على الرغم من كثرة العناوين الصحفية الرنانة والتصورات المتشائمة التي تنشر المخاوف حول الذكاء الاصطناعي وأتمتة الوظائف، فالبيانات واضحة إلى حد ما. وكما وضّحت في كتابي الأخير: نحن البشر: الذكاء الاصطناعي والأتمتة والسعي إلى استعادة ما يميزنا” (I, Human: AI, Automation, and the Quest to Reclaim What Makes Us Unique)، فإن احتمال أن يستولي الذكاء الاصطناعي على وظيفتك أقل من احتمال أن يستولي عليها بشري آخر يستخدم الذكاء الاصطناعي، خصوصاً إذا لم تكن أنت قادراً على استخدامه. يعني هذا أن عصر الذكاء الاصطناعي لا يحمل أي جديد، فهو على غرار التكنولوجيات المزعزِعة السابقة سيؤدي إلى إلغاء بعض الوظائف، ولكنه سيؤدي من ناحية أخرى إلى خلق الكثير من الوظائف الجديدة التي تحتاج إلى البشر بشدة.

وكما وضحت في تقريرنا الحديث لشركة مان باور غروب (ManPowerGroup)، تقول 58% من الشركات إن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى خلق وظائف جديدة أكثر من الوظائف التي سيؤدي إلى إلغائها. تكمن المشكلة في أن الذين سيفقدون وظائفهم بسبب أتمتة العمل (مثل مدراء المتاجر التقليدية، لا الرقمية) لن يتمكنوا من الدخول تلقائياً في المنافسة للحصول على الوظائف الجديدة التي ستظهر (كمحلل الأمن السيبراني والمسوّق الرقمي ومختص أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال). وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي، فإن نصف الموظفين سيحتاجون إلى اكتساب مهارات جديدة بحلول العام 2025 لمجاراة التكنولوجيات الجديدة، ومن الجدير بالذكر أن هذه النسبة تعود إلى ما قبل فترة الازدهار الحالي الذي يشهده الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ووفقاً لتقديرات إريك برينيولفسون من جامعة ستانفورد، يتطلب كل دولار تنفقه المؤسسات على التكنولوجيا استثمار 9 دولارات إضافية في الكفاءات وما يتعلق بها من عمليات، مثل تحديد الموظفين الذين يتمتعون بمجموعات المهارات والإمكانات المناسبة، وتطوير المهارات المناسبة، وتمكين عمليات إدارة التغيير المطلوبة، وتهيئة الظروف التي تتيح للموظفين استثمار طاقاتهم الكامنة بالكامل. تتوافق هذه النتائج مع ما أشرتُ أنا وزميلتي بيكي فرانكيويتش إليه؛ أي أن العامل الذي يحدد النجاح والفشل في التحول الرقمي ليس التكنولوجيات نفسها، بل العامل البشري؛ أي الكفاءات.

إذاً، ما نحتاج إليه لا يقتصر على صقل المهارات أو رفع مستواها، بل يمتد إلى استباقها، أي جعلها قادرة على الصمود في المستقبل، وإعادة صياغة المسارات المهنية قبل أن نعرف حتى ماهية الوظائف والمهارات التي ستكون مطلوبة في المستقبل.

استباق مهارات القوة العاملة لديك استعداداً لمستقبل مجهول

كيف؟ لا يمتلك أي شخص وصفة محددة الخطوات وجاهزة للتنفيذ، خصوصاً في ظل عدم توافر أي معلومات حول المستقبل، لكننا نستطيع استقراء ما سيحدث في المستقبل بالاعتماد على التوجهات التاريخية العامة والدروس المستقاة من الأنماط الحديثة المتعلقة بالاقتصاد ورأس المال البشري، واستنتاج 5 توصيات عامة:

1. التركيز على القدرات الكامنة

مع تقلص العمر المتوقع للمهارات والخبرات ومستويات الأداء الحالية، بات من المستحسن تعيين الموظفين وترقيتهم بناءً على ما يمكنهم فعله، بدلاً من الاعتماد على ما فعلوه في الماضي. وهذا يعني منح الأولوية للمهارات الشخصية، مثل القدرة على التعلم والفضول وسعة الحيلة والقدرة على التكيف بدلاً من المهارات التقنية، مثل البرمجة أو التنقيب عن البيانات، والتركيز على العناصر الأساسية لقابلية التوظيف بدلاً من الخبرات التقنية الحالية أو تاريخ التوظيف السابق، اللذين ما زالا من العناصر المهيمنة على أساليب التوظيف العصرية.

ببساطة، قد لا نستطيع تحديد طبيعة الوظائف في المستقبل، لكن يمكننا أن نفترض، وبثقة، أن من يتمتعون بأعلى مستويات الفضول والذكاء العاطفي وسعة الحيلة والاندفاع والذكاء هم الأكثر استعداداً وقابلية لتعلم المهارات الضرورية لأداء مهام هذه الوظائف، وتقديم أي قيمة بشرية لا تستطيع التكنولوجيا تقديمها. من المزايا الإيجابية للقدرات الكامنة توافر طرق موثوقة ومجربة لقياسها، لا سيما أدوات التقييم النفسية، التي يمكن استخدامها أيضاً لتطوير القدرات الكامنة لدى الموظفين، خصوصاً من خلال الملاحظات القياسية المستندة إلى البيانات، التي تساعدهم على تحديد الفجوات القائمة بين مهاراتهم الحالية والمهارات التي يجب أن يتقنوها (راجع التوصية التالية).

2. تقديم تقييمات حاسمة

كان ثمة قدر كبير من الارتباك وسوء الفهم فيما يتعلق بالتوافق بين كفاءات الموظفين وقدراتهم الكامنة، وأفضل الخيارات المهنية، حتى قبل ظهور الذكاء الاصطناعي. ازداد تعقيد الأمور الآن، ويطرح معظم الموظفين (والمدراء أيضاً) أسئلة وجيهة عما سيفعلونه في المستقبل وما إن كانت تجاربهم وخبراتهم، مع كل ما استثمروه من وقت ومال في حياتهم المهنية، ستبقى ذات أهمية في المستقبل، وأين ستبرز أهميتها.

ولهذا، من المهم جداً مشاركة الملاحظات المستندة إلى البيانات (من التقييمات والبيانات الداخلية وتقييمات الأقران) ومساعدة الموظفين على إدراك أن اهتماماتهم ومهاراتهم يمكن أن تشكل ثروة مستقبلية في مؤسستك. وهذا يعني أن يضطلع القادة بدور المدربين أو كشّافي الكفاءات، حيث تتمثل مهمتهم الرئيسية في رعاية كفاءات الموظفين بصورة استباقية، إضافة إلى تسخير قدراتهم الكامنة بالكامل. وتذكّر: أن معظم الموظفين محرومون من الملاحظات، وأن نسبة كبيرة تبلغ الثلثين من مداخلات الملاحظات تخفق في تحقيق النتائج المطلوبة. العنصر الرئيسي هو أن تقول لموظفيك ما يجب أن يسمعوه، حتى عندما لا يرغبون في سماعه، والأهم هو أن تخبرهم بما يجهلونه ويمكن أن يحفزهم لتحقيق أداء أفضل.

من المهم جداً أن نلاحظ أن تقييم الفجوات في مهارات الموظفين لا يكفي، بل يتعين على المؤسسات أيضاً تحفيزهم على تطوير المهارات المهمة ذات الصلة، مع توفير أكثر البرامج فعالية وجاذبية وأقواها تأثيراً لتطوير هذه المهارات.

3. التركيز على توسيع نطاق الكفاءات

وبدلاً من الاستثمار في الاختصاصيين، أو إجبار الموظفين على دخول مجالات محددة، يتعين على المؤسسات أن تركز على توسيع نطاق كفاءات موظفيها، لكن هذا لا يعني التركيز على نقاط القوة لدى الموظفين، بل مساعدتهم على تطوير نقاط قوة جديدة تمنحهم ميزة التنوع في مهاراتهم.

نميل جميعاً بطبيعتنا إلى تكييف العالم من حولنا حتى يتوافق مع مهاراتنا الحالية بحيث نستطيع “تحقيق المزيد بجهد أقل”، وتطبيق التعديلات اللازمة لتحقيق الفاعلية الكسولة (lazy efficiency)، بدلاً من وضع أهداف ممتدة أو اكتساب مهارات جديدة. في الواقع، إن لم يكن الموظفون لديك ضمن أفضل 1% من أي مجال خبرة على اختلاف اختصاصاتهم (ما ينطبق بكل معنى الكلمة على مجموعة صغيرة جداً من نخبة الموظفين)، فمن الأفضل لهم أن يتحولوا إلى موظفين متعددي المهارات، خصوصاً أن كل مهمة أو مهارة جديدة يتعلمها الموظف تترافق مع الكثير من المهارات الأساسية الجديدة التي ترتبط بمهام أو وظائف أو مهن أخرى.

سيؤدي هذا أيضاً إلى زيادة التنوع والشمولية. وكما قال جوزيف فولر وكريستينا لانغر من جامعة هارفارد ومات سيغلمان من معهد برننغ غلاس: “سيؤدي التحول إلى التوظيف بناءً على المهارات إلى فتح باب الفرص أمام عدد كبير من الموظفين المحتملين الذين تعرضوا خلال السنوات الماضية غالباً للاستبعاد من فرص التوظيف بسبب تضخم أعداد الحاصلين على الدرجات العلمية”. إذا كانت المؤسسات تشتكي عدم قدرتها على العثور على كفاءات متنوعة وخلاقة، فيتعين عليها أن تتوقف عن البحث في الأماكن المعتادة نفسها ووفق الطرق القديمة نفسها.

4. الاستثمار في مدراء الإدارة الوسطى

أشرتُ أنا وإيمي إدموندسن مؤخراً إلى أن المدراء هم العامل الأهم في إطلاق العنان للإمكانات البشرية في العمل، خصوصاً عندما يركز التحدي على إنعاش المواهب وإعادة تنشيطها ووضع تصور جديد لها. لقد كان دور مدراء الإدارة الوسطى مهماً جداً، حتى قبل عصر الذكاء الاصطناعي، وكان يمثل نسبة 30-40% من أداء الفريق، لكن هذا الدور أصبح أكثر تعقيداً بكثير.

بالنظر إلى تاريخ الإدارة المؤسسية، كان المدير تقليدياً شخصاً يتمتع بخبرة تقنية مثبتة وتاريخ من الأداء الممتاز على المستوى الفردي، أما اليوم فلا يقتصر دوره على فهم المهام الإدارية “الكلاسيكية” فحسب، مثل توظيف الأشخاص المناسبين وتكليفهم بالمهام الصحيحة وتوجيههم على النحو المناسب واستخدام التقييمات لتحفيزهم وتمكين الفريق من تحقيق أداء جيد، بل يتضمن أيضاً بعض التحديات المحددة الجديدة والفائقة التعقيد؛ مثل إدارة الفرق الهجينة والافتراضية وخلق جو من الأمان النفسي، وتعزيز التنوع والمساواة والشمولية والانتماء (الذي يشمل توظيف أفراد مختلفين عنه وتحفيزهم)، ومساعدة الموظفين على التكيف مع هذا العصر الذي يعمل فيه الذكاء الاصطناعي جنباً إلى جنب مع البشر، مع كل ما يثيره ذلك من توتر وانعدام اليقين.

باختصار، هذا أفضل وقت للاستثمار في مدراء الإدارة الوسطى، خصوصاً من ذوي المهارات الشخصية المهمة جداً التي ستحميهم من تقلبات المستقبل على الأرجح من خلال تمكينهم من مواكبة التطورات التكنولوجية، وتعزيز القيمة التي تتوقع المؤسسات تحقيقها من الابتكارات الجديدة.

5. الاستثمار في المهارات القيادية

إذا كنت قلقاً بشأن المستقبل الذي سيعتمد بنسبة كبيرة على الذكاء الاصطناعي، وتشعر مع ذلك أن البشر سيبقون طرفاً فاعلاً ضمن المشهد، فمن الأفضل أن تهتم باستباق المهارات الضرورية لقادة مؤسستك، لأنهم سيبقون مسؤولين عن تحديد استراتيجية الشركة وترويجها ودفع عجلة تطور ثقافتها في مستقبل قد يشهد فترات من انعدام اليقين. يعتمد هذا الأمر جزئياً على تعزيز إمكانات الموظفين من خلال تزويدهم بالمهارات الشخصية الصحيحة (وفق الخطوة 1) وتطوير هذه المهارات، ويعتمد أيضاً على المضي قدماً، وإدراك الفكرة التي تقول إن أفضل القادة اليوم قد يعجزون عن فعل ما يلزم في المستقبل، خصوصاً أن نجاحهم مبني على تكرار الأساليب التي أثبتت نجاحها في الماضي، وهو أسلوب يمثل في أغلب الأحيان عائقاً أمام التغيير أو تعلم أشياء جديدة.

من المهم أن ندرك أن الاستثمار في المهارات القيادية يعني تسخير القدرات التي تُمكّن الموظفين من التعاون بفعالية وتشكيل فريق يتمتع بأداء متميز. لا يعني هذا الأمر ترقية الأفراد إلى مناصب عليا أو مناصب شرفية، ومن المؤكد أنه ليس مسابقة في الشعبية التي غالباً ما تدعم ترشيحات الموظفين ذوي “الإمكانات الكبيرة”، بل يتمحور بالأحرى حول الصفات التي يجب أن يمتلكها الموظفون لإلهام الآخرين وتحفيزهم ونقلهم إلى مستقبل سيتضمن الذكاء الاصطناعي دون شك، ولكن يفترض به في أفضل الأحوال أن يتميز بأنه عصر يتشارك فيه البشر والذكاء الاصطناعي معاً. هذا هو التحدي الكبير الذي تواجهه القيادة حالياً. إذا تمكنت المؤسسات من ترقية أنظمة اختيار القيادات لديها، وذلك بالانتقال من المواصفات التي ترتكز على تكرار النجاح إلى الاختيار بناءً على المهارات المستقبلية وتعزيز هذه المهارات، فستصبح مواجهة جميع التحديات الأخرى أسهل بكثير. يعني هذا على وجه الخصوص التقليل من أهمية أشياء مثل “التوافق مع ثقافة الشركة” والأداء السابق والخبرات التقنية، وزيادة التركيز على قدرات التعلم والفضول والنزاهة ومهارات التعامل مع الأشخاص. الأهم من هذا كله، إذا كانت المؤسسات مهتمة حقاً بتسخير التنوع، فعليها أن تعطي الأولوية للقيادة الشمولية والتنوع المعرفي، وتكسر التماثل الرتيب في المواصفات الموجودة لدى القادة.

تتسم التكنولوجيا بالتغير المستمر، لكن حتى نضمن أن تمثل هذه التغيرات تطوراً حقيقياً (أي أن تسهم في التقدم)، يجب أن نبذل جميع الجهود المتاحة لتمكين البشر من التطور، وتوظيف الكفاءات ذات الصلة لجني الفوائد المحتملة للتكنولوجيا. على الرغم من أن هذا ليس مضموناً على الإطلاق، يجب أن نؤمن ونثق بقدرة البشر على مواصلة التكيف مع ابتكاراتهم التكنولوجية.