أصادف بعض الزملاء التنفيذيين في بعض الشركات يشتكون من كثرة الاستقالات او انخفاض في الإنتاجية أو عدم الاهتمام بالأهداف، وجوابي دوماً هو: فتش عن ثقافة الشركة.
وأسمع الكثير عن حالات توظيف يصفها أصحاب القرار في الشركات، بأنهم وجدوا مرشحين موهوبين، لكنهم لم يرتاحوا لاتخاذ القرار بتوظيفهم بسبب الشك في مدى ملائمتهم لثقافة الشركة. إذاً مرة أخرى: فتش عن ثقافة الشركة، عند حدوث أي مشكلة في تقييم حالة القوى البشرية والأداء في الشركات والمؤسسات.
لم تعد استراتيجية الشركات التي تركز على تحقيق الأرباح فقط كافية لضمان النجاح على المدى الطويل، ففي عالم سريع التغيّر، وسوق مليء بالمنافسين الجدد، وطريقة تفكير تختلف من جيل لآخر، ومستجدات بيئية واجتماعية وتقنية تفرض معطياتها على الجميع، تظهر استدامة الأعمال كعامل حاسم لضمان نجاح الشركة في سوق تنافسي، ويبقى الطريق إليها مرتبطاً بتحسين "الثقافة داخل العمل".
إن ثقافة العمل لدى الشركة هي عامل حاسم للشركات لتحقيق الاستدامة واستمرار العمل، غير أن شركات كثيرة، لسوء الحظ، تجاهلت هذه الحقيقة في الماضي، بدعوى أن الاتجاه الذي انتهجته الشركة سابقاً قادها إلى تحقيق الأرباح ما يعني أنها تسير في الاتجاه الصحيح، ولكن ما يحدث حقاً أن هذه النتائج الإيجابية ستبقى مؤقتة طالما لا تتبع الشركة ثقافة عمل صحية، إذ ستقل إنتاجية موظفيها غير السعداء الذين يقضون أوقاتهم هناك منشغلين في أنشطة غير قيّمة، إلى أن تخسرهم نهائياً بتقديم استقالتهم، إضافة إلى أنها لن تكون جاذبة لأصحاب المواهب الباحثين عن شركة تتبنى ثقافة يتطورون من خلالها، ما يعني أنها ستخسر بالفعل على المدى الطويل.
وإن كانت إعادة النظر في ثقافة الشركات أمراً غير عاجل في السابق، فقد باتت أمراً ملحاً وضرورياً بعد جائحة "كوفيد-19". فقد كنّا في شركة صافولا للأغذية بصدد إعادة تقييم ثقافة الشركة في عام 2019 مع حضور قيادة جديدة باستراتيجية أعمال مستقبلية ومحدّثة، حيث طُرح سؤال مهم: "هل ثقافة الشركة الحالية متوافقة مع استراتيجية الأعمال المستقبلية؟"، إذ ساد شعور بين القيادة أن الثقافة العملية لدينا ربما تحتاج إلى تعزيز لكي تكون موائمة مع خطط العمل المستقبلية.
وبينما كنا نخوض مرحلة تقييم الثقافة، حلّت الجائحة لتربك الجميع وتؤثر في كل شيء يتعلق بالعمل بدءاً من طريقة العمل عن بعد، والاجتماعات الافتراضية، وتأثُر الإنتاجية، حتى تغيير الأفراد نظرتهم للعمل وللحياة بشكل عام. فكانت الجائحة مسرّعاً لتقييم ثقافة الشركة وتعزيزها لدينا، وبالفعل بدأنا مشروع تعزيز ثقافة الشركة في 2021، بإجراء استطلاعات الرأي، ومجموعات التفكير، والاجتماعات الفردية، وغيرها، والتي نجحت في تحديد إطار الثقافة المنشودة لشركة صافولا للأغذية.
إن تعزيز أو تطوير ثقافة الشركة وخطط العمل المرتبطة بها تعتمد بصورة كبرى على مدى إدراك واهتمام قيادة الشركات بها، وهي العنصر الأهم لإرساء ثقافة وبيئة عمل صحية، فطالما كانت القيادة مدركة لأهمية الخطوة، وداعمة لها، والأهم من ذلك منتهجة لسلوكياتها، ما يسهل قبولها واعتمادها من قِبل الآخرين. وهذا ما فعلناه في شركة صافولا للأغذية، إذ أظهرت القيادة لدينا جدية حقيقية في توجه تعزيز ثقافة الشركة وخطط العمل والأنشطة المرتبطة بها من خلال الدعم والمتابعة المستمرة للمؤشرات والمقاييس المطبقة، حتى إنها صارت أولوية ضمن أهداف الشركة، ومن ثم حددنا أسس تلك الثقافة وطرق التواصل للعاملين في جميع الشركات التابعة لصافولا للأغذية، ورسمنا أنشطة وإجراءات تدعم تنفيذ هذه الثقافة، ووضعنا مقاييس لمساعدتنا على تتبع الخطة، وصممنا استبيانات دورية لقياس مدى تقبل الموظفين للثقافة الجديدة التي بدأناها منذ 6 أشهر وكانت النتائج مبشرة للغاية.
