على الرغم من تضيق الفجوة بين الجنسين في مجال العلوم، لا تزال النساء متخلفات عن الركب مقارنة مع الرجال خصوصاً في أعلى المستويات بسبب عدم ترويج النساء لأعمالهن. إذ تحصل النساء حالياً في مجال علوم الحياة مثلاً على نفس عدد درجات الدكتوراه التي يحصل عليها الرجال. إلا أن النساء يشغلن منصباً تدريسياً واحداً فقط من أصل أربعة مناصب تدريسية كاملة في جامعات البحوث في الولايات المتحدة. كما تتقاضى النساء في مجال علوم الحياة أيضاً أجوراً أقل من الرجال وتحصلن على تمويل لإجراء البحوث بشكل أقل من الذي يحصل عليه الرجال.
تساهم العديد من العوامل في أوجه التباين بين الجنسين هذه في المجال الأكاديمي. ومع ذلك، لا يمكن للتفاوتات في الإنتاجية أن تُسوغها. بدلاً من ذلك، تشير البحوث إلى حصول النساء على تقدير أقل على إنجازات مماثلة بالمقارنة مع الرجال. وشكل سبب حصولهن على انتباه أقل موضعاً للتساؤل.
درس البحث الذي أجريناه ما إذا كان النساء والرجال يختلفون في درجة ترويجهم لإنجازاتهم أو صياغتها من خلال استخدام مصطلحات إيجابية عند وصف بحوثهم من قبيل "غير مألوف" أو "فريد" أو "غير مسبوق". وفي دراسة نُشرت في "المجلة الطبية البريطانية" (British Medical Journal)، نوثق أن النساء تستخدمن عدداً أقل من هذه الصفات الإيجابية في المقالات البحثية. ويبدو أن هذه الاختلافات في طريقة التقديم تؤثر بدورها على كمية الانتباه الذي تحظى به مقالاتهن.
أهمية الترويج للذات
ارتفع معدل المؤلفات العلمية بشكل هائل خلال العقود القليلة الماضية. إذ تجاوز مجال علوم الحياة وحده مؤخراً حد مليون مقالة سنوياً، ما يمثل زيادة استثنائية تبلغ أربعة أضعاف في النواتج البحثية بالمقارنة مع مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. وفي الواقع، تمثّل المقالات التي نُشرت منذ عام 1980 والبالغ عددها 20 مليون مقالة تقريباً حوالي 75% من جميع المقالات حول علوم الحياة التي نُشرت وسُجلت على الإطلاق.
اقرأ أيضاً: لماذا تتردد النساء في الترويج لأنفسهن مثل الرجال؟
ويختلف الترويج للذات عن وسائل التنافس الأخرى على الموارد الشحيحة في عدة نواح هامة مثل تقديم طلبات للحصول على المنح أو التفاوض بشأن الأجور. ويمارس الأفراد غالباً قدراً كبيراً من الرقابة على مدى ترويجهم لأنفسهم. كما أن فرص الترويج للذات كثيرة، بدءاً من مشاركة البحوث عبر وسائل التواصل الاجتماعي وصولاً إلى صياغة النتائج في مقالات وعروض تقديمية عندما يكون الوضع مواتياً.
درسنا الفروق المحتملة بين الجنسين في الترويج للنفس من خلال تحليل عناوين وملخصات حوالي 6.2 مليون مقالة بحثية في مجال علوم الحياة نُشرت على مدى الأعوام الـ 15 الماضية (من عام 2002 حتى عام 2017). وجمعنا هذه البيانات من مصدرين. استقينا معلوماتنا حول المقالات من قاعدة بيانات محرك البحث "ببميد" (PubMed) التي تُعد قاعدة البيانات الأكثر تعقيداً لمقالات علوم الحياة. وحددنا جنس المؤلف بشكل تقديري من خلال استخدام الأسماء الأولى للمؤلفين وقاعدة بيانات الجندر. إذا كان 90% على الأقل من الأشخاص الذين يحملون اسماً معيناً من النساء، رمزنا إليهم بـ "امرأة".
