كيف يختلف تطبيق الابتكار المُزعزِع على منتَج مقابل تطبيقه على منصة؟ وماذا عن تطبيق الابتكار المزعزع على منصة بطريقة صحيحة؟
من باب التوضيح، فلنسمِّ المنتَج "منصة مستخدَمة لمنتَج، أو لعدد قليل جداً من المنتجات"، والمنصة "هيكلاً يُبنى عليه العديد من تغييرات المنتجات". يُقِر هذان التعريفان بأن المنتَج مقابل المنصة (product vs. platform) ليس أمراً أسود وأبيض، ولكن لنستخدمهما لغايات عملية. فبتطبيق هذا التعريف، تكون بطارية "تيسلا" (Tesla) للسيارات منتجاً، لأنها تمد بضع سيارات فقط بالطاقة. ولكن مع دخول عدد أكبر من السيارات الكهربائية السوق (بما فيها سيارات "تيسلا" مختلفة الطرز) وتزايد استخدامات البطاريات الكهربائية القابلة للشحن، قد ترتقي البطارية درجات السلم لتصبح أشبه بمنصة.
على نحو مماثل، من المفيد التمييز بين أنواع الزعزعة.
فهناك الزعزعة العليا (high-end disruption)، التي تعني دخول السوق بمنتَج، أو منصة، أجوَد مما تعرضه الشركات الراسخة، وهنا يبرز مثال سيارة "تيسلا" من طراز "إس" من جديد، أو زبادي "تشوباني" (Chobani) من باب التغيير. والبدء بزعزعة عليا مكلف ويطرح تحديات، ما يتطلب التأمين المسبَق لرأس مال كبير. حتى "تشوباني" احتاجت إلى تمويل يُقدّر بنحو مليار دولار للانطلاق في مشروعها. وتستلزم الزعزعة العليا أيضاً تحدي الشركات الراسخة بشكل مباشر في البدء، وهو وضع يصعب كثيراً الخروج منه بسلام.
والخيار الثاني هو الزعزعة الدنيا، التي تتمثل في صنع منتَج، أو منصة، كلفتهما ميسورة واستخدامهما أسهل. وتكون الأسواق أكثر ملاءمة للزعزعة الدنيا حين تُفرط المنتجات، أو المنصات المطروحة في خدمة القاعدة السائدة للمستهلكين. لنأخذ مثلَين فقط: فكّر في دخول شركتي "تويوتا" (Toyota) و"هوندا" (Honda) السوق الأميركية بسيارات "كورولا" (Corolla) والسكوتر (Scooter) على التوالي. تشيع الزعزعات الدنيا أكثر من الزعزعات العليا، لأن كلفة النهوض بها أقل، وهي لا تتحدى الشركات الراسخة، على الأقل في البداية، وإنما تكسب موطئ قدم لها في السوق باجتذاب عملاء الشركات الراسخة، الأقل إدراراً للأرباح.
والنوع الثالث من الزعزعة هو زعزعة السوق الجديدة، التي تنبثق من غير المستهلكين، وغالباً ما تشكّل فئة جديدة، أو حتى صناعات جديدة. على سبيل المثال، كسبت الإستنتات (أسطوانات معدنية دقيقة تستخدم لتوسيع الشرايين المريضة المتضيقة) موطئ قدم لها في سوق تشخيص القسطرة، إلا أنها تستقطب حالياً ببطء وبثبات حصة مهمة من سوق الجراحة خارج الجسم المختصة بأمراض القلب. إنها مثال مكرّر للزعزعات التي لم تتحدَّ في البدء الشركات الراسخة بشكل مباشر، وإنما كسبت موطئ قدم لها في حيّز مجاور من السوق.
تطبيق الابتكار المزعزع على منصة محددة
في جميع الأمثلة السابقة، انخرطت شركة في عملية زعزعة باستخدام منتَج، ولكن من الممكن أيضاً الانخراط في الأنواع الثلاثة من الزعزعة في آن معاً عبر منصة.
