تعد شركة "آبل" (Apple)، من النماذج العجيبة في تحويل استراتيجية الاختراق إلى وصفة للنجاح مع مرور الوقت.
عندما أطلقت شركة "آبل" هاتف "آيفون" (iPhone) في العام 2007، أخذت بعض الوظائف التي تقتصر على تقديمها بعض أجهزة الهاتف المحمول وجعلتها متاحة لملايين المستهلكين. وفي النسخ التالية لـ "آيفون" ظهرت بعض التطويرات الجديدة، مثل نظام المهام المتعددة (المصمم خصيصاً للتطبيقات)، كما اشتمل "آيفون 5" على تطبيقات تعتمد لغات برمجة أخرى مثل "إكس كود" (Xcode) و"آي أو إس أس دي كي" (iOS SDK)، وأطلقت الشركة نسخاً من هذه الأجيال من الهواتف ساعية إلى تحسين التطبيقات الجديدة فيها (وذلك في أجهزة "آيفون 4 إس"، و"آيفون 5 سي"، وغيرها).
لكن القصة لا تقف عند الابتكارات التقنية التي أبدعتها شركة "آبل". فكر بالأمر من هذه الناحية: معظم التطبيقات المتعلقة بالصحة والتي يمكن العثور عليها في متجر التطبيقات هي ابتكارات تقنية مذهلة. فيمكنك مثلاً فحص أو مراقبة نفسك وحالتك الصحية بطرق تكلف الكثير من الوقت أو المال دون هذه التطبيقات الجديدة. لا شك أنها ليست بجودة الذهاب إلى الطبيب طبعاً، ولكن تطبيقات الصحة من "آبل" تساعد في مراقبة الحياة على الأقل بالقدر الكافي لتحديد ما إذا كان الناس يعانون من مشكلة. وهذا ما يجعل لهذه التطبيقات قيمة وأهمية. وتعرف هذه الطريقة في استراتيجيات "الاختراق" بعملية "اختراق السوق الجديدة" وتتمثل بالدخول إلى قطاع ما، كقطاع الصحة في هذه الحالة. ففي الماضي لم يكن الناس قادرين على تتبع صحتهم إما لعدم امتلاكهم المهارات اللازمة لذلك، أو بسبب الانشغال أو لقلة المال أو صعوبة الوصول إلى الطبيب. لكن الأحوال تغيرت الآن وصار بإمكانهم فعل ذلك.
واتبعت شركة "آبل" هذه الاستراتيجية مع قطاعات أخرى، وأرادت إيصال رسالة واضحة وقوية للمستهلكين: اشتروا أحدث نسخة من الآيفون لأن كل نسخة جديدة تمنحكم إمكانيات جديدة - وستوفرون الوقت والمال في العديد من المجالات في حياتكم. وكانت استجابة المستهلكين كبيرة لهذا العرض الجذاب، وهذا ما جعل "آبل" بقيادة ستيف جوبز (Steve Jobs)، تقود قطاع الهواتف الذكية وتدفعه إلى النمو بهذه السرعة الهائلة. ذكرتُ في مقالة سابقة أن شركة "آبل" هي الشركة "العتيدة" الرائدة التي تحرك قطاع الهواتف الذكية بأكمله إلى النمو والتطور كلما طرحت في السوق منتجاً جديداً مع الاستمرار في عملياتها لاختراق القطاعات الأخرى.
لكن بعد رحيل ستيف جوبز ظهر "آيفون 6" الذي غيّر قواعد اللعبة في شركة "آبل"، وهذه المرة ليس للأفضل. كانت زيادة حجم الشاشة التعديل الأساسي الذي جرى على "آيفون 6 أس" بعد "آيفون 5". ومعروف أن حجم الشاشة ليس سوى سمة سائرة في قطاع الهواتف الذكية تبنتها شركات أخرى قبل "آبل"، وهي سمة يقدرها المستهلكون بالتأكيد، ولكنها تبقى قاصرة على إحداث ذلك الاختراق الذي حققته أجيال الآيفون السابقة في قطاعات مختلفة.
اقرأ أيضاً: لماذا تدخل "آبل" في أعمال الطاقة؟
من وجهة نظر الشركة، فإن تحسين سمة نموذجية ما أمر معقول تماماً بسبب عوائده المالية. لا تحتاج الشركة إلى إقناع المستهلكين بالمزايا التي تأتي مع شاشة أكبر، لذلك فالتوفير يحصل على مستوى التسويق أولاً، ويحدث الأمر ذاته في عملية الإنتاج بأكملها ويتم توفير الكثير من الأموال في جميع حلقات عرض المنتج وتوزيعه. وربما حقيقة أن الشاشة الأكبر هي السمة المفضلة لدى المستهلكين ولأنها لم تكلف الشركة كثيراً لتطويرها وإطلاقها، تفسّر العائدات القياسية التي حققتها مبيعات "آيفون 6".
ولكن الصورة على المدى البعيد قد لا تكون إيجابية جداً. إن استراتيجيات الاختراق التي أسهمت في نجاح "شركة آبل" في مواكبة النمو مع القطاعات الأخرى صارت تستخدم من قبل شركات أخرى في قطاع الهواتف الذكية، فالمنافسة على أشدها في هذا السوق، ولا شك أن شركة "سامسونج" (Samsung) كانت أول المنافسين، وهناك الآن شركة "شاومي" (Xiaomi)، وشركات أخرى تقدم مزايا مشابهة في هذا القطاع.
اقرأ أيضاً: كيف تعلم آبل البرمجة للأطفال عبر اللعب؟
ولكن الوضع لم يتغير كثيراً حتى الآن، ففي عالم الهواتف الذكية لم تتمكن "سامسونج" عموماً من اختراق قطاعات أخرى كما فعلت "آبل"، واكتفت بمجاراة ابتكارات "آبل" وإصدار منتجات أقل تكلفة مع التأكيد على سمات معيارية للمنتجات، ولا سيما حجم الشاشة. وبما أن "آبل" قد دخلت الآن مضمار المنافسة بمعايير مشابهة لتلك التي لدى "سامسونج" وشركات أخرى، فإن السوق خالية الآن من شركة مبتكرة قادرة على خلق أسواق جديدة. ويبدو أن "آبل" و"سامسونج" وغيرها من الشركات في منافسة محتدمة للحفاظ على الاستدامة في الإبداع، وهذه منافسة تقليدية على مستوى تحديد الأقدر على إنتاج هواتف أفضل، ولكنها لا تحقق المنفعة للمستهلكين بالطريقة نفسها.
ولعل من سوء حظ "آبل" أن التحول على مستوى استراتيجياتها وعزمها على الانخراط في المنافسة التقليدية مع الشركات الأخرى بدل الاستمرار في ريادة القطاع لا يعد تطوراً مبشراً بل أدى إلى تراجع آبل في قطاع الهواتف الذكية. وفي هذه الأحوال يواجه المسؤول الفشل الحتمي، وأول الإشارات المبكرة لهذا الفشل هو عدم قدرة المسؤول على فهم البيئة التنافسية التي يعمل فيها. فقد صرح تيم كوك (Tim Cook)، الرئيس التنفيذي لشركة "آبل" قائلاً: "إننا نشهد ظروفاً عصيبة جداً على جميع الأصعدة، وهذا أمر لم نواجه مثله من قبل قط".
أخيراً، يجب إدراك أن تراجع "آبل" في قطاع الهواتف الذكية لا يعني بالضرورة أن القطاع ينضج أكثر، فمعدل نمو القطاع هو نتيجة لأنشطة شركاته. فإذا توقفت الشركة التي تقود نمو القطاع عن اختراق قطاعات أخرى، فيمكنك توقع انخفاض في معدل نموه. كما يجب العلم في المقابل، أن توقف "آبل" عن اختراق قطاعات أخرى بهواتفها الذكية لا يعني أنه لم يعد هناك قطاعات جديدة يجب اختراقها، بل العكس صحيح، وأعتقد أنه ما يزال أمام الهواتف الذكية قطاعات كثيرة يمكنها اختراقها والتأثير فيها، لتحقيق منافع أكبر للمستخدمين، وهذا هو السبب الذي يجعلني أحلم بأن "آبل" "العتيدة" ستعود إلى سابق عهدها.
اقرأ أيضاً: ما هي السيناريوهات المحتملة لكيفية دخول "آبل" إلى ميدان السيارات ذاتية القيادة؟