ركزت تحليلاتنا على اللغات المستخدمة في عناوين المقالات وملخصاتها لأن هذه المقاطع تمثّل بعض أهم النصوص التي تنقل أهم النتائج. إذ يستخدم العلماء غالباً هذه المقاطع القصيرة ليحددوا ما تجب قراءته بالتفصيل. وأحصينا عدد المرات التي استخدم فيها المؤلفون مجموعة مؤلفة من 25 كلمة إيجابية مميزة مثل "غير مألوف" و"فريد" و"بارز" و"متميز" و"غير مسبوق". كما استخدمنا معالجة اللغة الطبيعية لتصور النص الذي يتضمن هذه الكلمات الإيجابية.
تنتج إحدى الصعوبات في دراسة استخدام اللغة عن حقيقة مفادها أن كل مقالة تتناول جزءاً فريداً من البحث، لكن تتباين هذه النتائج من حيث ابتكارها وأهميتها. وفي حال أجرى الرجال بحوثاً جديدة أكثر من النساء، فقد يعكس الإكثار من استخدام الرجال لتعابير مثل "اكتشاف جديد" طبيعة العمل بدلاً من الترويج للذات. ولضمان مقارنة الشيء بمثله، قارنا فقط المنشورات التي تحرت عن موضوعات متماثلة من حيث جدتها (حُددت بوساطة الكلمات المفتاحية المخصصة للمقالات). كما قارنا المقالات المنشورة في نفس المجلات ونفس السنوات فقط لمراعاة الاختلافات في مكانة المجلة والمجال المذكور.
تنشأ صعوبة ثانية عن مسألة الإسناد. إذ تحول مجال العلوم وخاصة مجال علوم الحياة إلى رياضة جماعية. وقد يكون تحديد الشخص الذي كتب أجزاء معينة في مقالة ألفها ثلاثة أو أربعة مؤلفين أو أكثر أمراً صعباً. وساعدتنا المعايير في هذه الحالة. يُكلف التقليد الراسخ في مجال علوم الحياة عادة العالم المبتدئ الذي نفذ المشروع بمنصب المؤلف الأول والباحث الرئيس الذي مول المشروع وتصوره غالباً بمنصب المؤلف الأخير. وبالتالي، قارنا المقالات التي ألّفتها فِرق مكونة من مؤلفة أولى وأخيرة مع الفِرق التي تضمنت رجلاً واحداً على الأقل في أي منصب قيادي.
الفجوة بين الجنسين في الترويج للذات
وجدنا أن احتمال استخدام مصطلحات إيجابية لصياغة نتائج البحوث في المقالات التي ألّفتها مؤلفات أوائل وأخيرات يقل عن احتمال استخدامها في المقالات المنشورة في أعرق المجلات التي تتضمن رجلاً واحداً على الأقل في منصب المؤلف الرئيس بنسبة تصل إلى 21%. وأكدت التحليلات الإضافية أن هذه الكلمات الإيجابية أكسبت النتائج المستخلصة عادة الأهلية: إذ سنرى في كثير من الأحيان عبارات مثل "نهج جديد" أو "آلية فريدة" أو "نتائج واعدة". استخدم الرجال والنساء على حد سواء كلمات إيجابية لوصف النتائج التي توصلوا إليها، لكن استخدمت النساء هذه الكلمات بشكل أقل تواتراً.
