لقد أرغم تفشي عدوى "كوفيد-19" المؤسسات على اختبار أهم تجربة اجتماعية لمستقبل العمل، فالعمل من المنزل وسياسات التباعد الاجتماعي قد غيّرت من طريقة عملنا وتفاعلنا مع الآخرين بشكل جذري. لكن التأثير على العمل كان أكثر من مجرد تغيير مكان عمل الموظفين؛ فقد أسفرت الجائحة عن تغيير ماهية الأعمال التي يجب أداؤها وكيفية أدائها، لقد كان هناك إعادة تعريف للوظائف في ظل هذه الجائحة.
حيث يؤدي العديد من العمال اليوم مهاماً لم يتوقعوا أداءها سابقاً، وبطرق لم تكن لتخطر على بالهم من قبل. على سبيل المثال، يقوم الموظفون في شركات الملابس مثل "بروكس برذرز" (Brooks Brothers) و"نيو بالانس" (New Balance) اليوم بإنتاج أردية وأقنعة جراحية، في حين قامت شركات "تيسلا" و"فورد" و"جنرال موتورز" بإعادة تجهيز مصانعها لإنتاج أجهزة تنفس اصطناعي من قطع غيار السيارات بعد توقف مصانعها عن العمل نتيجة انخفاض طلب المستهلكين.
وبغض النظر عن كيفية إنجاز الأعمال، يتمتع القادة اليوم بفرصة غير مسبوقة لإعادة تعريف الوظائف من خلال تنظيم الأعمال وإسناد مسؤوليات مختلفة للموظفين بهدف الاستجابة للاحتياجات المتطورة لمؤسساتهم وعملائهم وموظفيهم بشكل أفضل. ونقترح ثلاث طرق لإحداث التغيير المطلوب في الأعمال والمواهب والمهارات ونقلها إلى مجالات أخرى تكون في أمس الحاجة إليها، وبالتالي تعزيز ميزتي القدرة على التحمل والرشاقة التنظيمية اللتين تساعدا الشركات في تجاوز أوقات الغموض والنمو بقوة عندما يتعافى الاقتصاد.
اجعل الأعمال قابلة للنقل بين مختلف أقسام المؤسسة
نظراً للأزمة الحالية التي تشهد انتشار عدوى "كوفيد-19"، من المهم أن نطلب من الموظفين العمل على أكثر المشاريع أهمية بأكبر قدر ممكن من السرعة والكفاءة. على سبيل المثال، لجأ "بنك أوف أميركا" (Bank of America) مؤقتاً إلى نقل أكثر من 3,000 موظف من مختلف أقسام البنك إلى مناصب تنطوي مهامها على الرد على وابل من المكالمات من المستهلكين والزبائن من الشركات الصغيرة كجزء من استجابته لأزمة فيروس كورونا.
إن الابتعاد عن قيود العمل الصارمة يمكّننا من مطابقة المواهب مع الوظائف المناسبة لحل تحديات الأعمال المتطورة بشكل مباشر. وتُعتبر الفرق التي تتمتع بالكفاءة اللازمة التي تتيح لها العمل خارج التسلسل الهرمي التنظيمي والهياكل البيروقراطية القائمة قدرات هامة قادرة على الاستجابة بسرعة عند الأزمات.
وقد قامت العديد من المؤسسات، مثل "أليانز غلوبال إنفيستورز" (Allianz Global Investors) و "سيسكو" (Cisco)، بالفعل بإعداد أسواق داخلية للمشاريع تُجزّئ العمل إلى مهام ومشاريع يمكن مطابقتها مع أي شخص في المؤسسة يتمتع بالمهارات المناسبة ويمتلك وقتاً لأدائها. ويمكن لهذه الأسواق أن تمكّن الموظفين الذين حُرموا فجأة من مزاولة أعمالهم من العثور على وظائف مختلفة بسرعة وسهولة وفقاً لمهاراتهم الأساسية أو الثانوية بشكل يمكّنهم من إحداث فارق.
ويمكن للمؤسسات أيضاً استخدام مثل هذه الأسواق لشغل منصب موظف مريض بسرعة، وإضافة مزيد من الأعضاء للعمل على المشاريع المهمة، والتعامل مع حالات تجميد التوظيف المفاجئة. على سبيل المثال، لجأ أحد مدراء التعيين الذي واجه قرار تجميد التوظيف مؤخراً إلى تجزئة أعمال منصب جديد إلى خمس مهام بدوام جزئي للموظفين الحاليين، وهو ما منح الموظفين فرصاً جديدة للتعلم والنمو ومكّن المدير من تحقيق أهداف شركته.
كما أن تجزئة الوظائف إلى مهام معينة يجعل من السهل تحديد المهام التي يمكن أن يؤديها العمال عن بُعد أو في مواقع جغرافية أخرى. ويمكن للقادة تجميع المهام المتماثلة التي يمكن أداؤها عن بعد وخلق وظائف جديدة لها، كما يمكنهم جمع المهام التي تتطلب أن يجري تنفيذها ميدانياً ودمجها مع وظائف أخرى، وهو ما يقلل من كمية العمل الذي يجب تنفيذه في المكتب أو في الموقع.
تسريع عملية الأتمتة
قد تؤدي الأتمتة إلى زيادة الموثوقية وتحسين السلامة والرفاهية والتعامل مع الارتفاع المفاجئ في الطلب في بعض القطاعات. في الواقع، لا ينطوي الهدف من الأتمتة على حرمان الموظفين من العمل في البيئة الاقتصادية التي نعيشها اليوم، بل أضحت قدرة إلزامية هدفها التعامل مع الأزمات.
وقد قامت العديد من شركات المرافق بزيادة استخدامها لبرمجيات الأتمتة في الأسابيع الأخيرة والسماح للعمال بتشغيل الأنظمة ومراقبتها والتحكم فيها عن بُعد، وبالتالي تقليل خطر تعرّض الموظفين للفيروس وتمكين المرافق من العمل بسلاسة دون زعزعة الخدمات.
وقامت شركات أخرى بزيادة استخدامها لعمليات الأتمتة في مراكز الاتصال بهدف التعامل مع الزيادة في حجم المكالمات. يمكن للأتمتة تسريع أوقات الاستجابة وتخليص الوكلاء من عبء أداء المعاملات، وهو ما يتيح لهم مزيداً من الوقت للتركيز على الاستجابة بتعاطف وتعزيز ذكائهم العاطفي في التعامل مع الزبائن.
مشاركة الموظفين في عمليات تبادل المواهب بين القطاعات
بصفتنا قادة، يجب علينا جميعاً أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: كيف يمكننا الاستفادة من بيئة العمل الأوسع للمواهب بهدف تعزيز القدرة على التحمل لدى كل من المؤسسات والموظفين خلال هذه الأوقات الصعبة؟ تتمثل إحدى الاستجابات المبتكرة في تطوير عملية تبادل للمواهب بين القطاعات ونقل الموظفين الذين فقدوا أعمالهم مؤقتاً بسبب الأزمة (على سبيل المثال، الموظفين العاملين في شركات الطيران وقطاع الفنادق) إلى مؤسسات لديها فائض في العمل (على سبيل المثال، مؤسسات قطاع الصحة والخدمات اللوجستية وبعض متاجر البيع بالتجزئة). وتنطوي أهمية هذه العملية على أنها تجنّب الشركات تكاليف الاحتكاك والسمعة المرتبطة بتسريح الموظفين، كما أنها تتيح لها دعم العمال في سعيهم إلى تطوير مهارات وشبكات جديدة.
على سبيل المثال، اقترضت سلسلة متاجر التجزئة والسوبر ماركت "كروغر" (Kroger) موظفين منحوا إجازات مؤقتاً لمدة 30 يوماً من شركة "سيسكو" (Sysco Corporation) المتخصصة في توزيع مواد غذائية بالجملة إلى المطاعم والتي تضررت أعمالها بشدة بعد انتشار فيروس كورونا.
وقبل عدة أشهر في الصين، بدأت الشركات أيضاً اتباع نهج إبداعي في مشاركة الموظفين انطوى على نقل الموظفين الذين فقدوا أعمالهم من مؤسسات مثل المطاعم وإقراضهم إلى مؤسسات أخرى شهدت ارتفاعاً كبيراً في الطلب، مثل شركة "هيما" (Hema)، وهي سلسلة متاجر بيع البقالة بالتجزئة التابعة لشركة "علي بابا" والمشهورة بتقديم خدمات سريعة لتوصيل البقالة. وانضم أكثر من 3,000 موظف جديد من أكثر من 40 شركة من مختلف القطاعات إلى خطة مشاركة الموظفين التي طرحتها شركة "هيما".
ومكّنت هذه العملية الشركات التي تستقبل الموظفين من تحديد ماهية المهارات التي تبحث عنها. ولجأت بعد ذلك إلى العمل مع الشركات التي تشارك موظفيها لتحديد مدة التبادل ومناقشة قضايا الأجور والمزايا والتأمين.
وعلى الرغم من أن جائحة "كوفيد -19" جعلتنا نمر في أوقات عصيبة، قد تعكس أيضاً جانباً غير مسبوق من الإبداع. فقد يؤدي نهج إعادة تعريف الوظائف ضمن قيود بيئة الأعمال الحافلة بالتحديات اليوم إلى تسريع مستقبل العمل وتوفير طرق جديدة ومبتكرة في كيفية إنجاز الأعمال ووقت إنجازها وهوية من ينجزها. وهو ما قد يساعدنا في نهاية المطاف على تعزيز القدرة على التحمل والكفاءة في مؤسساتنا، ومساعدة الناس على عيش حياة أكثر صحة واستدامة.