كنت في المرحلة الأخيرة من المراحل الثلاث التي يصل طول كل منها إلى ميلين وكان متبقياً أمامي لفة أخرى كاملة على مضمار الجري. كنت وصلت في ذلك التدريب الشاق إلى تلك اللحظة التي يتوقف فيها الإحساس بالألم في الساقين والرئتين، وينتقل فيها إلى عقلك فتشعر وكأنّ هناك سحابة كثيفة من الدخان تغشى بصري. وفي هذه اللحظة رأيت مدربي في المدرسة الثانوية يقف في جانب المضمار.
سألته وأنا ما زلت أركض "كم استغرقت من الزمن؟"، فنظر في ساعة الإيقاف المعلقة حول عنقه وصاح: "بطيء جداً، إذا كان ما زال لديك نفساً لتسأل"، فركضت مسرعاً.
وبمجرد أن استرحت من تعب التدريب قلت له مغمغماً عيني: "أنا آسف"، فرد علي: "لا بأس، يمكنك الآن أن تذهب لتنال قسطاً من النوم". كنت أحترم هذا الرجل، فقد كان يهتم بنا كما لو أننا أبطال سنصل إلى الأولمبياد. وكان واضحاً أنني لست كذلك فقد كنت أفتقر تماماً إلى الموهبة. وكان لمدربي نصيحة أخرى لا تنسى، فقد كان دائماً يقول لي: "تأكد من تحصيلك لدروسك بجد". ولكن الدروس التي تعلمتها من التدريبات الشاقة المصحوبة بالألم على ذلك المضمار الإسمنتي أفادتني كثيراً في حياتي.
ما زلت أجري ببطء، وقد فهمت لماذا أخبرني العديد من المسؤولين التنفيذيين أنهم يجدون الإلهام في الرياضيين الذين يمارسون ألعاب تحتاج إلى القدرة على التحمل. والسبب في ذلك أنّ هؤلاء الرياضيين يتمتعون بالقدرة على التركيز على هدف واحد ولديهم شغف لتقديم أفضل أداء مع قبول العقاب الذاتي الذي يمكن أن يواجه أي شخص في العديد من الشركات.
فكرت في هؤلاء الأشخاص الذين يتمتعون بتلك القدرات أثناء قراءتي للحوار الأخير بين الكاتبة أريانا هافينغتون، المهتمة بمثل تلك المواضيع، ورجل الأعمال إيلون ماسك الذي أنهكه العمل. وقد حذرته الكاتبة من "الركض بسرعة كبيرة"، فأجابها بأنه لا يستطيع أن يبطئ من سرعته، وقد تحدث ماسك من قبل إلى جريدة نيويورك تايمز عن معاناته لعام كامل وصفه بـ "العام المؤلم". والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل كان إيلون ماسك في هذا التوقيت يفقد طاقته وقدرته على تحمل أعباء العمل الشاق أم أنه كان فقط صريحاً على غير العادة؟
أنا لا أعرف ماسك شخصياً، لذلك ليس لدي أي فكرة عن إجابة هذا السؤال. ولكن من ناحية أخرى أنا واثق أنّ القادة المشاهير في الغالب يُعدون بمثابة المرايا التي نرى فيها أنفسنا. وتشير ردود الأفعال على أفكار وتصورات ماسك إلى أنه في حين يشعر بالوحدة، فهو ليس وحده.
وتشبه حالة القلق والتحدي التي ظهرت في الحوار بين هافينغتون وماسك حالة الجدال التي تحدث يومياً في العديد من مكاتب العمل وداخل العقول أيضاً. ومما لا شك فيه أنّ أماكن العمل تمتلئ بأشخاص يعانون من مشاعر مختلطة حول وتيرة العمل المؤلمة.
وبصراحة، يشعر الكثير من الناس الذين أعرفهم كما لو أنّ عليهم الاختيار بين أجسادهم وعملهم. وتنطبق هذه النظرية بدرجة كبيرة على الفنانين والعلماء ورواد الأعمال الذين نطلق عليهم لقب "صناع التأثير"، هذا بالإضافة إلى كبار القادة. هم يشعرون بأنّ إبداعاتهم تضخ الحياة في أوصالهم وتفيد الآخرين، وهم أيضاً يعملون حتى الموت من أجل الحصول على تخليد من نوع ما.
إنّ الضغط المستمر وساعات العمل الطويلة والسفر المتكرر بالطائرة وتفقد العديد من رسائل البريد الإلكتروني التي لا نهاية لها تشكل جميعها جزءاً من طرق البقاء على رأس العمل. وسوف ينتهي المطاف بكل من يقومون بذلك إلى سؤال أنفسهم: "هل يستحق ذلك فعلاً كل هذا العناء؟". في بعض الأيام لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال. ولكن من الحماقة أن تستسلم. هل تستطيع تحمل ذلك؟ وما الذي يظنه الناس؟ وما الذي سيحدث بعد ذلك؟ وماذا إذا كنت أنت المشكلة بالفعل؟ ويمكننا في نهاية المطاف أن نستنتج أنّ الأمور قد تتحسن إذا اجتهدت في العمل أكثر قليلاً.
وفي الغالب يكون الأشخاص الأكثر احتمالاً للوقوع في هذا النمط هم أولئك الذين يتوقون إلى العمل بكل طاقتهم. ولا شك أنّ مثل هذا التوجه يكون مثيراً للإعجاب وغالباً ما يكون من الأشياء الضرورية. وجميعنا يرغب في أنْ يشارك في العمل، ولكننا نكتشف بعد ذلك أننا أصبحنا ندور في دوائر عمل لا نهاية لها.
وأنا لم ألاحظ فقط هذا النمط في عملي بل عايشته بنفسي. وأنا أعلم أنّ فكرة أنّ العمل يستحق فعلاً المعاناة إذا كان جيداً أو حتى أنه ينبغي علينا أن نجد ونجتهد لكي يصبح العمل جيداً، هي فكرة حقيقية ومغرية. وهناك مصطلح يطلق على مثل هذه الحالة، وهو "التضحية".
ومع ذلك، لا يعد كل ألم ومعاناة بمثابة تضحية. والفرق هنا ليس مجرد فرقاً فلسفياً، بل هو فرق عملي. وقد تكون التضحية مؤلمة ومرهقة، لكنها لا تزال خياراً قائماً. ومما لا شك فيه أنّ المعاناة تنجم عن الشعور بأننا لا نستطيع أن نبطئ من سرعتنا، وهو ما يعني هنا تقليل مشاركتنا في العمل، وإلا فأننا سنشعر بالإحراج ومن ثم ستخرج الأمور عن سيطرتنا. من ناحية أخرى، تلعب التضحية دوراً في الوصول إلى ما نحن عليه، أما المعاناة فتكبلنا فقط دون أي جدوى، بمعنى أنه عندما نضع أنفسنا في جحيم العمل، على الأقل لفترة ما، وعلى الرغم من أننا نستحق المكافآت التي نحصل عليها نظير مشاركتنا في هذا العمل، فإنّ ذلك يسمى تضحية. ولكن إذا كانت هناك العديد من الأسباب التي تؤذيك في العمل، ولا يمكنك أن ترى جدوى تذكر منها فإنّ الاستمرار في تحمل مثل هذا الوضع لا يعد بمثابة تضحية.
ولقد تعلمت هذا الفرق أيضاً من رياضات التحمل. وفي كتاب مدهش عن حدود الأداء البشري، استشهد مؤلف الكتاب أليكس هوتشينسون بمقولة المدربة باولا رادكليف، صاحبة الرقم القياسي في العالم في سباق المارثون، حيث أوضح من خلالها السبب الذي جعل باولا عداءة استثنائية في سباقات الجري لمسافات طويلة، حيث قال: "كانت قدرتها على تحمل إيذاء نفسها ليس لها مثيل". وقد بين هوتشينسون في كتابه أنّ الأشخاص الذين لديهم قدرة على تقديم أفضل أداء يمكنهم التغلب على أقصى درجات الألم التي قد لا يتمكن معظمنا من تحمل أقل درجاته، فهم يتعرضون للأذى مثل أي شخص أخر إلا أنهم يتعاملون مع الألم على أنه صديق. والألم بالنسبة لهم ليس نتيجة لعادات أو ظروف أو قيود مفروضة، بل عبارة عن اختيار.
