لطالما كان تقلب أسعار النفط أمراً اعتيادياً في هذا القطاع على مر العقود، لكن السنوات الأخيرة، شهدت تأثيراً كبيراً لهذه المتغيرات على الاقتصادات المنتجة للنفط في منطقة الشرق الأوسط. ففي ضوء نمو الطلب المحلي على الطاقة بمعدل يبلغ نحو 8% سنوياً، تشير تقديرات مجلس الطاقة العالمي إلى أنّ أبرز مناطق إنتاج النفط (ودول مجلس التعاون الخليجي على نحو خاص) ستحتاج إلى توليد 100 جيجاواط إضافية من الطاقة خلال السنوات العشر المقبلة، ما يستدعي استثمارات بأكثر من 50 مليار دولار في مشاريع جديدة لتوليد الطاقة.
ومع تحسن أسعار النفط في هذه المرحلة، فإنني وأنا أكتب هذا المقال (يوليو/تموز 2018) لن أتطرق إلى العناصر الجيوسياسية المرتبطة بهذا الموضوع، أو إلى توجهات الأسعار، تاركاً ذلك لمحللي الأسواق. فبالنسبة لي شخصياً، فقد شهدت خلال مسيرتي المهنية العديد من التحولات الجذرية ضمن قطاع النفط والغاز، إضافة إلى بعض الثوابت أيضاً. لذلك، فإنني أركز على السبل التي يمكن للقطاع أن ينتهجها لتحقيق النمو المستدام – ومواجهة تحديات تقلب الأسعار - على المديين القصير والبعيد.
ومن هنا، يُعتبر من المهم فهم التحديات الأساسية التي تواجه هذا القطاع. في كثير من الأحيان، تميل الدراسات التحليلية حول القطاع إلى التركيز بشكل كبير على آليات العرض والطلب التي تؤثر على السعر، بدلاً من التركيز على التحول الأكثر عمقاً الذي يجب على القطاع إعادة النظر فيه لتحقيق كفاءة أعلى وبناء مستقبل مستدام أيضاً.
وكما ذكرت، فقد شهدت خلال عملي ضمن القطاع العديد من التغيّرات الكبيرة، إلى جانب الثوابت. ومن خلال عملي في شركة جنرال إلكتريك للنفط والغاز في السابق، وحالياً في شركة بيكر هيوز التابعة لجنرال إلكتريك (ثمرة دمج اثنتين من أكبر شركات النفط والغاز في العالم)، يمكنني القول وبثقة أنّ مرحلة التحول قد بدأت فعلياً في قطاع النفط والغاز ضمن منطقة الشرق الأوسط.
لقد أصبحت كبرى شركات النفط والغاز على دراية بعدم إمكانية التغاضي عن أربعة تحديات رئيسية، وهي التحديات التي ركزنا عليها في بيكر هيوز، نظراً إلى حضورنا الراسخ في المنطقة منذ نحو 80 عاماً. والآن، وكشركة متكاملة (Fullstream)، فإننا نقدم أحدث التقنيات والمعلومات التي تغطي كافة مراحل العمل، بدءاً من الحفر والتنقيب ووصولاً إلى الإنتاج والتكرير، ونرى أنّ التحدي الأكبر الذي يواجه القطاع هو الحاجة إلى التركيز على التحول الرقمي في البنى التحتية.
تحديات
لكن، أين تكمن أهمية هذا التحول؟ اسمحوا لي بتوضيح هذه النقطة من خلال التطرق إلى التحديات الرئيسية التي تواجه المنطقة، وكيف يمكن معالجتها بشكل فعال عبر التحول الرقمي الذكي.
يتمثل التحدي الأول في ارتفاع تكلفة الاستثمار: لكي نتمكّن من إدارة عمليات النفط والغاز بمستويات تنافسية – على الرغم من تقلبات الأسعار- من المهم أن نواصل الاستثمار في البنية التحتية. وتبرز الحاجة هنا إلى استثمارات رأسمالية جديدة تعزز الكفاءة التشغيلية. لكن في السنوات الأخيرة، أدى تراجع أسعار النفط إلى عجز في الميزانيات، وبالتالي انخفاض الاستثمار في نفقات رأس المال.
