قد يكون السعي إلى طلب الكمال صفة إيجابية، إذا تحكّمت فيه، ولكنه سيكون صفة سلبية، إذا تحكّم هو فيك. فإذا تركته يسيطر عليك، فستظهر جوانبه السلبية؛ لأنك ستهدر وقتك دون طائل في قرارات غير مهمة نسبياً، وستنغّص عليك حياتك بسبب هفوات صغيرة، ما يؤدي إلى استنزاف طاقتك؛ ولأنك تتوقع أن يلتزم الآخرون بمعاييرك، فإن التعاون معك سيُمسي أمراً أكثر صعوبة في كثير من الأحيان.

وعلى الرغم من ذلك، فإن السعي إلى طلب الكمال ليس صفة سيئة بالمُطلَق. وينجذب الكثيرون إلى الوقوع تحت طائلته، جزئياً لأنه يؤتي ثماره في بعض الأحيان، وإن كان هذا نادر الحدوث. ويتم تعزيزه بشكل متقطع إلى أن يصبح هذا النمط شديد الالتصاق بصاحبه.

وهذا هو السبب أيضاً في لجوء المهووسين بالكمال إلى المقاومة والرفض عندما يُقال لهم إنهم بحاجة إلى التغيير؛ إذ يرون أن اعتبار فكرة السعي إلى طلب الكمال صفة سلبية يجب التخلي عنها أمرٌ لا يتفق مع خبراتهم. وإذا أدرك المهووسون بالكمال الجوانب الإيجابية والسلبية لطلب الكمال، فسيجدون على الأرجح طريقة يمكنهم من خلالها الإكثار من الاعتماد على هذه الصفة أو التخلي عنها استناداً إلى الموقف.

وتتمثّل أكثر الطرائق وضوحاً لاستفادة الناس من السعي إلى طلب الكمال في كلٍّ مما يلي: (أ) عندما تؤدي الاستراتيجيات الحذرة إلى الحيلولة دون ارتكاب أخطاء، (ب) في المواقف الشديدة التنافسية التي يشكّل فيها هامش أداء بسيط الفارق بين النجاح أو الفشل (كالقبول في كلية الطب أو النجاح في مقابلة شخصية لوظيفة تنافسية للغاية). وعلى الرغم من ذلك، فإن إحدى أهم المزايا المهدورة لطلب الكمال هي إسهامه في تعزيز القدرة على الإبداع. وإليك الطريقة:

1. الشعور بالانزعاج عندما تصطدم بأدلة تتعارض مع آرائك (أو إجماع الآراء)

أعكف حالياً على تأليف كتابي التالي. وإليك كيفية سير هذه العملية عادةً: في أثناء بحثي، أقرأ مجموعة من الدراسات التي تدعم ما أريد قوله، ثم فجأة أقرأ دراسة أو مقتطفاً من دراسة تتعارض نتائجها مع فكرتي التي أخطط لإثباتها. وهنا يرغب جزء مني في التكتم على نتائج هذه الدراسة، لكن ضميري المهووس بالكمال يجعلني أشعر بأن محاولاتي تلك أشبه بوجود رمال في حذائي. وهكذا فإن الأمر يبدو لي غير منطقي، ويصيبني بحالة من الانزعاج لا تهدأ حتى أعود أدراجي وأجد طريقة للتوفيق بين نتائج هذه الدراسة ونتائج الدراسات الأخرى التي أجريتها من قبل. ولكن عندما يتعين عليّ اكتشاف كيفية الجمع بين الأفكار التي تبدو متنافرة، يصبح تفكيري وكتابتي أكثر إبداعاً.

ويجد المهووسون بالكمال صعوبة أكبر في تجاهل المواقف المعبرة عن فكرة “الإمبراطور العاري” التي يستقر فيها القطيع على طريقة تفكير محدَّدة، ولكن ثمة عيوب لهذا الإجماع. وقد يكون ميلهم إلى اجترار الأفكار وعدم قدرتهم على منع الوساوس مفيداً في تحدي الوضع الراهن.

2. رغبتك في فهم كل شيء تدفعك للحصول على مزيد من المعلومات

يرتبط حب الاستطلاع ارتباطاً وثيقاً بالقدرة على الإبداع. يتميّز الأشخاص المحبون للاستطلاع بأن إمكانية اكتساب معارف جديدة تحفزهم أكثر ممّا يحفزهم احتمال حل مشكلات معينة. ويميل الكثيرون من المهووسين بالكمال أيضاً إلى الرغبة في فهم كل شيء، حتى لو لم يكن وثيق الصلة بالمهمة المطروحة للنقاش.  وقد يؤدي اتباع هذه الظلال إلى مجموعة أكثر تنوعاً من الأفكار والمعلومات مقارنةً بما يحدث عند اتباع نهج أكثر تركيزاً.

