ملخص: بحسب تقرير صادر عن شركة أكسنتشر (Accenture)، من المتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي والحلول المستندة إليه نحو 215 مليار دولار إلى اقتصاد المملكة السعودية بحلول عام 2035، ليمثّل ذلك زيادةً في قيمة الناتج المحلي بنسبة 12.5%. كيف تمكنت السعودية من إعداد الكوادر للنجاح في ذلك؟
- العمل على استقطاب الشركات العالمية وتشجيعها على توظيف السعوديين وإكسابهم خبرة عملية، مثل دمج نموذج علّام في منصة واتسون إكس (Watsnox) للذكاء الاصطناعي والبيانات التابعة لشركة آي بي إم (IBM).
- دخول شركات عالمية مثل أمازون وأوراكل وعلي بابا إلى المملكة، ما أضاف ثقلاً للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي، فوجود مراكز بيانات لهذه الشركات في السعودية يشجع على استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي مباشرة عبر منصات هذه الشركات.
- دعم حاضنات الأعمال ومسرّعاتها وخلق بيئة ريادية من أجل تبنّي المشاريع الناجحة وبناء الشركات الناشئة، إضافة إلى برامج الابتعاث لدراسة بعض التخصصات الدقيقة بمجال الذكاء والبيانات.
خلق الذكاء الاصطناعي تحولاً فعلياً في التجارة الإلكترونية والتمويل والخدمات اللوجستية وغيرها من المجالات، ومع إعلان المملكة العربية السعودية عن رؤية 2030، برز دور التقنيات الحديثة في تحقيق التنمية الاقتصادية وخلق بيئة استثمارية فعّالة، إذ ارتبط 66 هدفاً من أهداف الرؤية المباشرة وغير المباشرة بالبيانات والذكاء الاصطناعي من أصل 96 هدفاً.
وهو ما يجعل الذكاء الاصطناعي أحد عوامل التمكين الرئيسية لخلق "السعودية الرقمية"؛ فبحسب تقرير صادر عن شركة أكسنتشر (Accenture)، من المتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي والحلول المستندة إليه نحو 215 مليار دولار إلى اقتصاد المملكة بحلول عام 2035، ليمثّل ذلك زيادةً في قيمة الناتج المحلي بنسبة 12.5%.
وفي ظل تجربة التحول الرقمي التي تخوضها المملكة، فإنها تسعى إلى تعزيز القدرات وتجهيز البنية التحتية الرقمية وبناء الكفاءات واستقطابها من أجل تقديم منتجات وخدمات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وبالتالي جاء قرار إنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا" من ضمن المساعي الرامية للوصول إلى دولة رقمية حديثة بمعايير عالمية. ويبرز ذلك بوضوح في استضافة المملكة العربية السعودية للقمة العالمية للذكاء الاصطناعي 3 مرات متتالية.
وتقدم سدايا العديد من البرامج والمبادرات، من أهمها وضع الضوابط والتشريعات لاستخدام البيانات والذكاء الاصطناعي وتعزيز ذلك من خلال دعم إنشاء وحوكمة مكاتب البيانات (DMOs) في العديد من الجهات. ومن أمثلة ذلك علّام، وهي مبادرة عملية لنشر استخدامات الذكاء الاصطناعي في نموذج اصطناعي لغوي توليدي مجهز للرد على استفسارات المستخدمين باللغة العربية، ويجري تنظيم هاكاثون لتشجيع المطورين على بناء الإضافات والأفكار الإبداعية عليه لتفعيل مميزات جديدة تلبي تطلعات المستخدمين.
تتميز المملكة بأن أكثر من نصف سكانها دون سن الثلاثين عاماً، وهم يتطلعون إلى التغيير والتطوير وتبنّي كل ما هو جديد، لذلك لم يكن من الصعب التحول إلى الخدمات المدعومة بالذكاء الاصطناعي خاصة أن موضوع الذكاء الاصطناعي وكيفية التعامل معه أصبح جزءاً من المناهج التعليمية وزادت التوعية به على مستوى مراكز الأبحاث والجامعات والأكاديميات والمعاهد والمدارس، وكذلك المنظمات غير الربحية التقنية المهتمة بهذا المجال التي تشرف عليها سداياً فنياً. أما على المستوى الحكومي، فهناك جهود مستمرة لتبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي في الخدمات الموجهة للمواطنين والمقيمين، فضلاً عن تنظيم مسابقات تقنية تتمحور بصورة رئيسية حول ابتكار مشاريع جديدة ومبتكرة باستخدام الذكاء الاصطناعي.
وبالنسبة للفئات المجتمعية الأخرى مثل كبار السن أو محدودي التعليم، فهم يمثلون نحو 5% حالياً، ولدى المملكة خطط لاستهداف هذه الفئات عبر دورات تدريبية متخصصة ونشرات توعوية بمجال البيانات والذكاء الاصطناعي.
وبيّنت دراسة حديثة أجرتها شركة إبسوس لتقييم الرأي العام تجاه الذكاء الاصطناعي في المملكة، أن 77% من السعوديين يعرفون ماهية الذكاء الاصطناعي، وأن 8 من كل 10 أشخاص متحمسون للسلع والخدمات التي تستخدم التكنولوجيا، كما يعتقد غالبية السعوديين أن الذكاء الاصطناعي سيحسّن نوعية حياتهم في جوانب مختلفة.
الاستثمار في البنية التحتية والكفاءات
إن البيانات والذكاء الاصطناعي من القطاعات السريعة التطور، وبالتالي فإن الأمر لا يقتصر على الاستثمار في التقنية نفسها فحسب، بل يحتاج بناء أنظمة ذكاء اصطناعي فعالة إلى معالجات عالية السرعة وتوفير بيئة تشغيلية كاملة ونظام بيئي وتشريعات وقاعدة تنظيمية قوية. على سبيل المثال، نجحت أرامكو في بناء نموذج ذكاء اصطناعي توليدي "أرامكو ميتا برين" رائد في مجال صناعة النفط، وتخطط الشركة لاستخدامه لتشغيل التطبيقات المعرفية عبر أعمالها.
وتركز رؤية 2030 على تنمية رأس المال البشري وبناء قدرات وطنية بكفاءة عالية تواكب مهن المستقبل، وبالتالي فإن التدريب والتعليم من الاستثمارات المهمة لإعداد قيادات شابة تواكب التطورات في مجالي البيانات والذكاء الاصطناعي، لذا تنظم أكاديمية سدايا وأكاديمية طويق العديد من البرامج والأنشطة المتخصصة لإخراج أكبر عدد ممكن من الكوادر السعودية القادرة على العمل بنماذج الذكاء الاصطناعي.
كيف تُعد المملكة كوادر متخصصة في الذكاء الاصطناعي؟
يمثل جذب المواهب أو بناؤها تحدياً كبيراً لتطوير قطاع الذكاء الاصطناعي، فإلى جانب البرامج التدريبية والمعسكرات التي تستهدف تأهيل الكوادر الوطنية وتمكينها، هناك مسار آخر يتجلى في استقطاب الشركات العالمية وتشجيعها على توظيف السعوديين وإكسابهم خبرة عملية، مثل دمج نموذج علّام في منصة واتسون إكس (Watsnox) للذكاء الاصطناعي والبيانات التابعة لشركة آي بي إم (IBM).
كما أضاف دخول شركات عالمية مثل أمازون وأوراكل وعلي بابا إلى المملكة ثقلاً للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي، فوجود مراكز بيانات لهذه الشركات في السعودية يشجع على استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي مباشرة عبر منصات هذه الشركات.
ومن الجهود التي تبذلها المملكة لزيادة عدد الخبراء والمختصين بالذكاء الاصطناعي، دعم حاضنات الأعمال ومسرّعاتها وخلق بيئة ريادية من أجل تبنّي المشاريع الناجحة وبناء الشركات الناشئة، إضافة إلى برامج الابتعاث لدراسة بعض التخصصات الدقيقة بمجال الذكاء والبيانات.
فعلى سبيل المثال، يجري في أكاديمية طويق تدريب الطلاب على عدة مجالات تخدم الذكاء الاصطناعي على نحو كبير مثل: البيانات، البرمجة والأمن السيبراني، برمجة الألعاب، الواقع الافتراضي والواقع المعزز، الطائرات المسيّرة. حيث تجري برمجة الطائرات المسيّرة في المجالات التجارية والخدمية لخلق نماذج أعمال جديدة للاستفادة من التقنيات الناشئة ودعمها بالذكاء الاصطناعي، إذ من المتوقع استخدام الطائرات من دون طيار والتوائم الرقمية لأغراض تجارية في القطاعين العام والخاص بعد أقل من 3 سنوات.
تذليل عقبات نجاح مشاريع الذكاء الاصطناعي
تمثل التنظيمات والقوانين عقبات رئيسية أمام توظيف التكنولوجيا الناشئة والاستفادة منها في المشروعات الكبرى، لكن المملكة نجحت في تجاوز هذه العقبات، وعملت على تطوير القوانين على نحو سريع يتناسب مع احتياجات المشاريع، على سبيل المثال، عند دخول شركة أوبر إلى السوق السعودية لأول مرة حصلت على التراخيص اللازمة بسهولة، وذللت الحكومة الكثير من العقبات لتمارس أوبر عملها مثل أي شركة توصيل أخرى.
وبالنسبة للطائرات المسيّرة، فإن غالبية الدول تضع قوانين لتحديد استخداماتها في مجالات معينة لضبط الخصوصية وضمان الاستخدام الأمثل لها، وفي السعودية يمكن لأي شخص الحصول على تصريح من هيئة الطيران المدني ليستخدمها في الأغراض المدنية التي يحتاج إليها.
