تُعتبر المعارك التجارية في الولايات المتحدة والبريكست في المملكة المتحدة أكثر الأعراض بروزاً وحداثة لعقد من التراجع عن العولمة، والتي تُشعر الشركات الدولية بالتوجّس إزاء المستقبل. وأحد أكثر التطورات إثارة للقلق اليوم هو التوتر المتزايد بين الولايات المتحدة والصين حول كل شيء، من التجارة إلى المواقف العسكرية. وقد أظهر بحثي اعتقاد العديد من قادة الشركات أن هذا التنافس الاستراتيجي قد يتطور إلى وضع يُعيد إلى أذهاننا الحرب الباردة التي انقسم فيها العالم إلى منطقتي نفوذ، حيث يتمحور التنافس هذه المرة حول الولايات المتحدة أو الصين. ومن المرجح أن تكون التجارة والاستثمارات بين هاتين المنطقتين المتعارضتين في ظل هذا السيناريو محدودة للغاية، إذ ستخضع السلع الاستراتيجية مثل المكوّنات والمنتجات عالية التقنية لضوابط صارمة فيما يتعلق بالتصدير. وتُمثّل العزلة المتزايدة لشركة هواوي (Huawei) أحدث مثال على ذلك. وقد يترك هذا السيناريو للشركات متعددة الجنسيات خيارات غير سارة حول كيفية التعامل مع أي أصول أو عمليات تقع في أراضي المنطقة المعارضة.
ما سبب هذه المخاوف؟ ترى مدرسة الفكر الرائدة حول العلاقات الدولية أن العولمة تحتاج إلى هيمنة لسنّ وإنفاذ القوانين. وإذا ما انخفضت الهيمنة في السلطة مقارنة باللاعبين الآخرين، ستُزعزع العولمة الاستقرار. وتُشير الدلائل على نحو متزايد أن هيمنة الولايات المتحدة آخذة في الانخفاض بالنسبة إلى الدول الأخرى، وخاصة الصين، على الرغم من نموها الاقتصادي المطلق. إذ أفاد البنك الدولي تجاوز الاقتصاد الصيني للولايات المتحدة في العام 2013 من حيث الناتج المحلي الإجمالي وفقاً لتعادل القوة الشرائية والمقدرة بالدولار الدولي الحالي. وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة لا تزال تحتل مكان الصدارة عسكرياً، إلا أن الصين ما فتئت تلحق بالركب بسرعة، خاصة في تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية التي ستقوي أنظمة أسلحة المستقبل.
ويولي قادة الشركات اهتماماً في هذه المسألة، إذ قمنا في دراسة حديثة أشرفت عليها في المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (INSEAD)، باستطلاع 109 عضو من أعضاء مجلس الإدارة من جميع أنحاء العالم حول احتمال حدوث "سيناريو جديد للحرب الباردة" بين الولايات المتحدة والصين، في ظلّ وجود كتلتين منفصلتين وتقليص التدفقات التجارية والاستثمارية بينهما أو حظرها تماماً. يعتقد ما يقرب من ثلاثة أرباع المجيبين في الصناعات الأولية والتصنيع، و50% من المشاركين في صناعات الخدمات، أن مثل هذا السيناريو مرجح للغاية. وتتوقع أغلبية كبيرة في جميع هذه القطاعات الثلاثة أن يكون لهذا السيناريو تأثيراً سلبياً على أعمالهم، بما في ذلك 71% في الصناعات الأولية و53% في الخدمات.
وتدرس الشركات متعددة الجنسيات التي تواجه هذا السيناريو تنفيذ واحدة من استراتيجيتين كبيرتين استجابة لذلك، في حين يتبناها البعض من هذه الشركات بالفعل، وذلك وفقاً لنتائج دراستنا الاستقصائية.
يتمثّل الخيار الأول في الانسحاب من بعض الأراضي لتركيز العمليات في جانب واحد فقط من المنطقتين. وفي حين أن هذا الخيار قد يقلّل من خطر التورط الجيوسياسي إلى حد كبير، إلا أنه سيؤدي في جميع الاحتمالات إلى خسارة كبيرة في الامتداد والإيرادات العالمية. وقد ينطوي ذلك على إعادة هيكلة سلاسل التوريد الخاصة بالعديد من الشركات بغية أن تقع داخل دائرة النفوذ هذه. وستكون التعديلات اللازمة للشركات الغربية كبيرة بالنظر إلى هيمنة آسيا على سلاسل التوريد العالمية، واحتمال وجود أجزاء كبيرة من شرق آسيا في المجال الصيني.
ويتمثّل الخيار الآخر في استمرار الشركة في العمل في كلا منطقتي النفوذ باستخدام نهج لامركزي ومضمّن محلياً. وقد يتطلّب ذلك عكس الاتجاهات الحديثة لمركزية الاستراتيجيات الدولية في المقر العالمي. وستستعيد الفروع المحلية بدلاً من ذلك مستويات أعلى من السيطرة مع مستويات أقل من المدراء الأجانب. وقد يقترن ذلك بتراخي روابط الملكية مع الشركة الأم في منطقة نفوذ المنافس لتجنب اعتبارها "شركة معادية".