وتختلف بنود ثقافة العمل وفقاً لكل شركة ورؤيتها وأهدافها، إلا أن هناك ثوابت لا بد أن تضعها الشركات في الاعتبار إذا أرادت تعزيز ثقافة صحية تساعدها على تحقيق أهدافها، مثل العنصر المادي والامتيازات، فيتعين أن تتنبه الشركة إلى معطيات السوق كالتضخم على سبيل المثال، وهل الرواتب متوافقة مع هذه المعطيات أم لا، وكذلك التطوير المستمر للموظفين والمواهب منهم خاصة، إذ ينظر الموظفون أصحاب المواهب اليوم، وخاصة أبناء الجيل الجديد، بعين الاعتبار إلى الشركات التي تعزز مسارهم المهني ومستقبلهم الوظيفي.
وفي هذا الإطار، من المهم أن تعي الشركات جيداً تغيّر تفكير الأجيال الجديدة، وتغيّر نمط حياتهم، إضافة إلى تغيّر دوافعهم، وخاصة أصحاب الموهبة منهم، إذ يضعون ثقافة الشركة في اعتبارهم في أثناء البحث عن وظيفة، ولديهم الاستعداد لترك شركاتهم في حال وجدوا أنفسهم ثابتين في أماكنهم لا يتطورون، أو شعروا بفقدان حماسهم تجاه العمل أو وجدوا أن ثقافة الشركة أو بيئة العمل غير صحية، بدليل موجة الاستقالة الكبرى التي شهدها العالم في أبريل/نيسان 2021، إذ كانت ثقافة الشركة من ضمن الأسباب الرئيسية في مغادرة الأفراد شركاتهم.
تعتبر شركة صافولا للأغذية من أفضل الشركات الجاذبة للمواهب من الجيل الجديد، وذلك بإتاحة الفرص للتعلم عن طريق العديد من الأنشطة والبرامج مثل برنامج الخريجين الممتد لـ 18 شهراً لتطوير المواهب بشكل عملي وفعال، والاعتماد على الأدوات الرقمية التي يفضلها أبناء هذا الجيل، إلى جانب عدة برامج تطويرية أخرى وتطبيق فعال لنموذج للمسار المهني يمكّن الموظف الجديد من معرفة مستقبله في الشركة وأين يمكنه أن يكون خلال السنوات القادمة، اعتماداً على تقييم أدائه، خاصة أن معدل انتقال المواهب الشابة بين الشركات أصبح ذا وتيرة أسرع من الأجيال السابقة، وعلى الرغم من أن الأمر ليس صحياً، حريّ بالشركات تحليل هذا الاتجاه ومعرفة أسبابه لتعزيز استبقاء المواهب لديها.
وفي الحقيقة، كان التغيير الذي تشهده المملكة العربية السعودية بعد الإعلان عن رؤية 2030، خاصة فيما يتعلق بفرص العمل، والقضاء على البطالة، وتمكين النساء، وتطوير القدرات البشرية، حافزاً لشركة صافولا للأغذية وغيرها في تبني ثقافة مؤسسية تواكب الرَكب.
إن تحديد الشركات لهوية ثقافتها سيساعد، بدوره، في اختيارها الأفراد الأكثر توافقاً مع الشركة، سواء على مستوى المهارات أو التوافق مع الثقافة، فيمكن أن يمتلك المرشح للوظيفة مهارات مناسبة لكن ترفضه الشركة لعدم اندماجه مع المؤسسة، إذ إن الشخص الموهوب الذي لا يندمج مع الشركة سيثير العديد من المشكلات، وربما ينشر الإحباط، ويخلق الصراعات. وهناك جملة شهيرة في هذا الصدد تقول: "يمكنك تعيين الأشخاص لمهاراتهم واستبعادهم بسبب مواقفهم".
سينعكس وضع ثقافة عمل صحية بالضرورة على مجمل أعمال الشركة عموماً، فتخيّل كيف سيكون إنتاج الموظف الذي يذهب إلى عمله كل صباح مليئاً بالطاقة والحماس، وكيف ستكون وتيرة العمل بين موظفين تجمعهم علاقات صحية. كل ما تحتاجه للبدء هو طرح سؤال إلى أين تريد أن تصل شركتك وهل الثقافة التي تتبعها تدعم هذا الاتجاه. كن صادقاً في الإجابة عن هذا السؤال إذا أردت أن تخطو للأمام وتضمن نجاحاً مستداماً.