كيف تُعزز حسّك الابتكاري من خلال تقليص الحلول المتاحة

6 دقائق
غوليرو/غيتي إميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: منذ أواخر التسعينيات، توصّل اختصاصيو علم النفس الاجتماعي إلى حقيقة مدهشة تتلخّص فيما يلي: إذا أردت زيادة رضا أحدهم عن اختيار ما، فلا تمنحه عدداً غير محدود من الخيارات، بل امنحه بدلاً من ذلك بعض الاختيارات ولكن مع فرض قيود واضحة. يمثّل هذا الشرط الإضافي عنصراً بالغ الأهمية لانتقاء الخيار المطلوب بثقة تامة. يمكن الاستفادة من نتائج هذا البحث أيضاً في تعزيز جهود الابتكار التي تتكلل بالنجاح في أغلب الأحيان نتيجة 1) تحديد مشكلة رئيسية يجب حلها؛ 2) تقسيمها إلى مشكلات فرعية؛ 3) تحديد كيفية حل هذه المشكلات الفرعية سابقاً؛ 4) الجمع بين حلول المشكلات الفرعية بطريقة غير مسبوقة ومبتكرة. تضيف هذه العملية، التي تطلق عليها مؤلفة المقالة “تخطيط الاختيار”، قيوداً مفيدة على عمليتك.

في حين أن كُتب التاريخ تحاول إقناعنا بأن الإنجازات غير المسبوقة تحققت نتيجة أفكار عبقرية مُلهَمة أو معجزات خارقة للعادة، فإن الحقيقة أبسط من ذلك بكثير. وسواء كان الأمر يتعلق باختراع كرة السلة أو نظام للتعلُّم والابتكار على مستوى المؤسسة، فقد توصّل أعظم العباقرة إلى اكتشافاتهم الخلّاقة عن طريق الاختيارات الذكية الواعية؛ أي أنهم حددوا مشكلتهم الكبيرة، ثم قسموها إلى عدة مشكلات فرعية، ثم بحثوا عن خيارات لكيفية حل كل مشكلة فرعية في السابق، ومن ثم دمجوا هذه الخيارات بطرائق غير مسبوقة للوصول إلى حلول جديدة.

أُسمي هذه الطريقة طريقة التفكير الموسّع. بدأتُ تدريسها لأول مرة لطلابي في كلية كولومبيا للأعمال، ولكنني لم ألبث أن أدركت قيمتها خارج قاعة الدراسة. على سبيل المثال، ثبت بالدليل القاطع أن أداء المؤسسات التي لديها لجان مخصصة للابتكار يبزّ أداء المؤسسات التي تفتقر إلى مثل هذه اللجان. ولكن هذه النتائج ليست مضمونة، وأعتقد أنه حتى هذه الشركات تفشل في تحقيق أقصى قدر من الإيرادات المحتملة، استناداً إلى الفهم الجماعي غير الناضج السائد في المجتمع لكيفية حدوث الابتكار الحقيقي. وتشير الأبحاث إلى أننا نستطيع تحقيق نتائج أفضل، إذا دمجنا علم الاختيار في العمليات التي تنتج حلولاً تغيّر العالم من حولنا.

قوة القيود

منذ أواخر التسعينيات، توصّل اختصاصيو علم النفس الاجتماعي إلى حقيقة مدهشة تتلخّص فيما يلي: إذا أردت زيادة رضا أحدهم عن اختيار ما، فلا تمنحه عدداً غير محدود من الخيارات، بل امنحه بدلاً من ذلك بعض الاختيارات ولكن مع فرض قيود واضحة، حسبما أوضحتُ أنا وزملائي. يمثّل هذا الشرط الإضافي عنصراً بالغ الأهمية لانتقاء الخيار المطلوب بثقة تامة.