من النادر جداً وجود زعزعات عليا قائمة على منصة، وذلك يعود في الغالب إلى احتياجها إلى تمويل ضخم، وصعوبة تحقيق ربح منها، على الرغم من أن القلة الموجودة منها تستحوذ على قدر كبير من الاهتمام. ويقوم هذا النوع من الزعزعة بمهاجمة الشركات الراسخة بشكل مباشر وواضح للغاية، شأنه في ذلك شأن الزعزعة العليا القائمة على منتج. ولكن بدلاً من تحدي الشركات الراسخة بناء على منتَج واحد، غالباً ما ينافس هذا النوع من الزعزعات المجموعة الكاملة من عملاء الشركات الراسخة، ما يدفع تلك الشركات في أغلب الأحيان إلى شن هجوم معاكس شرس.
والمثال الأبرز هنا هو شركة "أوبر" (Uber)، التي تستخدم منصة لتسويق منتجاتها الثمانية. فقد جمعت الشركة أكثر من 9 مليارات دولار حتى الآن، من دون أن تحقق ربحاً، وهي تتعرض لهجوم مضاد من قطاع سيارات الأجرة. وغالباً ما تنبثق الزعزعات العليا الناجحة من مبادرات "الابتكار المفتوح": حين يسير كل شيء وفق الخطة، تُنتدب الشركات المزعزعة المحتمَلة لأن تكون بائعة ثانية للشركات الراسخة، أو شريكة لها (Apple Pay مثلاً)، بدلاً من أن تكون منافسة مباشرة لتلك الشركات.
تُرخِّص الزعزعات الدنيا للمنصات الأشياء وتجعلها أسهل متناولاً للمستهلكين المعرَّضين للإفراط في الخدمة. وتشمل هذه الزعزعات منصات مثل "ذاكرة فلاش" (Flash memory)، وطائرة "بوينغ" من طراز 737-200 (الطائرة التي أدت إلى ظهور شركات الطيران منخفضة الكلفة)، والعديد من شركات الخدمات "الأرخص والأسهل". وقد تكون هذه الزعزعات أقل ظهوراً من شقيقاتها الزعزعات العليا، على الأقل عند إطلاقها، إلا أنها لا تقل عنها خطورة بالنسبة إلى الشركات الراسخة. وبخلاف منتجات الزعزعة الدنيا، قد تُغيِّر الزعزعات الدنيا للمنصات دينامية صناعة كاملة.
خذ بعين الاعتبار الزعزعة الدنيا لمنتج هو أجهزة الكمبيوتر الشخصية. اعتاد الناس شراء أجهزة الكمبيوتر بناء على مواصفات تتعلق بالسرعة والقدرة على التخزين (التي كانت مكلفة)، أما اليوم، فيبحث المتسوقون عن مدى مناسبة الجهاز ومدة حياة البطارية. إن كنتَ صانع أجهزة كمبيوتر، فقد يمثل طرح كمبيوتر نقال رخيص بقدرة أقل على التخزين وبطارية تعيش أطول، تحدياً لك، إلا أن ذلك ليس مستحيلاً. ولكن سيكون من الأصعب بكثير إطلاق فئة منتجات جديدة تماماً، لإيقاف منصة مزعزِعة دنيا.
وهناك أيضاً زعزعات السوق الجديدة القائمة على منصة، وهي لا تُنشئ فئات جديدة فحسب، بل تمكّن شريحة جديدة كاملة من الناس من ربح المال (فكِّر في "إير بي إن بي" (Airbnb)، والإيداع الرئيسي للأموال بواسطة "آي إن جي دايركت" (ING Direct)، و"كويكن" (Quicken) لتسوية الضرائب، وغيرها). لا تلحظ الشركات الراسخة هذا النوع من الزعزعات في البداية، شأنها في ذلك شأن زعزعات السوق الجديدة للمنتَج، إلا أن مدى تأثيرها أوسع، لأن ما اعتبرته تلك الشركات في الماضي لعبة، بات الآن يتحدى اقتصاد منتَج والأساس المنطقي الكامل لمنهجية عمل تلك الصناعة بكاملها.
لذا، ثمة فارق كبير بين بدئك بمنتَج وبدئك بمنصة. لزعزعات المنتج تأثير قوي "ضمن الصناعة"؛ ففي النهاية، من الأهمية بمكان أن تشكِّل خطراً حقيقياً، أو بديلاً للشركات الراسخة. إلا أن تأثيرات زعزعات المنصة لا تقتصر على الصناعة، وإنما تتخطى حدودها بأشواط. فقد تُنشئ تلك الزعزعات شركات زميلة غريبة منافسة، نظراً لتأثر شركات في صناعات مختلفة بها. وينطبق ذلك على العديد من الأسواق التي يتصرف فيها المنافسون كباعة وشراة في الوقت نفسه، مثل "أمازون" (Amazon) أو "علي بابا" (Alibaba). حتى إنهم قد يدفعون صناعات إلى الانهيار، كما حصل في حالة "كريغزليست" (Craiglist) سيئة السمعة وصناعة الجرائد، ويمكّنون أعداداً ضخمة من الناس والأعمال من كسب المال من فائض القدرة (مثل غرفة الضيوف التي لا تستخدمها أبداً، أو مقعد المسافرين الذي غالبًا ما يبقى خالياً)، مخفضين بذلك الهدر على نحو مثالي، ومعزِّزين مداخيل الناس في آن معاً.
يصعب على الشركات الراسخة الرد على المنتجات المزعزعة، ولكن ما يصعب عليها أكثر هي والجهات الناظمة، الرد على المنصات المزعزعة. غالباً لا تَعرف الشركات الراسخة التي اعتادت التعامل مع المنافسة القائمة على منتج، كيفية الرد على منصة تُنافسها على مستوى النظام. وكما برهنَت حالة "أوبر"، تلجأ الشركات الراسخة في معظم الأحيان إلى الجهات الناظمة. ولكن يُصعِّب العدد الضخم من الأشخاص الذين تجتذبهم الزعزعات القائمة على منصة ضبطها القانوني. فمنصة ناجحة مثل "أوبر" تتوسع بسرعة هائلة لدرجة يصبح معها من الصعب إعادة الجِنّي إلى القمقم. وحتى إن أمكَن إيقاف مزعزِع منصة (مثل نابستر Napster)، ما إن تصبح الفكرة مطروحة علناً حتى تصبح كيفية الاتجار بها بطريقة أكثر قانونية (مثل آي تيونز وسبوتفاير، وغيرهما) مسألة وقت لا أكثر.
الزعزعات القائمة على المنصة
تغيِّر الزعزعات القائمة على منتج ما يشتريه الناس، فيما تؤدي الزعزعات القائمة على منصة إلى نقلات اجتماعية واسعة التأثير. واليوم، تُمكِّن هذه الزعزعات الناس من زيادة مرتباتهم بعمل بدوام جزئي، أو تأجير ممتلكاتهم غير المُستخدمة بما فيه الكفاية. وفيما يصبح المزيد من هذه الشركات أكبر وأكثر تطوراً في المستقبل القريب، قد تتسارع هذه النزعات، حتى يتمتع الأشخاص الذين يعتاشون من بضع وظائف قائمة على منصة بأمان وظيفي يفوق الأمان المتاح اليوم، باعتماد مدخولهم على مصدر واحد، ما يُعدّ مفارقة جديرة بالاهتمام.
منذ أن روَّج كلايتون كريستنسن نظرية الزعزعة قبل أكثر من 20 سنة، شهِدنا موجة أولى من الزعزعات القائمة على منتج تنبثق وتتحول إلى خطر حقيقي للشركات الراسخة في عدد متنوع من الصناعات. ونراقب كيفية استمرار عملية الزعزعة بلا توقف، فهي قد تتحرك بوتيرات مختلفة، إلا أنها تغيّر الأشياء. إذ يشير استبيان أجري مؤخراً أن حوالي نصف عمليات مؤشر "إس أند بي 500" (S&P500) الأميركي ستُستبدل في السنوات العشر القادمة، وهو تغيير على مستوى الجيل نَصفه بـ "التغيير المزعزع".
نحن الآن على عتبة شيء جديد، شيء مختلف حول موضوع تطبيق الابتكار المزعزع على منصة ما. وهناك موجة جديدة من الشركات المزعزعة القائمة على منصة، التي لن تغيّر الصناعات فحسب، بل ستُحدث تغييراً اجتماعياً عميقاً. ستُغيّر الموجة القادمة أنماط حياتنا، وطُرق كسبنا للمال وتفاعلنا مع الآخر، وستتيح لنا العديد من الفرص الجديدة.
اقرأ أيضاً: