ملخص: تسعى كل شركة جاهدة إلى تعزيز قدراتها الابتكارية، لكن غالبيتها تفتقد المكوّنات الرئيسة التي تؤهلها لتحقيق هذه الغاية. فكيف تحدّد المكوّنات التي تحتاج إليها مؤسستك من أجل تعزيز القدرات الابتكارية وأنماط الموظفين القادرين على سد هذه الثغرة؟ أجرى كُتَّاب هذه المقالة بحثاً توصلوا من خلاله إلى 4 أنماط رئيسية للابتكار يمكن أن تؤدي إلى النجاح: المكتشفون، المفكّرون، المطوِّرون، المنفّذون. ويوضّح بحثهم معدلات انتشارها في مختلف القطاعات. ومن ثم يرسمون الخطوط العريضة لإطار عمل مكوّن من 4 أجزاء لضمان تمثيل كافة الأنماط الأربعة في فريقك أو مؤسستك.
كيف تحدِّد المبتكرين في شركتك وتمكّنهم؟
لقد أمضينا أكثر من 40 عاماً في البحث عن إجابة لهذا السؤال. ويتناول بحثنا أنماط الابتكار بكافة أشكالها، ويدرس تفضيلات الأفراد والأدوار التي يؤدونها عند السعي إلى تعزيز القدرات الابتكارية. ومن خلال استيعاب هذا المفهوم بصورة جيدة، يمكن للمؤسسات تحسين قدرتها على تحديد الجوانب التي تحتاج إلى عاملين ذوي قدرات خاصة وتحديد الأشخاص الذين يجب عليهم العمل معاً للتوصُّل إلى أفكار مبتكرة وغير مسبوقة.
وتعتمد دراستنا الأخيرة على البيانات التي تم جمعها في الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2006 إلى يناير/كانون الثاني 2021، من خلال أكبر عدد ممكن من الأفراد العاملين في أكبر عدد ممكن من المؤسسات. وقد استجاب لدراستنا البحثية أكثر من 100,000 فرد، أو 112,497 فرداً على وجه الدقة، بنسبة متساوية تقريباً بين الرجال والنساء، وما زلنا نواصل جمع البيانات كل يوم. وينتمي المشاركون في الدراسة إلى 84 دولة، ويعملون في مجموعة متنوعة من الشركات والقطاعات، بما في ذلك شركة مايكروسوفت وشركة أرسيلور ميتال وأوركسترا بوسطن السيمفونية ووكالة ناسا ومنظمة يونايتد واي غير الربحية وجامعة هارفارد (ومجلة هارفارد بزنس ريفيو!).
وقد أخبرنا كل مشارك في الدراسة بما يحب فعله وما يجيده عند تصدّيه لحل المشكلات (وما لا يحب فعله أو لا يجيده). وكشفت هذه الإجابات عن تفضيل كل فرد لواحد من 4 أنماط مميَّزة للابتكار، يرتبط كل منها بمرحلة مميَّزة من عملية ابتكار تتكوّن من 4 مراحل. وكل نمط له دور يلعبه في مؤسستك، بدايةً من اكتشاف مشاكل جديدة (المكتشفون)، وتحديد المشكلات بدقة (المفكّرون)، وتقييم الأفكار واختيار الحلول (المطوِّرون)، وتنفيذ الحلول المختارة (المنفّذون).
وجميع الأنماط الأربعة ضرورية للابتكار. وحينما تفهم المؤسسة أيَّ الموظفين يندرج تحت أيّ نمط، فإن هذا سيمكّنها من إدارة جهودهم الابتكارية بشكل أكثر فاعلية. لكن ثبت لنا من واقع خبرتنا العملية أن معظم المؤسسات يفتقر إلى بعض أنماط الابتكار، خاصة المكتشفين، وسنستعرض خطوات محدّدة لمساعدتها على التغلب على هذا الخلل وسد هذا النقص.
تحديد أنماط الابتكار الأربعة
المكتشفون.
