إن عاجلاً أو آجلاً، سيُطلب في معظم المؤسسات من الخبراء الفنيين الذين يؤدون عملهم على الوجه الأكمل تولي قيادة فريق وتحقيق نتائج محدَّدة من خلال هذا الفريق. يُعزى هذا في المقام الأول إلى أن التقدُّم في الحياة المهنية يعني عادةً تقلُّد المناصب الإدارية، حتى إذا كان مجال خبرتك لا يرتبط بإدارة الآخرين؛ لكن تقلُّد المناصب الإدارية يستلزم امتلاك مجموعة جديدة تماماً من المهارات. وإذا لم تتعلم هذه المهارات، فسينتهي بك الأمر على الأرجح إلى ضَعف مستوى الأداء والشعور بالإحباط.

خذ على سبيل المثال عميلي الذي أتولى تدريبه ويُدعى جبران*، رئيس إدارة سلسلة التوريد التابعة لإحدى المنظمات الإنسانية الدولية. كان جبران في حيرة من أمره؛ فبعد 6 أشهر من شغله منصبه الإداري الجديد، حدَّد الفرص المتاحة لرفع مستوى الكفاءة وزيادة الشفافية، ونجح في وضع استراتيجية وخطة لتنفيذ التغييرات المنشودة، لكن يبدو أنه لا يستطيع التفاهم مع تهاني* التي تُعتبَر واحدة من أهم قادة الفريق. وفي حين أن جبران يعتقد أنه شرح لها بوضوح لا لبس فيه التغييرات التي أراد أن تجريها، فقد تجاهلت تهاني توجيهاته واستمرت في إدارة العمل بالطريقة المعهودة. أدى هذا الصراع إلى إهدار وقته واستنفاد طاقته وتسبّب في عرقلة البدء بتنفيذ استراتيجيته.

وفي ظل تمتعه بخبرة عملية تمتد لعقدين من الزمان وامتلاكه عقلاً تحليلياً حاد الذكاء، فإن جبران تتوافر لديه المؤهلات التي تتيح له أداء مهام وظيفته على الوجه الأمثل، لكن إتقانه لحل المشكلات الفنية يتناقض بشدة مع الذعر الذي يعتريه أحياناً في مواجهة التحديات الماسّة بإدارة الأفراد. وأود أن أشير هنا إلى أن جبران لا يختلف كثيراً في هذا السياق عن مئات القادة الآخرين الذين عملتُ معهم. وإليكم المشكلة الأساسية التي لاحظتها على مدى 20 عاماً أمضيتها في تدريب القادة وتوجيههم:

  1. يترقى الموظفون إلى المناصب القيادية استناداً إلى مهاراتهم وخبراتهم الفنية أو الوظيفية التي تمكّنهم من أداء مهامهم على الوجه الأكمل في مجالاتهم التخصصية، ولكن هذا لا يُترجَم إلى قدرات قيادية فاعلة، إذ يجدون صعوبة كبيرة في إلهام مرؤوسيهم وتدريبهم وتحفيزهم على الإبداع وحثّهم على الالتزام برؤية مشتركة وتعزيز شعورهم بواجباتهم وتحمّل المسؤولية في فرقهم.
  2. وتفشل مؤسسات كثيرة في سد هذه الفجوة بالتدريب والتوجيه اللازمين لتطوير الخبراء التقنيين أو المتخصصين وتحويلهم إلى قادة مَهَرة. كما أنها تعجز أيضاً عن إعطاء الأولوية للقيادة الفاعلة في أنظمة مكافآتها وثقافتها المؤسسية. وفي ظل غياب القدرة على توضيح الجوانب الملموسة للقيادة الفاعلة على أرض الواقع وكيفية تقييمها وإتاحة فرص هيكلية لتحسينها، فإن هذه المؤسسات تسهم في اتساع الفجوة بين الفاعلية الحالية والمحتملة للقادة.
  3. يعمل المدراء في الغالب من منطلق افتراضات مضللة حول القيادة ولا يدركون حجم إسهامهم الشخصي في خلق الصعوبات التي يواجهونها. ونتيجة لذلك، فإنهم يخطئون غالباً في تشخيص الموقف، ويتنكّبون الطريق عند البحث عن حلول مناسبة، وينتهجون سلوكيات عديمة الفاعلية دون وعي منهم. وهكذا يفشلون في التعلم والنمو إثر تقلدهم مناصبهم القيادية.
  4. تؤدي سلوكيات القيادة العديمة الفاعلية إلى إضعاف مستوى الأداء وتراجع الرفاهة لكلٍّ من المؤسسات وأعضائها.

بعد إجرائه تحليلاً أولياً لمشكلته مع قائدة فريقه، توصّل جبران إلى النتيجة التالية: تقاوم تهاني تنفيذ التغييرات التي أدخلها، وتفشل في تحميل أعضاء فريقها مسؤولية تنفيذ التغييرات المنشودة، ولا تأخذ زمام المبادرة، وتبالغ في الاعتماد على جبران لتوجيهها قبل أن تمضي قُدماً في كل خطوة تخطوها، وتعرقل تنفيذ خططه الاستراتيجية من خلال مقاطعته بشكل متكرر طوال يوم العمل من أجل طلب التوجيهات. ولكي يحل هذه المشكلات، اتخذ الإجراءات التالية: بدأ بمراجعة أداء تهاني وأعضاء فريقها، وتواصل مع أعضاء فريقها مباشرةً للحصول على المعلومات التي يعرف أنها متوافرة لديهم بدلاً من اللجوء إليها، وخصّص أوقاتاً معينة من اليوم للتواصل معها عندما يسمح وقتها بذلك، وسجَّل انتقاداته في مراجعة أدائها السنوي. وعلى الرغم من أن هذه الخطوات بدت منطقية من وجهة نظر جبران في ذلك الحين، فإن هذا النهج كان يجانبه الصواب.

فلم تسفر إجراءاته تلك سوى عن تفاقم الوضع، بدلاً من تحقيق النتائج المأمولة. فقد شعرت تهاني باهتزاز مكانتها وعدم نيلها الاحترام الكافي وتدخّل جبران في أدق التفاصيل، وربما كانت مشاعرها تلك مبرَّرة. فما كان منها إلا أن بدأت إنشاء ما يشبه الحصون الدفاعية المُحكمة حول فريقها لحمايتهم مما اعتبرته تدخلاً سافراً من جبران. وبدلاً من إظهارها روح المبادرة والاستقلالية بمزيد من الكثافة، تجنبت تحمُّل المسؤولية خوفاً من أن تفعل شيئاً يُغضِب جبران. تأثرت تهاني بشدة بالنتائج السلبية لمراجعة الأداء التي جاءت بعد سجل حافل بمراجعات الأداء الإيجابية في ظل القادة السابقين، وخوفاً من أن يكون ذلك إشارة إلى وجود نية عدائية وربما الإضرار بمسيرتها المهنية، قدمت شكوى ضده. ونتيجة لذلك، شعر جبران بالإحباط والارتباك، وتعرّضت تهاني لضغوط شديدة، وخلُص كل طرف إلى استحالة العمل مع الآخر.

من أين يبدأ قائد، مثل جبران، التعافي من زلاته وتحسين أسلوبه القيادي؟ وكيف تحل التحديات القيادية التي تواجهك وترفع مستوى فاعليتك القيادية، حتى لو كانت مؤسستك لا تساعدك على تحقيق هذه الغاية؟ من خلال الالتزام بمواصلة تطوير قدراتك القيادية بتطبيق مبادئ التعلم الذاتي. ينطوي هذا الالتزام على تحديد ما تريد فعله بشكل مختلف بحكم موقعك القيادي والوقوف على أسباب أهمية هذا التطوير في مسيرتك القيادية، إلى جانب توسيع زاوية رؤيتك للتحديات القيادية التي تواجهك والتماس الرؤى والأفكار من مصادر متعددة وتجربة سلوكيات جديدة.

وأحد أهم العوامل التي تميز الأشخاص الذين يمتلكون قدرات قيادية حقيقية عن أولئك الذين يشغلون مناصب قيادية دون امتلاكهم الكفاءة اللازمة هو دأبهم في تبني مبدأ التعلم والنمو المستمرين؛ إذ يحرص أفضل القادة الذين أعرفهم على محاسبة أنفسهم، ويفترضون أن ثمة أشياء جديدة يجب عليهم تعلمها دائماً، ويسعون إلى تلقي الملاحظات والآراء التقييمية وتصميم تجاربهم التعليمية بأنفسهم. وإليك كيفية فعل ذلك:

أولاً، حدّد الكفاءات القيادية التي ترغب في اكتسابها

وإذا بدأت بمشكلة تريد حلها، مثلما فعل جبران، فاسأل نفسك ما الذي تحتاج إليه لتكون قادراً على تحسين مستوى قدراتك القيادية من أجل حلها. ويعد عدم التركيز على المشكلة الخارجية التي تؤرّقك والتركيز بدلاً من ذلك على التطوير الداخلي الذي تحتاج إليه لحلها خطوة حاسمة في هذا السياق. وعند تطبيق أساليب التفكير نفسها على تحديات القيادة التي طبّقوها بنجاح على المشكلات الفنية، يبحث الخبراء الفنيون غالباً عن “إصلاح” الآخرين ويفشلون في التعرف على دورهم في المشكلة. وما لم تطور رؤية ثاقبة حول كيفية تفاعل أنماط تفكيرك وتفاعلك مع أنماط موظفيك، فستجد نفسك في الموقف نفسه مراراً وتكراراً. وسيكون تحليلك لتحديات القيادة التي تواجهها منقوصاً ولن تنجح استراتيجياتك في حلها.

وعلى الرغم من أن جبران بدأ برغبته في تغيير مواقف تهاني وسلوكها، فقد طلبتُ منه أن يفكر في مفهومه للنجاح وما الذي يحتاج إلى فعله بفاعلية أكثر من أجل تحقيق النتائج التي يريدها. لقد أوضح رغبته في تطوير علاقة عمل أفضل معها، علاقة تقوم على الثقة والتفاهم المتبادلين والرؤية المشتركة، بحيث يتمكنان من المضي قُدماً معاً في تنفيذ مبادرات التغيير. أراد أيضاً أن يكون أقل استثارة عاطفياً وأن يتجنب التصرف بدافع الغضب والإحباط.

ولتعزيز حافزك للتعلُّم والتطوير، فكّر في المغزى الذي تأمل تحصيله من وراء تحقيق هدفك والأسباب التي تدعوك إلى تحقيقه الآن. وكان تكوين علاقات يسودها الاحترام مع المحيطين به في العمل يشكّل ركيزة أساسية لقيم جبران؛ فهو يدرك ارتباط مستوى أدائه ورفاهته، وحتى مدى سعادته في المنزل بجودة علاقاته مع المحيطين به في العمل. ويحرص أشد الحرص على إحداث تأثير إيجابي في إدارته وتحسين جودة الخدمة التي يقدمها. ويأمل أن ينتقل إلى منصب أعلى في العامين المقبلين، ويدرك أن تقدمه المهني يعتمد على قدرته على قيادة التغيير بدعم من مرؤوسيه.

ثانياً، فكِّر في بعض الرؤى والتصورات واطلبها من مصادر خارجية لكي تستعين بها على تكوين فهم أفضل للتحدي الذي تواجهه، تماماً كما تفعل عند محاولة حل مشكلة فنية

وللمساعدة في صقل تحليلك للمشكلة، ستستفيد في كل الأحوال تقريباً من مراعاة رؤى الآخرين والتماس ملاحظاتهم. ويدرك جبران أنه بطبيعته شخص قليل الصبر، سريع الغضب، يمكن استفزازه بسهولة. لكنه بعد أن تناقش مع تهاني، طوّر رؤية شاملة أكثر دقة حول أساليبهما الشخصية في التواصل. على سبيل المثال، في حين أن إقدامه على خفض تقييمات أدائها وتحديد مجالات التحسين في مراجعة أدائها السنوية كان بهدف تحفيزها على تغيير سلوكها، فلم يدرك أن التعبير عن استيائه من خلال مراجعة أدائها بدلاً من مناقشته معها مباشرة كان أشبه بهجوم مباغت من عدو خطير، بدلاً من حافز يقدمه مشرف موثوق به يحرص على مصلحتها في المقام الأول. ومن ثم فقد أدى هذا النهج إلى إحباطها بدلاً من تحفيزها.

تتصف تحديات القيادة في الأساس بأنها شخصية بطبيعتها؛ وبالتالي، فإن حلولها يجب أن تكون شخصية كذلك. ومن خلال توجيهه الدعوة إلى تهاني للحديث عن رأيها في علاقة العمل التي تربطهما معاً والاستماع إليها بآذان مصغية وعقل متفتح وإبدائه المشاركة الوجدانية، وجد جبران فرصة سانحة ليحدثها عن رأيه الشخصي بطريقة تجعلها تنصت إليه دون أن تتخذ موقفاً دفاعياً. وخلال محادثاتهما معاً، لم يعمل جبران وتهاني على زيادة التفاهم المتبادل فحسب، بل توصلا أيضاً إلى توافق في الآراء بشأن رغبتهما المشتركة في تطوير علاقة عمل أفضل وعقدهما العزم على تحقيق هذه الغاية.

ثالثاً، استخدم فهمك الدقيق للموقف ودورك فيه لتحديد السلوكيات التي يتعيّن عليك تغييرها أو تنفيذها

ومن المفيد أيضاً أن تطلب مقترحات من الأشخاص الذين تثق بهم من أجل معرفة الإجراءات التي يمكنك اتخاذها، وهي ممارسة يدعوها المدرّب التنفيذي، مارشال غولدسميث، “استباق التقييم النقدي” (سُميَّت بهذا الاسم لأنها تتكون من مقترحات يمكنك تجربتها في المستقبل، لا معلومات عن السلوك السابق). وقد سأل جبران تهاني عن مقترحاتها حول الخطوات التي ترى أنها ستسهم في تحسين علاقة العمل بينهما؛ فأجابته بأنها تريد تلقي المزيد من الدعم. ولترجمة مفهوم الدعم إلى سلوكيات ملموسة يستطيع ممارستها، سألها جبران عن أمثلة لمفهومها عن الدعم الذي تريد تلقيه بصفة يومية. طلبت منه أن يراجع أداءها يومياً لكي يتوافقا معاً على مسارات العمل والأولويات والمخاوف والتحديات. وحينما وضعا هذه المقترحات موضع التنفيذ، ازدادت الثقة المتبادلة بين جبران وتهاني التي اتضحت أمامها الصورة واكتسبت الثقة بالنفس للمضي قُدماً في عملها بشكل مستقل، تماماً كما كان يأمل جبران. وفي المقابل، أدى ارتفاع مستوى الثقة المتبادلة وتحسُّن أسلوب التواصل فيما بينهما وتفاهمهما المشترك إلى الحد من شعور جبران بالإحباط وساعده على الشعور بأنه أكثر قدرة على إدارة هذه العلاقة المحورية.

ومن خلال الانخراط في هذا النوع من التعلُّم الذاتي، لن ينجح القادة في تحسين مهاراتهم فحسب؛ بل سيكونون بمثابة قدوة يحتذي بها مرؤوسوهم في التعلُّم والانفتاح وتحمُّل مسؤولية أساليب التواصل الشخصي. وعند استخدام أسلوب مختلف للتواصل مع الآخرين وإبلاغهم بالأشياء التي تحاول فعلها والبحث عن الملاحظات أو استباق التقييم النقدي، فإن هذا سيساعد على توليد الدعم لجهود التحسين، وهو ما يمكن أن يعزز تأثيرها. وعند استخدام هذا النهج، ستزداد فرص نجاحك مقارنة بما لو حاولت حل مشاكل القيادة من خلال فرض حلولك على الآخرين وإرغامهم على الالتزام بها.

وإذا أردت أن يصل مستوى خبراتك في قيادة الآخرين إلى مستوى خبراتك في العثور على الحلول الفنية، فإن أفضل نقطة تبدأ من عندها أن تدرك أن إحراز التقدم في هذا المسار يكمن في تغيير نفسك أولاً. وحينما تتعلم أن ترى نفسك جزءاً من منظومة العلاقات وتجرِّب طرقاً لتحويل ديناميات المنظومة بأكملها في اتجاه أكثر إنتاجية وتعاوناً، يمكنك عندئذٍ تجاوز عيوب محاولة إصلاح الآخرين التي قد تتسبب في إفشال الخبراء الفنيين. ويسهم هذا في تمهيد الطريق للنجاح على المستويين القيادي والمهني.

* تم تغيير الأسماء في المقالة.