وكذلك شركات التكنولوجيا المالية (FinTech)، التي قد تتوجس منها دول كثيرة لأنها تخلق نماذج جديدة يمكن أن تؤثر على الشركات وبعض الخدمات الحكومية التقليدية، وفي هذا السياق، يتبنى البنك المركزي السعودي العديد من هذه الحلول المبتكرة ويسهّل مهامها. وقد أفرزت مثل هذه الاهتمامات العديد من الحلول الرقمية، مثل بنك إس تي سي (STC Bank)، ومنصة تمارا لتخفيص تكلفة المدفوعات الرقمية، وتطبيق كيو سالاري (Qsalary)، الذي يمثل حلاً رقمياً يوفر خدمات إضافية تعتمد على الراتب.
ومن التحديات التي تعمل المملكة على مواجهتها في المشاريع الكبرى التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي والبيانات مثل نيوم والبحر الأحمر، هي التعامل مع البيانات الضخمة والسيطرة عليها وتحليلها وتنظيفها، والأمن السيبراني، والتكامل مع الأنظمة الحالية، بما يساعد على توفير بيئة تشغيلية مؤتمتة بالكامل.
نحو حكومة ذكية وخدمات استباقية
إن الجهود التي تبذلها الجهات الحكومية في التحول الرقمي، ضمن مبادرات التحول الرقمي وبرامجه، وتقديم خدمات حكومية متقدمة عبر منتجات رقمية ذات جودة عالية، أهّل المملكة العربية السعودية للحصول على مراتب متقدمة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية في المجال الرقمي.
وقد أحرزت المملكة المرتبة الثالثة عالمياً والأولى إقليمياً في مؤشر "نضج الحكومة الرقمية" لعام 2022، الصادر عن مجموعة البنك الدولي، إذ وصلت نسبة نضخ الخدمات الحكومية الرقمية إلى 97.9%. ومؤخراً، أعلنت هيئة الحكومة الرقمية بالمملكة ارتفاع مؤشر "نضج التجربة الرقمية" لعام 2024 إلى 85.04%، وجاءت المملكة ضمن أوائل دول العالم في تطوير استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي، وفقاً لمؤشر "جامعة ستانفورد الدولي للذكاء الاصطناعي" لعام 2024.
يساعد تبنّي التكنولوجيا الحديثة وأنظمة الذكاء الاصطناعي على تحسين العديد من الخدمات من الناحية التشغيلية، على سبيل المثال وصلت نسبة أتمتة الخدمات في وزارة العدل السعودية إلى 86%، ولم يكن هذا بالأمر السهل، لأن المحاكم لديها إرث كبير من الأوراق والصكوك فضلاً عن التعامل مع شرائح متعددة مثل كبار سن أو غير المتعلمين أو الأجانب.
وبهدف تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، أنشأت المملكة منصات موحدة لتبادل البيانات وتقديم الخدمات بسهولة ويسر، أبرزها المنصة الوطنية الموحدة للتوظيف "جدارات"، التي تربط بين الباحثين عن العمل والفرص المتاحة في القطاعين العام والخاص من خلال مواءمة رقمية سلسة شاملة، و"بنك البيانات"، وهو منصة البيانات المفتوحة التابعة لسدايا، التي تساعد الأفراد والشركات على الاستفادة من هذه البيانات في اتخاذ القرارات وبناء خدمات استباقية.
ما تمكن ملاحظته خلال الأعوام الماضية، هو تطور الحكومة السعودية من الشكل التقليدي إلى الإلكتروني ثم الرقمي، وتتجه الآن لتصبح حكومة ذكية قادرة على تقديم خدمات استباقية للمواطنين، على سبيل المثال، إذا كان هناك حكم قضائي بسجن أحد الأشخاص، فسيجري إرسال إشعار أو تنبيه فوري إلى منظمات القطاع غير الربحي المعنية بأسر السجناء حتى تساعد أسرة السجين إلى حين انتهاء حكمه.
وسيساعد الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الأخرى مثل كل من الواقع الافتراضي والمعزز والهجين على وجه التحديد في تقديم خدمات استباقية بمجالات مثل التعليم والصحة، ففي عام 2022، أطلقت وزارة الصحة المستشفى الافتراضي، لتسهيل الحصول على الخدمات الصحية المتكاملة في عدد من التخصصات الدقيقة والنادرة في الوقت المناسب وللمناطق كافة، وقبل ذلك بعدّة سنوات كانت لي تجربة جيدة في الاستفادة من الخدمات الصحية افتراضياً، حيث أُصيب أحد أقاربي بجرح في يده وخاف أن يكون خطيراً، فاستخدمنا تطبيق صحتي وأدخلنا المعلومات اللازمة ليجري تحويلنا بعدها إلى مقابلة الطبيب عبر الفيديو، فشخّص الحالة ووضع السجل الطبي واقترح العلاج المناسب وحصلنا على الوصفة الطبية من الصيدلية بكل سهولة عبر تتبع الرقم التسلسلي الخاص بها.
وأخيراً، فإن الحكومات أصبحت أسرع في أدائها من العديد من الشركات، ولديها رغبة في التطوير وتمتلك رؤية واضحة ومستهدفات طموحة تساعدها على اكتشاف الحاجة وتلبيتها في وقت قصير بما يرضي المستفيدين.