العمل يمثل ثمرة مسيرتك المهنية كلها، ولكن من ناحية أخرى، يجب أن تركز على الاستمرار في اتخاذ الخطوات الصحيحة والتقدم نحو أهدافك بدلاً من الانشغال المفرط بكل نتيجة تظهر في طريقك.
على الرغم من كثرة الحديث حول أهمية التحلي بالمرونة والقدرة على التحمل في الوقت الحاضر، فما نتحدث عنه هنا يتجاوز ذلك؛ فهو يتضمن اتخاذ قرار مدروس وواع بتحمل المسؤولية عن الإخفاقات، والاعتراف بها علناً، والتعامل مع الخسائر بسرعة والتعلم منها، ونقل الدروس المستفادة إلى الآخرين، ثم تعديل المسار ومتابعة التقدم بثبات. عليك أيضاً أن تتصرف بالطريقة نفسها عند تحقيق النجاحات، مع الحرص على ألا تصرفك هذه الإنجازات عن الاستمرار بالتقدم. يجب أن تدرك أن الآخرين يمكن أن يشعروا بالخوف أو الإحباط بسهولة في أوقات الشدائد والأزمات، أو أن يصبحوا متهاونين عند النجاح، لذلك، احرص على إظهار الثبات العاطفي وتعزيزه لديهم.
يتبع المدرب الأسطوري لفريق جامعة ألاباما لكرة القدم الأميركية، نيك سابان، استراتيجية للحفاظ على استقرار الحالة المزاجية الجماعية لفريقه يطلق عليها اسم "المنهج"، فبدلاً من التفكير المفرط بالفوز والخسارة، أو لوحات النتائج أو البطولات، يحرص على التزام لاعبيه بالعمل الجاد وإنجاز المهام المطلوبة، وبذل أقصى جهودهم في التدريبات، والركض في المسارات الصحيحة، واتخاذ القرارات الصحيحة في أثناء المباراة. يعكس هذا المنهج حكمة قديمة تحض على التيقظ وتحذر من التغافل.
نجد في كثير من الأحيان أن القادة العظماء يحرصون على تطوير قدرتهم على التحفظ وضبط النفس والاحتفاظ بالهدوء والحياد العاطفي، سواء كانوا يتبعون نهجاً واضحاً يركز على العمليات نفسها بدلاً من الانشغال بالنتائج النهائية أم لا. عند اختيار آن مولكاهي لتولي منصب الرئيسة التنفيذية لشركة زيروكس في عام 2000، كانت الشركة مثقلة بديون تصل قيمتها إلى 18 مليار دولار وعلى وشك الإفلاس. خلال الأشهر القليلة التالية، عملت آن على تقليل الخسائر ووقف النزيف المالي وتطوير استراتيجية لإنقاذ الشركة، ولكنها واجهت تحديات كبيرة. تقول آن في دراسة الحالة التي أجرتها كلية هارفارد للأعمال عن تجربتها: "توالت الشهور دون أن نتلقى أي خبر جيد، فسألنا أنفسنا إذا كان من المحتمل أن يزداد الأمر سوءاً، وقد حدث ذلك بالفعل"، وعلى الرغم من ذلك، فقد حرصت على عدم إظهار الضغط ومشاعر القلق التي انتابتها. عندما يكون المرء قلقاً ويتساءل عن إمكانية تحقيق النجاح، يحتاج الآخرون إلى رؤية واضحة وقيادة فعالة وثقة بالقدرة على النجاح، وقد ساعدتها حساسيتها تجاه المشاعر، ووعيها العاطفي، وتمكنها من الحفاظ على استقرار فريقها على قيادة الشركة نحو نجاح كبير خلال السنوات القليلة التالية.
عندما يظهر القادة توازناً قوياً وهدوءاً شديداً، ويلتزمون بالمهام المطلوبة تماماً، ويلتزمون الحياد العاطفي وعدم التأثر بأي نتيجة، فإنهم يشكلون مصدر أمان وطمأنينة للموظفين.
يجب أن يتمتع القادة بالحنكة الاستراتيجية والقدرة على التعاطف مع أفراد فرقهم واستيعاب مشاعرهم، بالإضافة إلى القدرة على تعزيز الأجواء الإيجابية داخل المؤسسة خلال الفترات التي تسودها الاضطرابات والقلق والفوضى. يتطلب ذلك توضيح الأهداف والرؤى، وتجسيد القيم الأساسية للمؤسسة من خلال السلوك والممارسة، والحفاظ على التركيز والهدوء والاتزان في الأوقات كافة. عند تطبيق هذه الاستراتيجيات الثلاث، ستقود فريقك بأكمله نحو تبني عقلية مشتركة تتسم بالشجاعة والثقة وتساعدك على تجاوز التحديات والغموض، والتقدم نحو مستقبل أفضل.