وبعد مرور ما يقرب من 30 عاماً، عملتُ على تطبيق نتائج بحثي حول الاختيار لفهم كيفية حدوث الابتكار. إذ أردتَّ إيجاد حل، فيجب أن تبدأ أولاً بتحديد المشكلة؛ لكن يجب توخي الحذر هنا؛ لأن كل مشكلة كبيرة تتألّف في حقيقة الأمر من عدة مشكلات فرعية مموَّهة، لذا يجب عليك البحث عن خيارات تحل هذه المشكلات الفرعية المتنوعة. اتضح أن الاختيار هو العنصر الحاسم في الابتكار؛ فقد استطاع أعظم المبتكرين في تاريخ البشرية حل مشكلاتهم الرئيسية عن طريق إيجاد حلول لهذه المشكلات الفرعية، سواء بوعي أو دون وعي.

على سبيل المثال، في عام 1899 عندما أسس هنري فورد شركته لصناعة السيارات، لم يحاول حل مشكلته الرئيسية فحسب، وهي كيفية توفير السيارات بأسعار ميسورة في متناول للجميع، بل عمل على تقسيم المشكلة الرئيسية إلى مشكلات فرعية:

  • كيف أقلّل تكلفة العمالة؟
  • كيف أقلّل وقت الإنتاج؟
  • كيف أقلّل تكلفة المواد الخام؟

وجد فورد خيارات لحل هذه المشكلات الفرعية في عناصر موجودة من حوله فعلياً. فقد عملت شركة أولدزموبايل (Oldsmobile) على تطوير خط تجميع أدى إلى تقليل عدد العاملين اللازمين لتجميع سيارة واحدة. استلهم فورد أيضاً فكرة رائعة من “خط السلخ” في مجزر شيكاغو حيث يعالج عمال مدرَّبون متخصصون الذبائح في خط واحد متتابع. وأدرك أنه يستطيع تقليل وقت الإنتاج عن طريق نقل المُنتَج، لا العاملين، على طول الخط. واستطاع تقليل تكلفة المواد الخام باستخدام طلاء أسود يجف بسرعة على المعدن ويعطي لمعاناً رائعاً بكميات أقل من طلاء السيارات المعتاد. ومن خلال الجمع بين هذه الحلول ومشكلاته الفرعية، انخفض سعر سيارة فورد من أكثر من 1,000 دولار عام 1900 إلى 265 دولاراً فقط عام 1924.

يضيف أسلوب حل المشكلات بهذه الطريقة قيوداً مفيدة إلى عمليتك؛ فهو يسمح لك بالاختيار بين الحلول الجديدة بطرق لا يسمح بها العصف الذهني التقليدي.

تنجلي فائدة العصف الذهني عندما تتوافر لديك أنت أو أعضاء فريقك جميع المعلومات اللازمة لصناعة القرار، لكنها لن تكون مفيدة جداً عند الافتقار إلى هذه المعلومات. نتيجة لذلك تسفر جلسات العصف الذهني عادةً عن عدد ضئيل من الأفكار المتدنية الجودة التي لا تحل المشكلات الرئيسية.

لتوضيح قوة القيود، دعونا ننظر إلى مثال يوضح هذه النقطة، وهو اختراع كرة السلة. في عام 1891 كان جيمس نايسميث مدرساً للتربية البدنية في مدينة سبرينغفيلد بولاية ماساتشوستس. أراد أن يقدم لطلابه لعبة يمكنهم ممارستها في الصالات المغطاة خلال فصول الشتاء القارسة البرودة بإقليم نيو إنغلاند. كانت تلك مشكلته الرئيسية. ومثلما فعل هنري فورد، لم يُرهِق نايسميث ذهنه بالتفكير في أنشطة جديدة من الصفر، بل عمل على تقسيم مشكلته الرئيسية إلى 4 مشكلات فرعية:

  1. يجب أن تتلاءم اللعبة مع صالة مغلقة، وليس ملعباً واسعاً في الهواء الطلق.
  2. يجب أن تتوافر بها عناصر السرعة والجهد والمهارة ودرجة التعقيد الفكري المتوافرة في الرياضات الميدانية من أجل الحفاظ على اللياقة البدنية والذهنية للطلاب.
  3. يجب ألا تكون رياضة خشنة؛ لأن اللاعبين سيسقطون على أرضية صلبة وليست أرضاً ناعمة.
  4. يجب أن تكون نشاطاً جماعياً يضم عدداً كبيراً من الطلاب في وقت واحد بمكان ضيق محدود الاتساع.