ولجني ثمار هذه الميزة، يجب أن تتصف بهذا النوع من طلب الكمال القائم على الرغبة في التميز (بدلاً من كيفية تقييم الآخرين لأدائك)، وتتحوّل هذه الرغبة إلى نوع من الإصرار (بدلاً من التجنُّب) في مواجهة عدم اليقين. ويتميّز أمثال هؤلاء الأشخاص عادةً بامتلاكهم عقلية النمو التي تعني ضمناً الإيمان بقدرتهم على التحسُّن من خلال بذل الجهد.

3. العناد يؤدي إلى التوصُّل إلى حلول مبتكرة

لا يحب المهووسون بالكمال المفاضلة بين البدائل المتوسطة الجودة ولا يرضون بقبول أنصاف الحلول، بل يريدون خطة تستوفي معاييرهم كلها ولا يدخرون وسعاً في العمل على تنفيذها بحذافيرها، بما في ذلك ابتكار بدائلهم الخاصة. على سبيل المثال، أنا أمٌ عاملة وأريد جدول مواعيد شديد المرونة. سيلجأ معظم الأشخاص ذوي التفكير المعتدل إلى الاشتراك في إحدى دور رعاية الأطفال اليومية بدوام جزئي. لكنني لم أرد الالتزام بالوصول إلى مكان محدد في مواعيد محددة. ولحسن الحظ، فقد وجدتُ حلاً؛ فقد لاحظتُ أن صالة الألعاب الرياضية التي أتدرب فيها تقدّم خدمة رعاية أطفال غير مسبقة الحجز، شريطة بقاء ولي الأمر في المبنى. لذا ستجدني أعمل كثيراً في صالة الألعاب الرياضية: أتحرك بسرعة 2.3 ميل في الساعة على جهاز المشي في أثناء قراءة الدراسات أو تسجيل النقاط الرئيسية للمقالات التي أريد كتابتها. ومن خلال الاستفادة من هذه الطريقة الملتوية، يمكنني الاحتفاظ بجدول مواعيدي مفتوحاً تماماً وأن أكون بجوار طفلي معظم اليوم، ولكن مع توفير بعض الوقت المهني أيضاً دون أي مشتتات كلما احتجت إلى الوقت. وتتميز هذه الخدمة بأنها أرخص من دور رعاية الأطفال اليومية التقليدية، كما أنني أحب التنقل في أثناء العمل.

ومن الملاحظ أن المهووسين بالكمال يصلون في الغالب إلى حلول مدهشة ومبتكرة؛ لأن جميع الخيارات المألوفة يعتريها بعض السلبيات. وحتى عندما يبدو أن قبول أنصاف الحلول قرار منطقي، فإنهم يرفضون قبولها رفضاً باتاً.

4. غريزتك التنافسية تشحذ همتك وتجعلك تنحت في الصخر من أجل الإسراع بمواكبة أقرانك

عندما يرى شخص مهووس بالكمال أن زميلاً له حقق إنجازات عجز هو عن تحقيقها، فإن هذا يخلق لديه شعوراً بالانزعاج الشديد؛ فيقول لنفسه: “يجب أن أحقق إنجازات مماثلة أنا أيضاً”. تؤدي هذه الغريزة التنافسية المتعجّلة إلى شحذ همة الشخص المهووس بالكمال وتجعله يسعى جاهداً ليس لمحاولة تحقيق إنجازات تضاهي إنجازات زميله فحسب، ولكنها تجعله يسعى لمضاهاتها بأسرع ما يمكن؛ إذ لا يحب المهووسون بالكمال الشعور بأنهم أقل من أي شخص آخر. قد يقودهم هذا الإحساس بالاستعجال إلى ابتكار طرق إبداعية للحاق بالركب.

ويتخذ المهووسون بالكمال ردود فعل مشابهة عندما يدركون أنهم قد سهوا عن المواعيد النهائية أو عجزوا عن اللحاق بها. وفي حين أن الكثيرين قد يرسلون بريداً إلكترونياً يقرون فيه بالسهو عن المواعيد النهائية ويطلبون تمديدها لآجال أبعد، فإن المهووسين بالكمال سينحتون في الصخر من أجل الإسراع بإنجاز العمل في المواعيد المحددة. سيبذلون قصارى جهدهم، وقد يؤدي هذا التركيز والحماس المتقد لإنجاز العمل خلال مدة زمنية قصيرة إلى تحفيز قدرتهم على الإبداع.

إذا كنت مهووساً بالكمال، فهل تدرك أنك مررت بأي من التجارب التي استعرضتها سابقاً؟

أكتب في كثير من الأحيان عن كيفية الحد من السعي لطلب الكمال بغية تجنب سلبياته (انظر على سبيل المثال، هنا وهنا)، لكن تركيزي ينصبُّ في حقيقة الأمر على تعظيم الجوانب الإيجابية وتقليل الجوانب السلبية للسمات المُبالَغ فيها. ومن المهم أن تطوّر فهماً عميقاً ودقيقاً للمواقف التي يمكن أن يفيدك فيها السعي لطلب الكمال والمواقف التي يؤدي فيها إلى تنغيص حياتك، حتى تتمكن من معرفة متى تتقمّص دور المهووس بالكمال ومتى تتخلى عنه.