ودرسنا أيضاً ما إذا كان ثمة عواقب لهذه الاختلافات بين الجنسين في الترويج للذات من خلال تحديد ما إذا أثرت على عدد الاقتباسات النهائية (عندما يكون العمل منسوباً إلى أشخاص آخرين). ووجدنا أن المقالات التي تتضمن كلمات إيجابية حظيت بمزيد من الاقتباسات بنسبة 13% بالمقارنة مع بحوث متماثلة من حيث حداثتها نُشرت في المجلات ذاتها لكن دون استخدام صياغة إيجابية. كانت هذه الميزة الجلية للصياغة الإيجابية هي الأكبر بالنسبة للمقالات التي نُشرت في المجالات الأكثر تأثيراً والتي يزيد معامل تأثيرها على 10. وبمعنى آخر، دفع المؤلفون الذين لم يروجوا لأنفسهم الثمن من حيث تلقي اهتمام أقل خصوصاً عندما نشروا بحوثهم في أبرز المجلات.
واستكشفنا أيضاً ما إذا كانت الفروق بين الجنسين في الترويج للذات قد تفاوتت باعتبارها دالة على المرحلة المهنية. في اللوحة العليا من الشكل الموضح أدناه، يمكنك أن ترى التفاوت في كلمات الترويج بين المقالات التي ألفها مؤلفون أوائل من الرجال والنساء حسب المرحلة المهنية للمؤلف الأول. (تحكمنا بهدف التجربة بالمؤلف الأخير بالإضافة إلى آثار الفئة العمرية المحتملة بين المؤلفين الأوائل من خلال تضمين مراقبة للوقت الذي نشر فيه هؤلاء المؤلفون لأول مرة لتبرير التغيرات في استخدام اللغة مع مرور الوقت). وتُبين اللوحة السفلية من الشكل النتائج الموازية للمراحل المهنية للمؤلف الأخير.
اقرأ أيضاً: بحث: المستثمرون يعاقبون رائدات الأعمال على سلوكياتهن
وبالنسبة للمؤلفين الأوائل والأخيرين على حد سواء، تجلت الاختلافات بين الجنسين في الترويج للذات بشكل أكثر وضوحاً في المراحل المهنية المبكرة والمتوسطة. ومع ارتقاء النساء في المناصب، زاد استخدامهن للكلمات الإيجابية. كما يختفي التباين في أعلى المستويات المهنية (تمتد فترات الثقة التي تبلغ نسبتها 95% وغير المبينة هنا على خط التكافؤ). قد ينتج أحد جوانب هذه التأثيرات عن الانتقاء، إذ يحظى المؤلفون الأكثر ترويجاً للذات بفرص أكبر في الوصول إلى هذه المناصب العليا. لكن قد تقدم النساء أيضاً بحوثهن بثقة أكبر مع اكتسابهن للمكانة.
هل يعني هذا أنه يتعيّن على النساء أن تروجن أكثر لبحوثهن؟ لا يستطيع بحثنا أن يُفيد بالدرجة المثلى من الصياغة الإيجابية بالنسبة إلى المجتمع العلمي. وبشكل عام، يجب أن تعكس اللغة المستخدمة جودة النتائج وأهميتها بدقة. تكشف دراستنا أن النساء تروجن لأنفسهن بقدر أقل من الرجال، لكن لا يمكننا أن نجزم ما إذا كانت النساء تقللن من أهمية إنجازاتهن أو ما إذا كان الرجال يبالغون في تقدير إنجازاتهم.
وفي نهاية الحديث عن ترويج النساء لأعمالهن بشكل جيد، على الرغم من تركيز بحثنا على مجال علوم الحياة، إلا أننا نظن أن هذه الفروق بين الجنسين في الترويج للذات تحدث في مجموعة متنوعة من الأماكن، وقد تساهم في الفجوات المجتمعية بين الجنسين في الأجور والترقية. لذا فمن العدل أن نقول إنه من المستحسن أن تروج النساء لإنجازاتهن أكثر من أجل حل مشكلة عدم ترويج النساء لأعمالهن. لكن الأعباء لا تقع على عاتقهن فقط. إذ يتعين على زملائهن من الرجال أيضاً تشجيع النساء وضمان ألا تُعاقَبن على الترويج للذات الذي تقُمن به.
اقرأ أيضاً: