على مدى 20 عاماً قضيتها في الدراسة والبحث في الابتكار، دائماً ما كانت هناك فكرة تراودني: الابتكارات الاستثنائية تأتي عادة من أشخاص خارج فريق العمل. ولتسريع الابتكار في تقنية الرعاية الصحية، نحن بحاجة لإعطاء فرص أكثر لمشاركة أشخاص مبدعين ليس لديهم الخلفية التقليدية في العلوم الصحية. فكيف يمكن التعاون مع مبتكرين خارج قطاع الصحة؟
ينظر الأشخاص من خارج فريق العمل للمشاكل عادة بطرق جديدة. وهم غير عالقين في مصيدة النماذج والافتراضات التي يتمسك بها المخضرمون في الصناعة. كما أنهم يشككون كثيراً (أو يتجاهلون) افتراضات يعتبرها الأخصائيون من المسلمات. وليس لديهم استثمارات كالتي استثمرها المخضرمون في الأدوات والتجارب والموردين وعلاقات العملاء التي تجعل التغيير صعباً أو غير جذاب.
أهمية التعاون مع مبتكرين خارج قطاع الصحة
على سبيل المثال، هناك أحد المبتكرين لأنظمة الصواريخ والمعدات الحربية، والذي ابتكر طريقة ثورية لتصوير الجهاز الهضمي. لطالما استخدم الأطباء كاميرا تُثبت في نهاية أنبوب مرن طويل - منظار داخلي- للنظر داخل المعدة. هذه الطريقة مزعجة للمريض، ناهيك عن أنّ هناك أجزاء كثيرة من الأمعاء الدقيقة لا تصل إليها. لكن معظم أطباء الجهاز الهضمي استثمروا في تدريبات كبيرة على استخدام معدات التنظير واشترى الكثير منهم معدات تنظير من أجل عملائهم. ليس من المفاجئ إذاً أنّ معظم الابتكارات في هذا الميدان ركزت على إدخال تحسينات تصاعدية في الأنبوب والكاميرات وبرنامج التصوير.
اقرأ أيضاً: تطوير الأفكار الإبداعية لتحسين الرعاية الصحية من بيانات الحياة اليومية للأفراد
لكن هذا المبتكر تعامل مع المشكلة كمصمم صواريخ وليس كاختصاصي في أمراض الجهاز الهضمي. لم يفترض أن علينا التحكم بالكاميرا باستخدام أنبوب ولا أن ننقل الصور باستخدام سلك. عوضاً عن ذلك، ابتكر كبسولة تدعى "بيل كام" (PillCam) تعمل كصاروخ صغير يمكن للمريض ابتلاعه. فيها مصدر للطاقة والضوء، وكاميرتان صغيرتان. بعد تناول "بيل كام" يذهب المريض إلى عمله بينما ترسل الكبسولة صوراً إلى جهاز فيديو يرتديه على خصره. بعد حوالي 8 ساعات كأقصى حد، ولدى عودة المريض إلى مكتب الطبيب، يقرأ حاسوب الصور ويتعرف على أية شذوذ فيها (وتخرج بيل كام بشكل طبيعي من الجسم). كما أنّ العمل جار حالياً على كبسولات موجهة.
اقرأ أيضاً: إشراك الرئيس التنفيذي يحسن من مستوى الرعاية الصحية في شركتك
لقد أثبت هذا الجهاز أنه أكثر أماناً وأقل تكلفة من المنظار التقليدي (تكلفته أقل من 500 دولار). كما أنه أقل إزعاجاً بكثير للمريض. لكن في حين تبنى المرضى كبسولة "بيل كام" كبديل، يبدو أنّه كان صعباً على الأطباء اعتمادها وذلك لأسباب عدة منها استثمارهم الحالي في المنظار الداخلي وتعوّدهم عليه. (من الاعتبارات الأخرى طبعاً الكفاءة، ففي حين أنّ المنظار التقليدي متفوق في تطبيقات معينة، تستطيع بيل كام القيام بأشياء لا يستطيع المنظار الداخلي القيام بها). تباع حالياً "بيل كام" في أكثر من 60 بلداً، وتوفر الكثير من البلدان منتجات منافسة لها. إنها تُعتبر حلاً مذهلاً لمشكلة صعبة، ومن السهل رؤية أنّ هذا الابتكار جاء عن طريق شخص من خارج فريق العمل، وليس من مصنّع للمناظير.
الدخلاء على صناعة الرعاية الصحية
هناك شخص آخر دخيل على صناعة الرعاية الصحية تجدر الإشارة إليه، وهو دين كامن الذي تحدثت عنه في كتابي عن الابتكارات الاستثنائية المتكررة والذي يحمل عنوان "كوركي" (Quirky). لعل أكثر ما اشتهر به كامن هو ابتكاره لجهاز التنقل الشخصي "سيجواي" (Segway Personal Transporter) لكنه أيضاً شخص لديه ابتكارات لأجهزة طبية كثيرة. فقد ابتكر أول مضخة محمولة لحقن الدواء والتي (من بين تطبيقات عديدة) أحدثت ثورة في مجال الرعاية بمرضى السكري. كما ابتكر أيضاً جهازاً محمولاً لغسيل الكلى، والكرسي المتحرك "آي بوت" الذي باستطاعته صعود السلالم، والعديد من الأطراف الاصطناعية المتقدمة. ومن الملفت للنظر أنه عمل على حل مشاكل لكل من هذه الحالات ليس من منطلق خبرته في المجال، بل لأنه رأى معاناة تحتاج لمن يعالجها. وفي الواقع، ليس لدى كامن خلفية طبية، ولم يحصل على أية شهادة جامعية. هو حرفي بارع يتمتع بموهبة في الكهربائيات والهندسة، ولم يسمح للعوائق الاعتيادية في الابتكار الطبي أن تقف في طريقه.
اقرأ أيضاً: هل هذا هو المستشفى الذي سيدفع نظام الرعاية الصحية الأميركي للابتكار؟
لكن ليس لدى كل شخص راغب في الابتكار ضمن مجال الرعاية الصحية سعة حيلة كامن وتصميمه. فمعظم الناس يحتاجون لأن يسلكوا طريقاً واضحاً حتى يكون بوسعهم العمل بمقتضى أفكارهم. أضف إلى ذلك ما تظهره معظم الدراسات من أنّ الأشخاص الذين يتجاوزون الحدود يعاقبون غالباً. نحن نستبعد غير المتخصصين ونشكك بمن ينخرطون في نشاطات قد تبدو غير متوافقة مع هويتهم، وهو أمر يُصّعب على المتخصصين العمل في مجالات متقاطعة، ويُصّعب حتى على من لم يتلقوا تدريباً علمياً المساهمة بأفكارهم. لكن لحسن الحظ، نحن في عصر فيه فرصة هائلة لتغيير هذا الحال للأفضل.
يمكننا إطلاق العنان للابتكار بخلق فرص تُمكّن من يملكون الأفكار الجديدة من الوصول إلى أشخاص لديهم الخبرة اللازمة لصقل هذه الأفكار وتنفيذها. مثلاً، بإمكان المؤسسات البحثية خلق تجمع واتحاد من الخبرات لمشاركة الموارد الفكرية، وتطوير الحوافز لمشاركة الأصول المادية العلمية، مثل المختبرات والمعدات. هناك وكالات مثل المختبر الوطني للصحة (National Institute of Health) توفر حالياً حوافزاً للباحثين الطبيين للمنافسة بقوة لدرجة تجعلهم يرفضون مشاركة الموارد والمعرفة مع بعضهم البعض. رأيت هذا يحصل لأول مرة أثناء عملي مع أحد الباحثين على مرض الزهايمر. فبعد فشله في الحصول على برنامج منحة مشروع البحث في المعاهد الوطنية للصحة (NIH R01) على مدى دورتين، لم يعد بوسعه تحمل الدفع لمستعمرة الفئران في مركز أبحاثه. ومع أنّ الأمر استغرقه أكثر من سنتين لتطوير سلالة من السمات التي احتاجها لدراساته، لكنه بدل أن يعطي الفئران لفرق أخرى تعمل على مشاكل مماثلة، دمرها لعلمه أنه سوف يكون في تنافس مع هذه الفرق في دورات المنح القادمة.
لتعزيز هذه الأنواع الجديدة من التعاون، على الحكومات والشركات والمعاهد البحثية توفير الحوافز لتأسيس مختبرات مشتركة، وبناء مختبرات عامة لمساعدة غير العلماء على المشاركة في العلم، وبناء مرافق عامة لمساعدة الأفراد والمؤسسات الصغيرة على تخطي إجراءات الاختبار السريري المكلفة والمعقدة.
اقرأ أيضاً: يمكن لمؤسسات الرعاية الصحية استخدام التفكير التصميمي من أجل تحسين تجربة المرضى
علاوة على ما سبق، عليهم خلق برامج تجعل من الممكن اتخاذ مسارات مهنية علمية غير مباشرة. في وقتنا الحالي، هناك تحيز كبير لدى معظم برامج الخريجين في الكليات العلمية للاعتراف فقط بشباب أنهوا للتو دراساتهم الجامعية. أما الأشخاص الأكبر سناً، كأولئك الذين غيّروا مساراتهم المهنية أو الآباء الذين توقفوا عن العمل لفترة من الزمن لرعاية أولادهم – فهم غالباً لا يُعطون اهتماماً كبيراً. يفرض هذا التحيز تكلفة كبيرة في شكل فرص تضيع على من يرغبون في أن يصبحوا علماء أو على أشخاص سيستفيدون من اكتشافاتهم. عندما نوظف الحوافز والموارد التي تقوي التعاون وتمنح وصولاً أكثر شمولية، سنرى تطوراً أكثر وإبداعاً وكفاءة وسرعة في ابتكارات تقنية في مجال الرعاية الصحية بسبب التعاون مع مبتكرين خارج قطاع الصحة.
اقرأ أيضاً: كيف نقلل أعباء عمل أطباء الرعاية الأولية مع تحسين نظام الرعاية الصحية؟