أما التحدي الثاني فيتمثل في عدم توظيف القطاع للإمكانات الكبيرة التي توفرها التقنيات الرقمية، على الرغم من التطورات الهامة التي تمت في هذا المجال. ثالثاً، مع تمديد دورة حياة مواقع التنقيب القديمة لاستخراج أكبر كمية ممكنة من النفط، تزداد الأعطال، وترتفع تكاليف الصيانة، ما يحد من مستوى تنافسية التكاليف.
ومن المهم أيضاً الأخذ بعين الاعتبار والتركيز على خفض البصمة البيئية لعمليات القطاع، ودعم رؤى الطاقة المتجددة التي أطلقتها حكومات منطقة الشرق الأوسط.
لقد ذكرت هنا التحديات الكبرى لهذا القطاع، رغم وجود العديد من العوامل الأخرى التي تغذي هذه التحديات، كالعلاقة بين الطاقة والكهرباء. عادة، كان قطاع الطاقة (النفط والغاز) كافياً لتغطية احتياجات منطقة الشرق الأوسط. لكن مع تزايد النمو السكاني، ازداد الطلب على الكهرباء، وبالتالي ازداد استخدام النفط والغاز لتلبية الاحتياجات المحلية. وأدى هذا إلى خفض حجم النفط والغاز المتاح للتصدير، ما يشكل عبئاً على الإيرادات، ويقلل من الاستثمارات الجديدة في قطاع النفط.
حلول
وأرى استراتيجيتين شاملتين يمكن تطبيقهما لدعم المنطقة في مواجهة هذه التحديات، وعلى الرغم من أنهما قد تبدوان بسيطتين، إلا أنّ لهاتين الاستراتيجيتين قيمة استثنائية إذا ما أردنا إيجاد حل دائم، والحفاظ على زخم القطاع في المستقبل. وهنالك اليوم من يقول أنّ شركات إنتاج النفط الكبرى في المنطقة تسارع لاستخراج آخر قطرة من الاحتياطي، بسبب تنامي "التوجهات الخضراء" الجديدة، مثل استخدام السيارات الكهربائية والتركيز على مصادر الطاقة المتجددة. وفي حين أنّ هذه النقطة تحظى باهتمام جدي حتى من قبل الخبراء، إلا أنّ ذلك يعني حاجة قطاع النفط والغاز في الشرق الأوسط لإثبات قدرته على الاستمرار على المدى الطويل، وحماية القطاع بأسلوب يضمن في الوقت ذاته تحقيق قيمة كبيرة.
أما الاستراتيجيتان اللتان أجدهما مناسبتين كحلول مهمة على مستوي المنطقة، فتتمثلان في التحول الرقمي، والتوطين. ونعني بالتحول الرقمي: الاعتماد على النطاق الهائل للفرص التي توفرها التقنيات الرقمية لتعزيز الكفاءة التشغيلية ورفع إنتاجية الآبار القديمة والجديدة، وعمليات سلسلة التوريد بالكامل. أما التوطين: فهو أداة بنفس القوة، التي لا تقتصر أهميتها فقط على ترسيخ ثقافة الابتكار في المنطقة، بل تمتد لتشمل أيضاً تفعيل دور المواهب الشابة (التي تشكل أغلبية سكان المنطقة) في الكوادر العاملة، ما يعزز الإحساس بالملكية الجماعية للقطاع بين الجيل الجديد والجيل القادم.
ما هي إذاً آلية عمل التحول الرقمي؟ بالنظر إلى أنّ 3 إلى 5% فقط من معدات النفط والغاز متصلة رقمياً في الوقت الحالي، تبرز فرص كبيرة في المجال الرقمي. ونحن في بيكر هيوز التابعة لجنرال إلكتريك نوظف الإمكانات الصناعية الرقمية لتعزيز الكفاءة التشغيلية والإنتاجية لمشروعات الشركاء. لكن قطاع النفط والغاز ليس جديداً على مفهوم الرقمنة، فقد استخدمنا أجهزة الكمبيوتر العملاقة منذ البداية، إلا أنّ ما تغيّر هو أننا أصبحنا نكسر المفاهيم التقليدية عن المعلومات والبيانات. ونعمل على دمج حلول "تعلم الآلات" للمحطات والآلات الفردية، حيث يمكن القول أنّ التحول الرقمي الفعال يعني الحصول على معلومات يمكن الاستفادة منها عملياً، إلى جانب توظيف البيانات المستخرجة لصالح القطاع (العملاء).
ونقوم بذلك من خلال منصتنا الصناعية الرقمية بريديكس (Predix) وحلول الإدارة الرقمية لأداء الأصول (APM)، والتي يمكن أن تدعم شركاءنا في تحقيق توفير كبير من خلال تعزيز كفاءة وفعالية الصيانة. كما تقوم حلول إدارة أداء الأصول أيضاً بآلية لخفض تكاليف وجهود الامتثال للوائح التنظيمية والحد من مخاطر عدم الامتثال. وتقوم حلول (APM) بتحقيق خطوة نحو التغيير الإيجابي في إنتاجية كافة مراحل العمل وعناصره بما في ذلك الأصول والكوادر البشرية والعمليات والأنظمة. فمن خلال ربط البيانات ونماذج التعلم الذاتي في عملياتنا، فإننا نساعد العملاء على تعزيز كفاءة رأس المال والربحية، وخفض التكاليف الثانوية، وتحسين إدارة الموارد.
مثال عملي في التحول الرقمي
وكمثال جيد على كيفية عمل الحلول الرقمية على أرض الواقع، يمكن النظر إلى حلول نظام (IntelliStream™) التي تركز على تحسين الإنتاج، حيث كانت الطريقة التقليدية لتشخيص أي عطل على مضخات الرفع تتمثل في قيام الخبير التقني بمقارنة أنماط التشغيل، في حين يعتمد نظام (IntelliStream™) (المطور خصيصاً على بريديكس وحلول إدارة أداء الأصول APM) على استخدام أنماط التعرف القائمة على الذكاء الاصطناعي لتشخيص أية مشكلة وحلها بسرعة أكبر ودقة أعلى. باختصار، يقدم هذا النظام صورة شاملة عن بيانات عمليات التنقيب والاستخراج، بدءاً من الخرائط الحرارية وصولاً إلى تحليل أداء الرافعات، ما يوفر لشركائنا المعلومات التي يحتاجون إليها لتعزيز الكفاءة والربحية وخفض التكاليف وإدارة الموارد وتحسين الإنتاجية.
ومن خلال التحول الرقمي، فإننا نعمل على تعزيز الإنتاجية القائمة على البيانات في مختلف مراحل دورة حياة النفط والغاز. بدءاً من التصميم والبناء إلى التشغيل، بالإضافة إلى الأمن الإلكتروني، ويوفر التحول الرقمي معلومات لم تكن متاحة من قبل، ويضمن موثوقية العمليات التشغيلية والالتزام بمعايير الامتثال والنزاهة وخفض المخاطر والحد من الحاجة إلى الصيانة والمخاطر البيئية، إضافة إلى تعزيز الإنتاج وتحسين العمليات ورفع إمكانات التكرير.
ومع تركيز حكومات المنطقة والدول المنتجة للنفط على تنويع مزيج الطاقة، يمكن تحقيق قيمة كبيرة من تعزيز الكفاءة وبناء قطاع البتروكيماويات. ونرى هذا التوجه بشكل واضح عند عدد من أهم عملائنا، مثل شركة "بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك)" وأرامكو السعودية. وكما ترون، فإنّ التحول الرقمي مؤهل فعلياً لإيجاد حلول ناجعة للتحديات الرئيسية الأربعة التي تحدثت عنها.
وعند انضمامي إلى شركة بيكر هيوز في العام 2002، كان الوضع في أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا والهند مختلفاً، فقد كان ذلك قبل عصر التحول الرقمي، لأشهد شخصياً بعد ذلك وخلال السنوات التالية على دور البيانات والآليات الضخمة في إحداث تغييرات نوعية على مستوى تعزيز الكفاءة.
أما اليوم، ومن منصبي كرئيس تنفيذي للشركة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا والهند، فإنني أرى تكاملاً مثيراً للاهتمام بين التقنيات الحديثة والمهارات البشرية والخبرات الصناعية. وللمرة الأولى، أسسنا شركة تغطي عملياتها كافة مراحل العمل في القطاع، ما يساعدنا على المساهمة في إيجاد حلول فعالة لأهم التحديات التي تواجه القطاع.
مثال عملي في التوطين
وإذا كان التحول الرقمي من أهم الأسس التي نتبعها في عملياتنا، فإنّ العنصر الحيوي الثاني يتمثل بالتوطين الذي يعني بالنسبة لنا أكثر من مجرد تشغيل العمليات بصورة فعالة ودعم العملاء ومدهم بالخدمات في أسواقهم المحلية، بل ويمتد ليشمل بناء قاعدة قوية من المهنيين الذين ينتمون إلى المنطقة، ويتلقون تدريبهم فيها بأسلوب يواكب الاحتياجات المحلية.
وهنالك العديد من الأمثلة عن مبادرات التوطين التي أطلقتها بيكر هيوز، والتي تركت آثاراً ملموسة على قطاع النفط والغاز، فقد أسسنا منشآت لتصنيع معدات الحقول النفطية المتطورة في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك مصنع رؤوس حفر الآبار المزودة بقواطع الألماس متعدد البلورات، والتي يجري تصنيعها كلياً داخل المملكة. وخلال العام الماضي، تم استخدام 36% من رؤوس الحفر المصنعة في المنشأة داخل المملكة مع تصدير 64% المتبقية إلى أنحاء العالم، مضيفاً المزيد من الموارد الاقتصادية.
ولدينا منشآت أخرى تعتبر مراكز مهمة لتوطين الخبرات والإمكانات الصناعية في المملكة والمنطقة بشكل عام، مثل منشأة التحكم بالضغط، ومركز الرافعات الصناعية، ومركز جنرال إلكتريك للصناعة والتكنولوجيا في الدمام. أما مركزنا التقني في الظهران فقد قام بتطوير نظام (TransCoil™) للمضخات الكهربائية الغاطسة للمرة الأولى في المنطقة والذي تم تطويره بالشراكة مع شركة أرامكو السعودية لخفض تكاليف الصيانة والحد من زمن توقف العمليات.
وبالمثل، قمنا في الجزائر بتأسيس مشروع مشترك مع شركة سوناطراك لتأسيس منشأة صناعية بمساحة 20 ألف متر مربع ضمن المنطقة الصناعية في مدينة أرزيو، في خطوة تهدف إلى تعزيز قدرات الجزائر في قطاع استكشاف وإنتاج النفط والغاز وتلبية الاحتياجات المحلية. ومن المقرر بدء تشغيل المشروع الجديد في ديسمبر/كانون الأول من العام 2019 لتزويد حلول تصنيع وتجميع وصيانة مجموعة واسعة من معدات الحقول النفطية.
وفي العراق، أسسنا منشأة للخدمات التقنية في حقل الرميلة الشمالي، أما في دولة الإمارات العربية المتحدة فقد أطلقنا أول مراكزنا الإقليمية للمراقبة والتشخيص عن بعد، إضافة إلى المجمع التقني في دبي الذي يرتقي بمبادرات التوطين إلى آفاق جديدة، من خلال تقديم أحدث البرامج التدريبية للمهنيين المحليين.
لقد قدمت شركة بيكر هيوز أول معدات حفر الآبار النفطية إلى المملكة العربية السعودية في العام 1938 وتحديداً في الدمام. واليوم، فإننا نتعاون مع الشركات المحلية ونركز بشكل خاص على التوطين والتحول الرقمي كمنطلقات للاستثمار في المستقبل.