يبحث المكتشفون عن المشاكل الجديدة، ويضعون أيديهم عليها، ويتخيّلون الأفكار المناسبة لحلها استناداً إلى خبراتهم المباشرة. وهم يرون أن احتكاكهم المباشر بالعالم الحقيقي وانخراطهم فيه ينبههم إلى الفجوات والتناقضات التي لم يتم حلها بعد، ويمكن اعتبارها بمثابة مشكلات تستحق أن تُعامَل كفرص واعدة وإمكانات محتملة. لكن المكتشفين لا يعبّرون عن هذه المشاكل إلا بصيغة مُجمَلَة، فهم لا ينجذبون بالضرورة نحو التعبير عن فهمهم الواضح لأدق خصائص المشكلة أو حلولها المحتملة.
ومن النادر أن تجد المكتشفين في كل المستويات التنظيمية. وبشكل عام، كان المكتشفون يشكّلون 17% فقط من أفراد العيّنة البحثية: %19 من المسؤولين التنفيذيين، و18% من مدراء الإدارة الوسطى، و15% من المشرفين، و16% من موظفين غير إداريين. وهذا يعني أنه ما لم يحرص القادة على تطعيم فرق العمل بالمكتشفين، فقد لا يتم تمثيلهم على الإطلاق. ويتميّز المكتشفون بقدرتهم على إدراك العالم من حولهم، ويستطيعون وضع أيديهم على الفرص الواعدة وتسليط الضوء عليها في سياق العمل. لذا، فإن الافتقار إلى المكتشفين يزيد من احتمالية ضياع فرص ثمينة كان من الممكن أن تتيح للمؤسسة القدرة على إجراء تغييرات قيّمة. ونظراً لأهمية التنوع المعرفي في المجموعات، فإن إهمال هذه النوعية من الكوادر البشرية قد يؤثّر سلباً على أداء الابتكار.
وعلى الرغم من ذلك، فهناك بعض المهن التي يشيع فيها وجود المكتشفين بمعدلات تفوق غيرها من المهن. إذ يُعتبَر معلمو المدارس (56%) والأكاديميون (38%) والفنانون (34%) من المهن التي توجد بها أكبر نسبة من المكتشفين، فيما تُعتبَر الهندسة (8%) والتخطيط الاستراتيجي (9%) والتصنيع (9%) من المهن التي توجد بها أقل نسبة من المكتشفين. وهذا يعني أن نقص المكتشفين قد يكون ظاهرة ملموسة في فرق معينة بمجالات معينة. على سبيل المثال، هناك احتمال بنسبة 71% أن يخلو فريق مكون من 4 أشخاص في قسم التخطيط الاستراتيجي من أي مكتشفين على الإطلاق.
المفكّرون.
يتميّز المفكّرون بقدرتهم على تحديد المشكلة، ويفضلون فهمها من خلال التحليل المجرد بدلاً من الاعتماد على الخبرة المباشرة. وِشأنهم شأن المكتشفين، فإن المفكّرين يحبون ابتكار الأفكار، ولكن على النقيض من المكتشفين، فإنهم يفضلون نمذجة المشكلة بوضوح، بمعنى دمج الأجزاء والعلاقات والرؤى المختلفة معاً لتشكيل نموذج محدّد يمكن استخدامه فيما بعد كأساس لحل أو أكثر.
ويأتي المفكّرون في المرتبة الثانية من حيث ندرة وجودهم بين الأنماط الابتكارية، إذ يشكّلون 19% فقط من أفراد العينة البحثية. ويتم تمثيلهم بالتساوي نسبياً في معظم المستويات المهنية، إذ يشكّل المفكّرون 17% و18% و17% بالترتيب بين الموظفين غير الإداريين والمشرفين ومدراء الإدارة الوسطى. لكن المفكّرين يشكّلون نسبة أكبر من المسؤولين التنفيذيين، وتحديداً بنسبة 25%. ويعكس هذا على الأرجح ارتفاع الطلب على هذه الفئة المعرفية على وجه التحديد في هذا الدور الوظيفي: إذ يجب على المسؤولين التنفيذيين التخطيط بشكل استراتيجي للأهداف البعيدة المدى، بدلاً من الاكتفاء بتنفيذ المهمات التكتيكية.
