ملخص: تواجه المملكة العربية السعودية مشكلة محدودية الموارد المائية المتجددة وارتفاع استهلاكها، وتعتمد اعتماداً رئيسياً على المياه الجوفية غير المتجددة لتلبية الطلب المتزايد، خصوصاً في القطاع الزراعي، كما يسهم ارتفاع معدل النمو السكاني في تفاقم المشكلة، وعلى الرغم من جهود الترشيد، ما زال استهلاك الفرد مرتفعاً، وقد حفز ذلك الحاجة إلى تطوير حلول واستراتيجيات مبتكرة لتعزيز الإدارة الفعالة لموارد المياه في المملكة، بما في ذلك معالجة المياه وتحليتها، ومن أبرز هذه الحلول:
- تطوير وتنفيذ استراتيجية مبنية على نهج الإدارة المتكاملة لموارد المياه على المستوى الوطني، وقد اختيرت المملكة من قبل الأمم المتحدة كنموذج يحتذى به عالمياً في هذا المجال.
- تقنية المفاعل الحيوي الغشائي التي تجمع بين المعالجة البيولوجية والترشيح، وتنتج مياهاً بجودة أعلى، حيث جرى تطبيقها في أحد محطات المعالجة في الرياض
- تقنية التناضح العكسي التي تعتمد على أغشية متقدمة لفصل جزيئات مياه البحر عن الأملاح، وقد نجحت محطة الخفجي من خلالها في تقليل التكاليف بنسبة 40%.
- تقنيات الأكسدة الكهروكيميائية لإزالة الملوثات العضوية العنيدة، وتستخدم خصوصاً لمعالجة المياه الناتجة عن قطاع النفط والغاز.
- استخدام الشحنات الكهربائية المباشرة لتنقية المياه دون الحاجة إلى مرشحات أو مواد كيميائية، ما يسهم في توفير الطاقة وتقليل التكاليف.
- تطوير نظام جغرافي متكامل ومنصة رقمية ذكية للمياه، وبيانات الأقمار الصناعية، وتحليلًا جغرافيًّا مكانياً مدعوماً بالذكاء الاصطناعي ونماذج تعلم آلي لتخطيط الطلب وإدارة الكوارث.
تضع الدول كل جهدها لضمان سير عجلة الإنتاج والاقتصاد بوتيرة سريعة ومستدامة، ويتطلب ذلك إدارة مواردها بفعالية بفعالية وحكمة. ويبرز التحدي عندما تعاني الدولة من نقص في أحد هذه الموارد.
تواجه المملكة العربية السعودية، الواقعة في إحدى أكثر مناطق العالم جفافاً، تحديات غير مسبوقة في ندرة المياه، حيث تقع ضمن أعلى عشر دول عالمياً في مؤشر الإجهاد المائي لعام 2023.
ويضاف إلى ذلك أن المملكة تمتلك موارد مائية متجددة محدودة للغاية تقل عن 100 متر مكعب للفرد سنوياً، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى لندرة المياه المطلقة البالغ 500 متر مكعب للفرد سنوياً. ومن جهة أخرى، يبلغ عدد السكان الحالي نحو 35.95 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يصل إلى 44.9 مليون نسمة بحلول عام 2040، ما يعني أن أزمة المياه تتفاقم مع استمرار زيادة الطلب.
وفي عام 2023، وصل إجمالي استهلاك المياه في المملكة إلى 15.8 مليار متر مكعب. وعلى الرغم من هذه التحديات، حققت المملكة إنجازات مهمة، حيث بلغت نسبة تغطية السكان بشبكات المياه 80.76% في عام 2024م، كما تميزت بتحقيق أقل استهلاك للطاقة في تحلية المياه على مستوى العالم، إذ بلغ 2.27 كيلوواط/ساعة لكل متر مكعب.
ويمثل القطاع الزراعي الحصة الأكبر من استهلاك المياه في المملكة، إذ بلغت كمية استهلاك المياه الجوفية غير المتجددة في هذا القطاع نحو 9.96 مليارات متر مكعب في عام 2024، في حين أن المستهدف هو تقليصها إلى 7 مليارات متر مكعب بحلول عام 2030. ولتحقيق ذلك، وسعت المملكة من دمج التقنيات الحديثة في معالجة المياه وإعادة تدويرها، وقد حققت تقدماً ملحوظاً في هذا المجال، إذ وصلت نسبة الزيادة في إعادة استخدام المياه المعالجة في القطاع الزراعي إلى 115.3%.
تقنيات الأغشية المتقدمة
تعد أنظمة المفاعل الحيوي الغشائي أحد الحلول المبتكرة والمتقدمة لحل أزمة المياه، إذ تجمع هذه الأنظمة بين المعالجة البيولوجية والترشيح الغشائي، ما يوفر جودة مياه فائقة مقارنة بطرق المعالجة التقليدية.
وجرى تطبيق هذه التقنية في محطة معالجة مياه الصرف الصحي في منفوحة بالرياض، لإنتاج 200 ألف متر مكعب من المياه المعالجة يومياً، كما شهد سوق المفاعلات الحيوية الغشائية في المملكة نمواً ملحوظاً، حيث بلغ 38.7 مليون دولار في عام 2024 مع توقعات بالوصول إلى 85.9 مليون دولار بحلول عام 2033، مسجلاً معدل نمو سنوي مركب قدره 8.30%.وفي هذا الإطار، بلغت نسبة إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة (المجددة) في المملكة نحو 27% في عام 2024، ما يعكس الجهود المستمرة لتعزيز كفاءة الموارد المائية ودعم الاستدامة.
من جهة أخرى، تستخدم البنية التحتية لتحلية المياه في السعودية تقنيات متطورة متعددة، بما في ذلك التقطير متعدد المراحل، والتقطير متعدد التأثير، وأنظمة التناضح العكسي، التي تقوم على فصل جزيئات مياه البحر عن الأملاح التي تتركز عادة بنسبة تتراوح بين 3 و3.5%، وذلك عبر استخدام غشاء منفذ تحت ضغط عال.
ونجحت بعض المراكز البحثية في تطوير أداء أغشية التناضح العكسي من خلال عملية ضبط كيميائي مبتكرة لطبقة الغشاء النشطة. وكشفت نتائج الاختبارات العلمية عن قدرة الغشاء الجديد على تحقيق معدل رفض للملح بنسبة 98% وتدفق نفاذ بنسبة 25% أعلى مقارنةً بالأغشية التقليدية.
ويجسد مشروع نيوم التطبيق المتطور لهذه التقنيات، إذ يخطط لتحقيق معدلات استرداد تفوق 60% من خلال أغشية التناضح العكسي المتقدمة والتقنيات الهجينة، بقدرة إجمالية تصل إلى مليون متر مكعب يومياً، كما نجح مشروع محطة تحلية الخفجي في تقليل التكاليف بنسبة 40% عبر تقنية التناضح العكسي المبتكرة المدعومة بالطاقة المتجددة.
تقنيات المعالجة الناشئة
تتطلب إدارة المياه الحديثة دمج تقنيات إدارة التسرب الذكي مثل العدادات الذكية، والمواد ذاتية الإصلاح، لما لها من دور محوري في تقليل الفاقد وتحسين كفاءة الشبكات. تعد تقنيات إعادة الاستخدام المتقدمة مثل أنظمة الاسترداد العالي وحلول الإفراغ الصفري للسوائل، والمفاعلات الحيوية الغشائية، والتحلل الحراري من الحلول الفعالة لرفع نسب إعادة تدوير المياه وتحقيق أهداف الاستدامة المائية في المملكة.
تفرض التحديات البيئية والاقتصادية ضرورة الانتقال من النماذج الاقتصادية الخطية إلى منهجية الاقتصاد الدائري. وهنا تبرز أهمية عمليات الأكسدة الكهروكيميائية لإزالة المكونات العضوية المقاومة بفعالية، حيث أظهرت أبحاث أجريت في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن فعالية هذه العمليات المتقدمة في معالجة المياه المنتجة من عمليات النفط والغاز، بما يدعم أهداف الاقتصاد الدائري للمملكة.
كما سلطت الدراسات الحديثة الضوء على إمكانية تحويل محطات معالجة مياه الصرف الصحي التقليدية إلى مصانع استرداد للمياه العذبة والسيليلوز والغاز الحيوي لتحقيق أهداف الحياد المناخي وإزالة الكربون.
ومن جهتها، نفذت شركة أرامكو السعودية برامج شاملة للتحلية بنظام التفريغ السائل الصفري، والذي يساعد على استرداد المواد القيمة من المياه المنتجة ومخلفات التناضح العكسي، ما يوفر مليارات الجالونات من المياه الجوفية سنوياً مع دعم عمليات النفط المستدامة.
ومن التقنيات المستخدمة في هذا المجال أيضاً، تنقية المياه من خلال الشحنة الكهربائية دون الحاجة إلى مرشحات غشائية أو معالجة كيميائية، ما يوفر مزايا كبيرة في كفاءة الطاقة وتقليل النفايات.
تقنيات إدارة المياه الذكية
تبنت المملكة التحول الرقمي في إدارة المياه من خلال دمج إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي وتقنيات البلوك تشين، وقد تعاقدت وزارة البيئة والمياه والزراعة على إنشاء نظام معلومات جغرافية لتخطيط المياه، إضافة إلى إنشاء منصة رقمية ذكية للمياه ومعالجة بيانات الأقمار الصناعية وقدرات التحليل الجغرافي المكاني المدعومة بالذكاء الاصطناعي ونماذج التعلم الآلي.
كما تمتلك أنظمة إدارة المياه الزراعية القائمة على إنترنت الأشياء إمكانات تحويلية كبيرة، إذ كشفت الأبحاث من جامعة المجمعة أن هذه الأنطمة تسهم في خفض استهلاك المياه بنسبة 30%، وزيادة المحاصيل بنسبة 25%. وهي بذلك تعالج التحدي الحرج لقطاع الزراعة، الذي يمثل أكثر من 90% من إجمالي استهلاك المياه في البلاد.
الاستثمار وتطوير البنية التحتية
في إطار الاستراتيجية الوطنية للمياه، خصصت المملكة العربية السعودية 80 مليار دولار لمشاريع المياه واستثمرت الشركة الوطنية للمياه 50 مليار ريال سعودي (13 مليار دولار) في مشاريع المياه منذ عام 2017، مع 30 مليار ريال سعودي إضافية قيد التنفيذ، كما تطور الشركة السعودية لشراكات المياه 33 مشروعاً قيد التخطيط، منها 11 مشروعاً بقيمة 9.3 مليار دولار قيد التطوير تمهيداً للطرح في السوق، بما في ذلك 14 محطة تحلية تنتج ما يقرب من 6 ملايين متر مكعب يومياً، و12 محطة معالجة مياه الصرف الصحي بقدرة 1.5 مليون متر مكعب يومياً.
وتعد مبادرات البحث والتطوير أحد الجوانب التي يجب الاستثمار فيها لإدارة أزمة المياه بفعالية، وفي هذا الإطار، أجرى معهد الابتكار والبحوث لتقنيات المياه، العامل تحت إشراف هيئة المياه السعودية، 220 مشروعاً بحثياً تطبيقياً لتعزيز فعالية تكلفة تقنيات التحلية الصديقة للبيئة، وتشمل أنشطة البحث في المعهد حل المشكلات التشغيلية في محطات التحلية، ما أدى إلى وفورات مالية كبيرة وتحسينات تقنية.
وهناك قاعدة أساسية في علم الإدارة تقول: "ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته"، ويرى خبير الإدارة بيتر دراكر أن أي استراتيجية بدون مقاييس ليست سوى مجرد رغبة، ومن هذا المنطلق، تعمل المملكة على قياس أداء جهود إعادة تدوير المياه باستمرار للتأكد من فعالية الحلول التقنية المستخدمة. وتشير البيانات الحديثة إلى أن استخدام المياه المعاد تدويرها زاد ثلاثة أضعاف منذ عام 2016 ليصل إلى 508 مليون متر مكعب في عام 2023، كما ارتفع معدل استهلاك المياه المعاد استخدامها بنسبة 12% ليصل إلى 555 مليون متر مكعب في العام نفسه، بينما زاد إنتاج المياه المحلاة بنسبة 31%. وتخطط المملكة لإعادة تدوير أكثر من ملياري متر مكعب من المياه بحلول عام 2030، أي ما يمثل نحو 70% من إجمالي موارد المياه المتجددة.
التوقعات التقنية المستقبلية
يجري العمل على تقنيات جديدة تمثل تقدماً كبيراً في قدرات إدارة المياه الاستباقية، إذ تتعاون مؤسسة الموارد المائية في كوريا الجنوبية مع الكيانات السعودية لإنشاء منصة توأمة رقمية في جدة، قادرة على التنبؤ بالفيضانات والغمر باستخدام نمذجة الفضاء الافتراضي ثلاثي الأبعاد.
ويضم مركز الابتكار في نيوم مراكز للتميز ستركز على مشاريع البحث والتطوير المتخصصة في المياه، فيما تركز حالياً على التحلية المتقدمة المدعومة بالطاقة المتجددة ومعالجة النفايات الصفرية وإعادة استخدام المياه المعاد تدويرها، كما تمتد اهتمامات البحث في المركز إلى معالجة إعادة تدوير المياه المتقدمة، ومعالجة المحلول الملحي، والمستشعرات الذكية، وعمليات تقليل الطلب الصناعي.
يظهر النهج الشامل للمملكة في تقنيات معالجة إعادة تدوير المياه الحديثة أهمية الإدارة المستدامة للمياه عبر توظيف الابتكار التقني، ويثبت للدول التي تعاني ظروفاً بيئية مشابهة أن دمج هذه التقنيات لا يعالج فقط تحديات الأمن المائي الفورية، بل يخلق أيضاً أساساً للاستدامة البيئية طويلة الأمد والتنويع الاقتصادي.
في المحصلة، يعد قطاع المياه عنصراً محورياً لازدهار الاقتصاد في السعودية، ويشكل دعامة أساسية للقطاعات الإنتاجية الرئيسة مثل الصناعة، والزراعة، والطاقة. ولا يقتصر دوره على تلبية الاحتياجات المباشرة للمجتمع والاقتصاد فحسب، بل يتجاوز ذلك ليؤثر في مسار التنمية المستدامة.
وفي المقابل، تواجه المملكة تحديات متزايدة في ندرة المياه نتيجة محدودية الموارد المائية المتجددة، والاعتماد الكبير على المياه الجوفية غير المتجددة، خاصة في القطاع الزراعي، إلى جانب النمو السكاني المتسارع. وقد دفعت هذه التحديات إلى تبني المملكة حلولاً تقنية مبتكرة، والاستثمار في البنية التحتية، وتفعيل الإدارة الذكية والاقتصاد الدائري للمياه.
ومن خلال هذا التوجه، أصبح التعامل مع تحديات ندرة المياه مساراً استراتيجياً يرسخ الأمن المائي، ويعزز الاستدامة البيئية، ويدعم التنويع الاقتصادي.
وفي هذا الإطار، تستعد المملكة لاستضافة المنتدى العالمي الحادي عشر للمياه في عام 2027 تحت شعار "العمل من أجل غدٍ أفضل"، في رسالة واضحة تدعو العالم إلى تحويل الحوار إلى أفعال ملموسة. ويعد المنتدى أكبر حدث دولي معني بالمياه، حيث يجمع أكثر من 20 ألف قائد عالمي وصانع قرار وخبير من أكثر من 150 دولة، للمساهمة في رسم مستقبل حوكمة المياه وتعزيز الاستدامة.
وبذلك تؤكد المملكة دورها ومكانتها كنموذج عالمي في الإدارة الفعالة والمتكاملة للموارد المائية، بما ينعكس إيجاباً على تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030.