عندما قال ماسك أنّ الأسوأ قد انتهى بالنسبة لسيارات تيسلا، أضاف أيضاً: "ولكن بالنسبة للألم الشخصي، فإنّ الأسوأ لم يأت بعد". لقد بدا وكأنه عداء مسافات طويلة يتحدث عن الأميال الأخيرة في السباق والتي يجب عليه أنْ يتحملها. وفي حالات مشابهة لتلك الحالة، سمعت مسؤولين تنفيذين يقولون أنهم يستمدون إلهامهم من الرياضيين المتميزين. وأخبروني أيضاً أنّ مثل هذا النوع من الرياضيين لا يشتكون من العمل الشاق، بل إنهم يتعايشون معه. وإذا كان هناك ما يقلقهم، فهو عدم العمل بجد بما فيه الكفاية. هم يفضلون التعرض للإصابة بدلاً من أخذ استراحة.
ولسوء الحظ فإنّ مثل هذه الادعاءات غالباً ما تكون دفاعاً (أو إنكاراً) للمعاناة الناجمة عن العمل الزائد، لأنه على الرغم من الإلهام الذي يمكن للرياضيين أن يقدموه لنا إلا أنّ القليل منا من يعترفون بوجود جدوى من تحمل الألم واختياره وتوطين أنفسهم على التعامل معه على نحو مثمر كما يفعل هؤلاء الرياضيون. لماذا؟
أولاً، نحن نادراً ما نسعى لفهم حدود قدراتنا والعمل عليها بشكل جاد مثلما يفعل الرياضيون. هناك فرق شاسع بين الموارد الخاصة بالعداءة باولا رادكليف والموارد التي يمكن أن تتوفر لمن هم مثلي ومثلك. لقد لعبت جيناتها الوراثية وشجاعتها والتدريبات التي كانت تقوم بها دوراً في الوصول إلى ما وصلت إليه. أنا وأنت لسنا مثل باولا حتى لو كنا نستمتع بالركض. كما أننا لسنا أيضا مثل ماسك حتى لو كنا منخرطين في سوق الأعمال، وستكون محاولة تقليد ما يقومون به من أعمال روتينية في أفضل الأحوال عبارة عن وصفة للشعور بخيبة الأمل، وقد تصل، في أسوأ الأحوال، إلى إيذاء من يقومون بتلك المحاولات لأنفسهم.
ثانياً، يُبدي لاعبو رياضات التحمل احتراماً لوتيرة العمل الذي يقومون به، وهو ما تفتقر إليه معظم الشركات، فهم يخططون بعناية لما سيقومون به خلال مواسم معينة وعلى مستوى كل أسبوع وفيما يخص مواعيد التدريبات والاستعداد للسباقات. كما أنهم يوازنون بين الأعمال الشاقة وتلك الخفيفة وبين فترات الضغط والراحة حتى يصلوا إلى قمة ما يسعون إليه في وقت محدد. وعلى النقيض، نادراً ما يتم في معظم الشركات الاهتمام بوتيرة العمل، فإذا كنت تعمل بسرعة اليوم سيُطلب منك أن تعمل بشكل أسرع في اليوم التالي وهكذا. نحن نُدرك أنّ الراحة، على الأقل مرة واحدة على فترات، سوف تجعلنا بصحة أفضل وأكثر إنتاجية، ولكننا على الرغم من ذلك نختار أنْ نستمر في العمل دون راحة.
ثالثاً، كلما حقق الرياضيون كثيراً من الإنجازات، زادت المساعدات التي يحصلون عليها كي يحققوا أقصى استفادة من المواهب والموارد. ويحصل اللاعبون المحترفون على مدربين يوفرون لهم الحماية اللازمة ويعملون على تحفيزهم، وتتمثل مهام هؤلاء المدربين في وضع إطار عمل معين له حدود بحيث يمكنهم تقديم أفضل ما لديهم عند الحاجة لذلك. أما في مجال الأعمال، فكلما ترقيت إلى مناصب أعلى قلت المساعدة التي يمكنك الحصول عليها في الغالب.
وبناء على ذلك، إذا وجدت عملاً يستحق التضحية من أجله فقم بذلك على النحو الصحيح وهو أن تحترم حدود قدراتك وأن تضبط وتيرة العمل مع ما يتوافق مع إمكاناتك، وأن تحصل على المساعدة التي تحتاجها لتقديم أفضل ما لديك وليس فقط كل ما لديك.