ويشكّل المفكّرون الفئة الأكثر شيوعاً في الوظائف التي تستلزم تحديد المشكلة وتعتبره أمراً حيوياً لا غنى عنه، مثل تطوير المؤسسات (61%) والتخطيط الاستراتيجي (57%) وأبحاث السوق (52%). وعلى العكس من ذلك، فإن المفكّرين يشكّلون أكثر الفئات ندرة في العمليات التشغيلية (7%) والدعم الفني (11%) وإدارة المشاريع (13%).
المطوِّرون.
يتميّز المطوِّرون بقدرتهم على تقييم الأفكار واقتراح الحلول. وهم يفضّلون دراسة كافة البدائل الممكنة بشكل منهجي من أجل تنفيذ أفضل الحلول المتاحة من بين الخيارات المتاحة.
ويشكّل المطوِّرون الفئة الأكثر شيوعاً بين المستويات المهنية الأدنى (27% من الموظفين غير الإداريين) وتنخفض نسبتهم مع ارتفاع المستويات المهنية (23% من المشرفين، 22% من مدراء الإدارة الوسطى، و20% من المسؤولين التنفيذيين). ونظراً لأن الغالبية العظمى من الحلول يتم تنفيذها على مستويات منخفضة من التسلسل الهرمي، فمن المنطقي أن يشارك العاملون الذين يشغلون هذه المستويات الوظيفية في عملية التطوير.
ويشكّل المطوِّرون أيضاً الفئة الأكثر شيوعاً في المناصب التي تستلزم البحث عن خطط وآليات وحلول عملية ودقيقة ومفصَّلة. وقد احتلت تخصصات الهندسة (43%) والتصنيع (38%) والماليات (36%) أعلى نسبة من المطوِّرين. وكان مطورو المنتجات (9%) والأكاديميون (10%) ومعلمو المدارس (11%) يشكّلون أقل نسبة بين أفراد هذه الفئة.
المنفّذون.
يختص المنفّذون بوضع الحلول موضع التنفيذ. ويتميّزون بأنهم يتصرفون بحماس متقد (وأحياناً بصبر نافد)، كما يتميّزون أيضاً بإقبالهم على تجربة الحلول الجديدة قبل اختبارها ذهنياً ثم إجراء التعديلات اللازمة استناداً إلى نتائج هذه التجارب.
ويشكّل المنفّذون نمط الابتكار الأكثر شيوعاً، ويمثّلون 41% من المشاركين في الاستقصاء. حيث يشكّل المسؤولون التنفيذيون 36% من المنفّذين، لكنهم أكثر شيوعاً بين الموظفين غير الإداريين (41%) والمشرفين (44%) ومدراء الإدارة الوسطى (43%).
ويُلاحظ أن الأفراد الذين يعملون في مناصب تتطلب تحقيق نتائج قصيرة الأجل، مثل عمليات تكنولوجيا المعلومات (64%) وعلاقات العملاء (51%) والأعمال الإدارية (50%) يفضّلون نمط المنفّذ. ويندر وجود المنفّذين بين الفنانين (6%) والمخططين الاستراتيجيين (7%) والمصممين (10%).
التحديات التي تواجه المؤسسات
يجب على المدراء التصدي لنتيجتين رئيسيتين. أولاً: لا تتوزّع أنماط الابتكار، بشكل عام، بالتساوي بين كل الفئات. ومن اللافت للنظر أن المكتشفين يشكّلون نحو 17% فقط من الأفراد المشاركين في دراستنا، بينما كان المنفّذون يشكّلون 41%. ثانياً: يميل الأفراد إلى شغل الأدوار المهنية والمستويات الإدارية المختلفة بناءً على أنماطهم الابتكارية. على سبيل المثال، يكثُر وجود المكتشفين في المهن غير الصناعية، بينما يشكّل المفكّرون الفئة الأكثر شيوعاً في المناصب المرتبطة بالتخطيط الاستراتيجي والتطوير التنظيمي.
وتسهم هاتان النتيجتان في المشكلة نفسها: إذ تفتقر المؤسسات والفرق التي تعمل معها على الأرجح إلى التوازن الصحيح بين الأنماط الأربعة، كما تفتقر إلى التنوع المعرفي بالقدر الكافي. وإذا كانت الاختلافات المعرفية موزعة بشكل غير متساوٍ (كأن يزيد عدد المنفّذين على عدد المكتشفين، مثلاً)، وإذا أُتيحت للأفراد حرية اختيار الأدوار والمؤسسات من واقع تفضيلاتهم الإبداعية (على سبيل المثال، من المرَّجح أن يصبح المكتشفون فنانين ومعلمين، لا مسؤولين تنفيذيين ومهندسين)، فإننا نتوقع أن يفتقر معظم المؤسسات والفرق إلى التنوع المعرفي المثالي للابتكار.
إطار عمل رباعي (SMRT) للابتكار
إذا أرادت المؤسسات تعزيز الابتكار بشكل أكثر فاعلية، فإنها تحتاج إلى تنفيذ أمرين، وهما على وجه التحديد: الإكثار من تعيين المكتشفين الذين يمكنهم العثور على المشاكل، وبشكل أعم، ضمان التمثيل المناسب لجميع أنماط الابتكار الأربعة. ولتنفيذ كلا الأمرين، فإننا نقترح طريقة من 4 خطوات للابتكار نشير إليها باسم إطار عمل "SMRT":
- البنية التنظيمية: توزيع أنماط الابتكار بالنسبة الصحيحة.
- النمذجة: إظهار أهمية نمط الابتكار من القمة إلى القاعدة.
- المكافأة: تخصيص حوافز لاكتشاف المشاكل.
- التدريب: خلق الفرص للتعرُّف على جميع الأنماط.
تُجسّد أفضل المؤسسات التي حددناها في فئتها خير مثال على كيفية اتباع هذه الأساليب. وفي حين أنه كان من النادر أن تتبع أي شركة شملها بحثنا أكثر من واحدة من هذه الأنماط الأربعة، فإننا نجادل بأن هذه الأساليب يتكامل بعضها مع بعض وأن استخدام هذه الأنماط الأربعة سيؤدي إلى تعزيز الابتكار في شركتك.
البنية التنظيمية.
غالباً ما يعاني المدراء وفرقهم عند محاولتهم حل مشاكل معقدة وغير محددة بسبب وجود تباين كبير في الحلول المحتملة. وإذا كان بمقدور المدراء تحديد وعزل المرحلة الدقيقة من عملية الابتكار التي يواجهون فيها هذا التباين، فقد يستطيعون العثور على الموهبة التي يحتاجون إليها للوصول إلى حل. ولكنهم نادراً ما يتمكّنون من تحديدها وعزلها، ومن ثم فإن هذا يعني أن المدراء ليست لديهم البنية التنظيمية الصحيحة لفريق العمل القادر على التعامل مع هذه المواقف في المقام الأول.
ولتحسين القدرات الابتكارية، يجدر بالمدراء أولاً طرح السؤال التالي: في أي مرحلة من عملية الابتكار تتعطل فرقنا؟ ومن ثم سيحتاج المدراء إلى تحديد نمط الابتكار المفقود المطلوب في تلك المرحلة وتوسيع نطاقه. على سبيل المثال، خلال تجربة ميدانية في ماراثون البرمجة بشركة جوجل، وجدنا أن الممارسات المرنة أعاقت الابتكار لأنها ركزت على جهود الفرق خلال مرحلة التنفيذ في عملية الابتكار، بدلاً من التركيز على مرحلة اكتشاف الأفكار. ويمكن للمؤسسة الاستفادة من هذه المواقف، وذلك من خلال اتخاذ إجراءات تساعد على تحديد المكتشفين وتسليط الضوء على إسهاماتهم. وفي حالة عدم توافر المكتشفين، قد يُطلب من أعضاء الفريق الآخرين تقمُّص شخصية المكتشفين وأداء أدوارهم.
وحتى إذا عانى فريقك نقصاً في التطوير أو التنفيذ، فإن هذا يجب ألا يقف عائقاً بينك وبين الابتكار. ولك أن تنظر مثلاً إلى تجارب فريق تطوير الاستراتيجية بإحدى كبرى شركات التأمين الصحي الأميركية. فقد تم تكليف الفريق بوضع استراتيجية مؤسسية جديدة ورفعها للإدارة العليا، ولكن الفريق لم يتمكّن من الاتفاق على استراتيجية محدّدة، وكان يعاني حالة من الشلل الفكري في مرحلة التحليل. وفي كل مرة اعتقدوا أنهم قد توصلوا إلى استراتيجية محدّدة يمكنهم رفعها للإدارة العليا، يظهر شخص ما يصر على إجراء المراجعات لأخذ المعلومات الجديدة في الاعتبار أو لجعل الاستراتيجية أكثر شمولاً. وعندما حلّلنا ملفهم التعريفي للابتكار، وجدنا أن الفريق يتكون بالكامل من المفكّرين، باستثناء منفّذ واحد يشغل منصب المساعد الإداري. وبدلاً من محاولة الوصول إلى فهم مثالي، عمل الفريق على تنويع عضويته من خلال ضم أفراد ذوي قدرة على التطوير والتنفيذ لمساعدة الفريق على الوصول إلى استراتيجية مقبولة ورفعها للإدارة.
النمذجة.
توصّل بحثنا إلى ضرورة النمذجة لأن المؤسسات تميل إلى تحفيز واختيار أشخاص ذوي أنماط ابتكارية محدَّدة. على سبيل المثال، تعمل المؤسسات التي تحتاج إلى دخول السوق على توظيف المنفّذين وتحفيز سلوكيات التنفيذ، وتعمل المؤسسات التي تحتاج إلى تطوير مُنتجاتها إلى توظيف المطوِّرين وتحفيز سلوكيات التطوير، وهلم جراً. وعلى الرغم من ذلك، فإن عملية الابتكار تتطلب تتوافر كل أنماط الابتكار الأربعة، وإلا فإن المؤسسات ستخاطر بتحقيق النجاح في مجال واحد من مجالات الابتكار بينما تبوء جهودها بالفشل في باقي المجالات.
لذا يواجه كبار القادة تحدياً (وتُتاح أمامهم فرصة ثمينة في الوقت نفسه) لإظهار أهمية النمط المطلوب في الوقت الحالي، من القمة إلى القاعدة، لمؤسستهم بأكملها. ويمكن تحقيق هذه الفكرة لأن نمط الابتكار يُعتبَر بمثابة حالة معرفية، وليس سمة شخصية ثابتة، ويمكن تعلمها بالتدريب. في الواقع، يعد النمط المحدَّد للقائد أقل أهمية من قدرته على التكيُّف حسب الحاجة، في أثناء تدفق عملية الابتكار.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك إيلون ماسك والدور الذي يلعبه في شركتيّ سبيس إكس وتيسلا. فقد أظهر إيلون ماسك في شركة سبيس إكس نمط المكتشف إلى حدٍّ كبير: إذ يشتهر هناك بشغفه بتفجير الصواريخ من أجل معرفة كيفية عملها (وأسباب إصابتها بالأعطال). حتى إنه أقدم على إقرار هذا النشاط بالإشارة إلى أن انفجارات الصواريخ ما هي إلا عملية يجري فيها "تفكيك الصواريخ بصورة سريعة دون تخطيط مسبّق". ومن خلال نمذجة سلوك المكتشفين، يشجّع إيلون ماسك فريق شركة سبيس إكس ويسمح له بفعل الشيء نفسه. لكن نمط الابتكار المطلوب بصورة مُلِحة يمكن أن يتغير بمرور الوقت. فقد باتت شركته الأخرى، تيسلا، تواجه اليوم تحدياً مختلفاً يتمثّل في كيفية التصنيع بأحجام اقتصادية. ويتطلب هذا الابتكار توافر عقلية التطوير. ومن ثم يحرص إيلون ماسك على إظهار نمط المُطوِّر في شركة تيسلا: فعندما تأخر إنتاج "موديل 3" من سيارة تيسلا بشكل كبير عن الموعد المحدَّد، أعلن إيلون ماسك أنه ينوي النوم في المصنع والإشراف بنفسه على إنتاج "موديل 3".
وقد أظهر بعض القادة في عينتنا البحثية قدرة استثنائية على التحوّل في أثناء عملية الابتكار، ما أدى إلى تحقيق تحسينات كبيرة في الأداء المؤسسي. على سبيل المثال، يرتكب الكثير من رجال الإطفاء أخطاءً قاتلة في أثناء تنفيذ عملهم، على غرار مراقبي حركة الملاحة الجوية. ويواجهون في أثناء تنفيذ أنشطتهم اليومية لحل المشكلات مواقف تحتاج إلى إجراءات فورية من أجل إنقاذ الأرواح أو التعامل مع المواقف الخطِرة.
لكننا وجدنا في إحدى الإدارات التي تناولتها دراستنا أن رئيس الإطفاء الجديد ومساعديه شعروا بأن تصوراتهم قد عفاها الزمن وبأنهم يفتقرون إلى الرؤى أو الاستراتيجيات المستقبلية. ولأنهم ينتمون في الغالب إلى فئة المنفّذين، فقد كان أعضاء الفريق يجدون صعوبة في وضع استراتيجية جديدة، وهي مهمة تُعتبَر من اختصاص المفكّرين. لكن حينما أقدم رئيس الإطفاء الجديد على نمذجة هذا السلوك، استطاع الفريق وضع رؤية تتمثّل في أن تصبح إدارتهم إدارة النخبة. وبدأ هذا العمل برئيس الإطفاء الجديد الذي طور استبياناً لاستقصاء الآراء ووزّعه على أعضاء الإدارة كأداة لتقصي الحقائق (نمذجة سلوك المكتشف). ونظّم ورشة عمل لمدة يومين، عمل خلالها رئيس الإطفاء الجديد ومساعدوه مع أعضاء الإدارة لتطوير رؤية بعيدة المدى تقوم على 6 ركائز (نمذجة التفكير والتطوير). ومن ثم تم إنشاء اللجان لإعطاء دفعة لكل إجراء (تنفيذ النمذجة).
وقد سمح التدوير من خلال هذه السلوكيات لرئيس الإطفاء الجديد بالعمل بشكل منهجي عبر هذه العملية مع موظفيه لوضع استراتيجية يشتركون فيها جميعاً. ونتيجة لذلك، عملت الإدارة على مواءمة التمويل لزيادة عدد موظفيها وطبَّقت نظاماً وظيفياً مزدوجاً لمكافأة الأفراد الراغبين في التخصص في الكفاءات الأساسية ودعمهم، مثل حالات الطوارئ الخطرة والاستجابة الطبية والتخصصات الأساسية الأخرى. وأتاح لهم ذلك الوصول إلى مستوى أعلى من الإتقان مقارنة بالإدارات الأخرى ونيل التقدير من أقرانهم.
المكافأة.
يتلقى الموظفون مكافآتهم استناداً إلى قدرتهم على أداء عملهم على الوجه الأكمل، لذا فإنهم يميلون إلى بذل قصارى جهدهم لتجنب المشاكل التي تقع خارج نطاق الوصف الوظيفي لتخصصاتهم. وهذا يعني أيضاً أنهم سيبذلون قصارى جهدهم لتجنب العثور على مشاكل جديدة، خاصة المشكلات الأكثر تعقيداً التي تتطلب منهم أداء مزيد من العمل، أو تتطلب منهم العمل مع إدارات أخرى. وينتشر هذا السلوك بكثافة لدرجة أن بعض الباحثين اعتبروا نشاط اكتشاف المشكلات "سلوكاً يستلزم أداء أدوار إضافية"، أي أنه سلوك يتطلب من الأفراد تجاوز حدود تخصصاتهم الوظيفية.
وتشير دراساتنا الميدانية إلى أن هناك حلاً واضحاً لهذه العقبة، ويتمثّل في ضرورة عمل الشركات على جعل اكتشاف المشكلات أمراً جذاباً للموظفين من خلال تقديم مكافآت على هذا النشاط، بالإضافة إلى منحهم حرية فعل ذلك. ففي عام 2020، أطلقت صحيفة وول ستريت جورنال على قاعدة 15% المتبَعَة في شركة ثري إم، التي تدعو الموظفين لقضاء 15% من وقتهم في العمل على المشاريع المفضلة، باعتبارها "استراتيجية الابتكار التي لا تحظى بالتقدير المناسب في الشركات الأميركية والمقدمة من مؤسسة كوربوريت أميركا". بالإضافة إلى ذلك، تجعل شركة ثري إم من اكتشاف المشكلات أحد مكوّنات الوصف الوظيفي لكل موظف من خلال تفويض المسؤولية وتشجيع التسامح الشديد مع الأخطاء وضمان تحقيق 30% على الأقل من إيرادات كل قسم من المنتجات التي تم طرحها خلال السنوات الأربع الماضية.
وبعد أن منحت الموظفين هذا المستوى من الحرية، استطاعت شركة ثري إم أن تكافئ موظفيها الذي يكتشفون المشكلات بعدة طرق. ويسمح "نظام المسار المزدوج للتقدُّم" للموظفين باختيار أحد مسارين متوازيين يمكنهم من خلالهما التقدُّم في حياتهم المهنية، بأجر ومزايا متساوية في كليهما، حيث يكون أحدهما مسؤولاً عن النهوض بالعلم وتطوير المنتجات ويختص المسار الآخر بإدارة الأفراد. يسهم هذا النظام في تحفيز الموظفين على تسخير مواهبهم في الجوانب التي يمكنهم من خلالها تحقيق أكبر فائدة ممكنة، كما يسهم أيضاً في التخلُّص من المعوّقات التي قد تدفع الباحثين الأذكياء إلى الابتعاد عن المجالات العلمية (كما أنه يجِّنب الباحثين الأذكياء أن يتحولوا إلى مدراء سيئين). وتسهم جوائز "مجتمع كارلتون" المرموق بشركة ثري إم، التي يُطلق عليها غالباً "جائزة نوبل ثري إم"، أيضاً في تقدير أولئك الذين أعادوا تشكيل قطاع العمل بشكل جذري. الأهم من ذلك أن الترشيحات تأتي من زملاء العمل، وليس من إدارة الشركة كما جرت العادة في معظم الشركات. ويُعتبَر اكتشاف المشكلات نمطاً نادراً جداً في دراستنا، لدرجة أننا نقترح على جميع الشركات تخصيص حوافز لتشجع الموظفين على المشاركة في اكتشاف المشكلات.
وهناك مثال آخر مستمد من بحثنا يتضمن إحدى كبرى الشركات الهندسية التي تخدم قطاع الطيران، وكانت الشركة تواجه صعوبة في العثور على منتجات وأسواق جديدة لتحقيق النمو. وخلال الدورات التدريبية لتعريف الموظفين بعملية الابتكار، توصّلنا إلى أن غالبية الموظفين كانوا منفّذين، ولم يكن هناك موظف واحد ينتمي إلى فئة المكتشفين. وقد انعكس هذا على شعار الشركة "العمل الجاد هو سبيلنا" الذي يكافئ اتخاذ إجراءات لإصلاح المشكلات على المدى المنظور. ولتصحيح الموقف، أنشأت الشركة نظاماً جديداً للمكافآت يشجّع الموظفين على التوصل إلى أفكار جديدة للمنتجات أو الأسواق. وتم من خلال هذا النظام تمويل 100% من جميع المشاريع التي تندرج تحت هذه الفئات من قِبَل المقر الرئيسي للشركة، وقبل إقرار هذا النظام، كان على وحدات الأعمال استخدام ميزانياتها الخاصة.
التدريب.
يتم توجيه قادة الشركات المُنتظَرين في معظم الدورات التدريبية في مجال الأعمال (وكليات إدارة الأعمال) نحو تفضيل التطوير والتنفيذ. لماذا؟ لأنها تميل إلى تعريف قادة المستقبل على المشكلات التي تم حلها بالفعل (تم تحديد أطر العمل بأثر رجعي بطريقة توائم قصص حل المشكلات). ومنذ عام 1973، أثبت رائد الفكر الإداري، هنري مينتزبيرغ، أن المدراء يقضون معظم وقتهم في أداء مهمات قصيرة المدى. بعبارة أخرى، وكما أثبت بحثنا، فإن معظم المدراء ينتمون إلى فئة المنفّذين، لكن هذا الوضع قابل للتغيير.
على سبيل المثال، تتمثّل إحدى طرق تدريب الأفراد في تعريضهم لبيئات كثيفة المشاكل. فقد وجدنا في دراسة أجريت على الشركات اليابانية أن المهندسين والعلماء المعينين في إدارة البحث والتطوير في أفضل المؤسسات أداءً، قد بدؤوا حياتهم المهنية في إدارة المبيعات، وليس إدارة البحث والتطوير. وعندما سألناهم عن السبب، قالوا: "لا نريدهم أن يظنوا أننا سنقدّم لهم المشاكل ونطلب منهم حلها، بل نريدهم أن يتعرّفوا بأنفسهم على مشاكل العميل". كما طوّرت هذه الشركات أنظمة فعّالة للتعرُّف على اقتراحات الموظفين من خلال تدريبهم على "عدم الرضا" عن سير العمل والطريقة الحالية لتنفيذ أعمالهم. ثم سُّميت المشكلات التي حددوها في هذه المجالات "البيض الذهبي"، أي فرص الابتكار والتطوير، وكان على أفراد الفريق حل هذه المشكلات. وتم متابعة النتائج والاحتفال بها بشكل منتظم.
وقد استفادت مجموعة أخرى من المشاركين في دراستنا من نوع غير عادي من التدريب في أثناء العمل. فقد عملنا مع فريق من مدراء إحدى سلاسل مطاعم الوجبات السريعة، وكان الفريق يتكوّن من 17 منفذاً و4 مُطوِّرين واثنين من المفكّرين واثنين من المكتشفين. وبمجرد أن أدركوا أنهم كانوا يجرّبون الحلول دون أن يتمهّلوا قليلاً للعثور على المشكلة الصحيحة وتحديدها بدقة، عمل أعضاء الفريق على تغيير سلوكهم. لقد حرصوا على تأجيل الموعد النهائي للتوصّل إلى الحلول وخصّصوا مزيداً من الوقت للعثور على الحقائق ودراسة الصورة الكبيرة، وهي سلوكيات من اختصاص المفكّرين والمكتشفين. وعلى الرغم من وجود عدد من الطرق لتحويل عقلية الفريق من التنفيذ إلى التفكير والاكتشاف، فقد عمل المدراء في هذه الحالة على تحقيق هذا الهدف من خلال أخذ ورديات عمل في الأقسام المختصة بخدمة العملاء. وتم العثور على الحلول بعد اكتشاف مشاكل لم تكن معروفة من قبل وتحديدها، ما أدى إلى اختصار وقت التنفيذ ممّا هو محدَّد في الموعد النهائي الأصلي. لقد حرص الفريق في واقع الأمر على تهيئة الظروف المناسبة، من خلال خدمة العملاء، التي مكّنتهم من التفكير مثل المكتشفين والمفكّرين ذوي الرؤى الثاقبة.
العثور على الابتكار
تسعى غالبية المؤسسات إلى تعزيز القدرات الابتكارية، لكنها نادراً ما تعرف كيفية تحقيق هذه الغاية. وقد اقترحنا مخطط عمل يمكن للقادة اتباعه من خلال تنفيذ البُنى التنظيمية والمكافآت والتدريب، بالإضافة إلى نمذجة قوة الأنماط المختلفة لعملية الابتكار.
وفي حين أن كل نمط ابتكار على قدر كبير من الأهمية، فمن المهم أن يتعرّف القادة على الموظفين المكتشفين ويوفّروا لهم الحماية والتشجيع ويقدّموا لهم المكافآت المناسبة. لكن قد يتمثّل أكثر العوامل أهمية للعثور على الابتكار في تغيير العقلية. وبدلاً من النظر إلى المشكلات على أنها عقبات سلبية، يمكن للقادة مساعدة الموظفين على النظر إلى المشكلات باعتبارها فرصاً للابتكار، والنظر إلى أنفسهم باعتبارهم أشخاصاً يمتلكون 4 سلوكيات أساسية قادرة على الإسهام في تحقيق النجاح.