أدّت هذه القيود إلى الحد من قائمة الخيارات المتاحة أمام نايسميث بطرق ساعدته على حل مشكلته. رفض إعادة اختراع كرة القدم الأميركية، لأنها ستكون رياضة خشنة للغاية إذا مورست على أرضية صالة الألعاب الرياضية الصلبة. ورفض إعادة اختراع رياضة البيسبول لأن صالة الألعاب الرياضية ستكون صغيرة جداً.

أدرك نايسميث في النهاية أنه يستطيع الجمع بين عناصر من رياضات اللاكروس وكرة القدم الأميركية والرغبي وكرة القدم، وعنصر من لعبة كان نايسميث يمارسها في طفولته وتُسمَّى “بطة على صخرة” (Duck on a Rock)، من خلال تمرير الكرة بين زملاء الفريق (اللاكروس وكرة القدم) واحتساب ضربات الجزاء في حالة الخشونة المفرطة (كرة القدم) والسرعة ودرجة التعقيد الفكري (كرة القدم الأميركية والرغبي) والتصويب نحو الهدف (“بطة على صخرة”)، وذلك لحل مشكلاته الفرعية. أدى حلها جميعاً إلى تمكينه من اختراع لعبة استمرت لأكثر من 130 عاماً وأصبحت صناعة ذات شأن في قطاع الرياضة بقيمة تبلغ مليارات الدولارات.

إنشاء “خريطة الاختيار”

تخطيط الاختيار هو تمرين يعتمد على علم الاختيار الذي يساعدك على إنتاج أكبر عدد ممكن من الحلول المقبولة التي يمكن أن يتوصل إليها خيالك وتجود بها قريحتك. يمكنك استخدام النموذج الآتي لإنشاء خريطة الاختيار. وإليك كيفية عمله:

اطلع على المزيد من مخططات هارفارد بزنس ريفيو في قسم إنفوجراف.

ابدأ بتحديد مشكلتك الرئيسية وتقسيمها إلى قائمة من المشكلات الفرعية. لنفترض أنك تعمل في أحد المستشفيات وتدور مشكلتك حول الإجابة عن السؤال الآتي: ما أفضل طريقة لنقل الأعضاء المتبرَّع بها دون إصابتها بأضرار من أي نوع؟ قد تدور مشاكلك الفرعية حول الإجابة عن الأسئلة الآتية:

  1. كيف نضمن نقل الأعضاء في ظروف صحية؟
  2. كيف نحفظ الأعضاء في درجة حرارة مناسبة؟
  3. ما أكبر المخاطر المرتبطة بنقل الأعضاء بأساليب غير صحيحة؟

بمجرد إدراج هذه المشكلات الفرعية في خريطة الاختيار التي أنشأتها، يمكنك البدء بالبحث عمّا أسميه “السوابق”، أو الحلول السابقة في البيئة نفسها التي تنتمي إليها مشكلتك (داخل المجال) أو في بيئات أخرى (خارج المجال).