وفي حين أنّ هذا النهج الثاني قد يساعد الشركات في الحفاظ على بعض فوائد الامتداد العالمي، يجب أن تدرك الشركات التي تعتزم اتباع هذا النهج أنه سيكون من الصعب تنفيذه، إذ سيكون اتباعه مرهوناً بعدد من الشروط:
جدوى زيادة التوطين. لقد عملت العديد من الشركات بالفعل على توطين الإدارة، وعلى القادة أن يدرسوا جدوى الأعمال لتعميق هذا النهج لشركاتهم. على سبيل المثال، يمكن إعادة هيكلة كل من المصادر والمبيعات لتقع داخل كتلة اقتصادية معينة. وقد تتحول بعض الشركات أيضاً من العلامات التجارية العالمية إلى تقديم علامات تجارية محلية متميزة. ولكن لكل خيار تبِعاته، إذ إنّ توطين الإدارة محلياً قد يعني فرصاً أقل لترقية ذوي الأداء العالي إلى مناصب قيادية دولية خارج بلدهم الأم، إذ تُستمدّ المواهب بحكم تعريفها من داخل الأسواق المحلية. بالإضافة إلى ذلك، قد تكون سلاسل التوريد المحلية دون المستوى من الناحية الاقتصادية. وقد ينطوي إدخال علامات تجارية متميّزة على تقليل وفورات الحجم والنطاق. لذلك، قد لا تكون زيادة التوطين مفيدة للشركة ببساطة.
الشرعية. يمكن لأي من القوتين منع الشركات قانونياً من العمل في بعض الولايات القضائية. إذ لا يوجد ما يمنع الولايات المتحدة من استخدام عقوباتها على إيران كمخطط لاحتواء الصين إذا ما رأت أنّ هذه الخطوة الجذرية ضرورية في مرحلة ما في المستقبل، على سبيل المثال. وكما رأينا في سياق إيران، سيكون هناك إغراء كبير لمحاولة الالتفاف على القوانين. ومن الصائب للشركات الحفاظ على امتثالها في أوضاع كهذه.
حقوق الملكية. اختبر عدد من الشركات خلال فترة الكساد الكبير استراتيجيات توطين متنوعة تتراوح من منح الفروع مزيداً من الاستقلالية إلى فك ارتباط الملكية الرسمية مع البلد الأم. وبقيت هذه الاستراتيجيات سارية حتى الحرب العالمية الثانية، عندما قامت قوات الحلفاء وقوات المحور بتأميم العمليات المحلية لشركات الطرف الآخر. وفي حال استمرت التوترات بين الصين والولايات المتحدة بالتفاقم، فقد تقوم الحكومات بنزع ملكية الشركات بالمثل، حتى في حالة عدم وجود صراع عسكري. وقد يحدث هذا بطرق لا حصر لها، وتتراوح من التأميم المباشر إلى فرض غرامات ذات دوافع سياسية من خلال النظام القانوني. لذلك، ينبغي على المؤسسات في ظل هذا السيناريو أن تفكر في الحصول على تأمين نزع الملكية، وذلك باستخدام أساليب مثل الاستعانة بمصادر خارجية لجعل الأصول المعرضة للخطر قليلة، والاستفادة بشكل أكبر من الشركاء المحليين، على الرغم من أن لهذه الخطوة عواقبها الخاصة، أو التركيز على المشاريع ذات فترات الاسترداد الأقصر.
التحكم بالمقر. قد يتضمن الاحتفاظ بالسيطرة في أبسط صوره الحاجة إلى مراجعة الحسابات المالية. ولكن يتطلب النجاح في الخارج بالنسبة لمعظم الشركات متعددة الجنسيات أن تعتمد المكاتب المحلية على القدرات التنافسية الفريدة للشركة على نطاق أوسع. ويكمن التحدي في أنه كلّما أصبح الفرع ومنتجاته أكثر توطيناً، قلت المزايا التي تمنحها هذه القدرات. على سبيل المثال، ستعاني شركة متعددة الجنسيات تعمل على بناء ميزتها التنافسية على أحدث التقنيات إذا لم تعد قادرة على نشر التكنولوجيا في الشركات التابعة خارج المجال الذي تعمل فيه. وقد يحدث هذا نتيجة لضوابط التصدير أو قيود السفر القانونية، وإذا كان توطين الموظفين يمنع نشر المعرفة الضمنية بين المهندسين من مواقع مختلفة. لذلك، قد يأتي الكثير من التوطين على حساب القدرة التنافسية. بينما أن القليل منه معرض لخطر الضعف السياسي.
جدوى إعادة الأرباح إلى الوطن. قد تكون ممارسة أنشطة الأعمال على الصعيد الدولي عقيمة في النهاية إذا لم تستطع الشركات إعادة الفوائد إلى الوطن لتوظيفها في مكان آخر أو توزيعها على المساهمين. ومع ذلك، لا تزال الصين تفرض قيوداً على العملة، وتمثّل إعادة الأرباح إلى الوطن تحدياً في بعض الأحيان. من ناحية أخرى، تتمتع الولايات المتحدة بقدرتها على استخدام موقعها المركزي في النظام المالي الدولي لفرض سياستها الخارجية، ولي ذراع البلدان الأخرى امتثالاً لعقوباتها. وقد رأينا هذا مؤخراً في سياق تجديد العقوبات على إيران، حيث منعت سيطرة الولايات المتحدة على أجزاء كبيرة من النظام المالي الدولي معظم الدول من التعامل مع إيران. ولم يكن حتى حلفاء الولايات المتحدة محصنين، إذ أجبرت الولايات المتحدة المملكة المتحدة على الانضمام إلى أزمة السويس عام (1956)، عن طريق تهديدها بتدبير تلاعب بعملة الجنيه. لذلك، سيكون من المدهش ألا تستخدم الولايات المتحدة قوتها المالية في تنافسها مع الصين بالنظر إلى هذا التاريخ.
في النهاية، قد تختار العديد من الشركات استراتيجية الانسحاب في ظل هذه الظروف، ومع إدراك أن استراتيجية التوطين أكثر تعقيداً وخطورة في التنفيذ. وفي كلتا الحالتين، فإن النجاح في الأعمال الدولية على وشك أن يصبح أكثر صعوبة.