فيما يخص المشكلات الفرعية المتعلقة بنقل الأعضاء التي أدرجناها للتو، الواقعة “داخل المجال”، يمكنك البحث عما فعلته المستشفيات الأخرى في الماضي وإدراجها ضمن خريطة الاختيار التي أنشأتها. يمكنك البحث أيضاً “خارج المجال” عن إجابات لأسئلة مثل ما يلي:

  • كيف تحافظ شركات الأغذية على سلامة المواد الغذائية الطازجة في أثناء النقل؟
  • ما أسرع طريقة لنقل التحف الزجاجية؟
  • ما أفضل طريقة للسفر بصحبة طفل حديث الولادة؟
  • كيف تنقل المخابز كعك الزفاف إلى الحفل؟

ستؤدي رؤية هذه الخيارات كلها أمامك إلى إثارة تفكيرك حتى تتمكن من البدء بمزج الحلول ومضاهاتها بمشكلاتك الفرعية. على سبيل المثال، يمكنك استعارة حل من شركات الأغذية التي تحافظ على الأغذية في درجات حرارة آمنة، أو أنظمة السقالات المعلَّقة التي تستخدمها الشركات المصنِّعة لمقاعد السيارات المخصَّصة للأطفال للحفاظ على أمانهم في أثناء التنقلات.

من خلال الجمع بين الخيارات المتاحة لحل كل مشكلة فرعية بالطريقة الصحيحة، قد ينتهي بك الأمر إلى حل مثل “صندوق حفظ القلب” (Heart in a Box)، وهو جهاز معتمد من إدارة الغذاء والدواء الأميركية طورته شركة ترانس ميدكس (TransMedics) الذي يسمح بالتبرع بالأعضاء بعد وفاة المتبرع. ويتحقق ذلك من خلال تكنولوجيا تسمى التروية التي تحاكي مناخ الجسم الدافئ لإطالة العمر الافتراضي للعضو، بدلاً من الاكتفاء بتجميده. ومن خلال استخدام صندوق حفظ القلب والتكنولوجيات المماثلة، يمكن للأطباء الآن الوصول إلى مجموعة أكبر من المتبرعين وإنقاذ المزيد من المرضى الذين يحتاجون إلى عمليات زراعة الأعضاء.

من المؤكد أن خريطة الاختيار لا يمكنها مساعدتك في تحديد مدى رضا أصحاب المصالح بمختلف فئاتهم، كالمستثمرين والعملاء، عن الحل الذي تقدمه، كما أنها لا تعطيك فكرة عما إذا كان الآخرون ينظرون إلى المشكلة بالطريقة نفسها التي تنظر بها أنت إليها. تتمثل الفائدة الرئيسية لخريطة الاختيار في مساعدتك على التوصُّل إلى العديد من الحلول الممكنة للاختيار من بينها. في الواقع، يمكن لخريطة الاختيار ذات الأبعاد الخمسة أن تولد ما يصل إلى 3,125 حلاً محتملاً.

وكما رأينا من قبل، فإنها تحقق هذه الغاية من خلال السماح لك بتقييد تفكيرك بطرق أثبتت عقودٌ من الأبحاث أنها تهيئك لصناعة قرارات صالحة للتطبيق؛ إذ لا تجري عصفاً ذهنياً تتوصّل من خلاله إلى فكرة جامحة فحسب، بل تجمع حلولاً أثبتت صلاحيتها في مجالات مختلفة لتمنح نفسك مجموعة من الاختيارات، التي يمكنك دمجها بعد ذلك وإعادة صياغتها لإيجاد حل أكبر من مجموع أجزائه.

وفي هذه العملية تزداد قدرتك على الابتكار؛ لأنك حررت نفسك من عبء التوصُّل إلى شيء جديد تماماً لم يسبق أن اكتشفه أحد من قبل، وهو أمرٌ مستحيل على أي حال، على حد وصف مارك توين قبل أكثر من قرن من الزمان.

يقول توين: “لا يوجد ما يُسمى فكرة جديدة. نحن ببساطة نأخذ الكثير من الأفكار القديمة ونضعها فيما يشبه المشكال العقلي، ثم نمزجها معاً لصناعة تركيبات جديدة وغريبة. ونستمر في المزج وصناعة التركيبات الجديدة إلى أجل غير مُسمى، في حين أنها القطع القديمة نفسها من الزجاج الملون التي كانت تُستخدَم عبر العصور”.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .