ليس هناك شك في أن التبني واسع النطاق للمركبات ذاتية القيادة سيكون له أثر كبير على صناعة التأمين على السيارات. إن الأبحاث والنمذجة الحوسبية التي تجريها شركة "أكسنتشر" (Accenture) بالتعاون مع "معهد ستيفنز للتكنولوجيا" (Stevens Institute of Technology) تشير إلى أن حوالي 23 مليون مركبة ذاتية القيادة بالكامل ستجوب الطرق السريعة الأميركية بحلول عام 2035 (من بين قرابة 250 مليون سيارة وشاحنة مسجلة في الولايات المتحدة إجمالاً).
وهذا النمو السريع للمركبات ذاتية القيادة سينطوي على تحول كبير، لا في عادات قيادتنا للسيارات وأنماطها وحسب، وإنما في ملكية المركبات أيضاً. إننا نؤمن أن السواد الأعظم من المركبات ذاتية القيادة بالكامل لن يملكها أفراد، وإنما شركات تصنيع السيارات مثل شركة "جنرال موتورز" (GM)، وشركات التكنولوجيا مثل شركتي "جوجل" (Google) و"آبل" (Apple)، وغير ذلك من مزودي الخدمات مثل شركات النقل التشاركي. وعلى العكس من ملاك السيارات - الذين لا تتحرك سياراتهم معظم الوقت - يستطيع ملاك أسطول السيارات إرسال مركبات ذاتية القيادة لتقوم بالعديد من الرحلات على مدار 24 ساعة، فيعوضون بذلك تكلفة الملكية.
ولقد شرعت شركات تصنيع السيارات بالفعل في تجربة ملكية أسطول المركبات ذاتية القيادة، فقد أعلنت شركة جنرال موتورز شراكة في مجال المركبات ذاتية القيادة مع شركة "ليفت" (Lyft)، وأعلنت "أوبر" (Uber) عن شراكة مثيلة مع شركة فولفو Volvo، والعديد من الشركات الأخرى تستكشف حالياً مسارات مثيلة.
ولما كان تأمين المركبات ذات الملكية الخاصة هو جوهر أعمال صناعة التأمين على السيارات، لدى شركات التأمين الحق كله في أن يساورها القلق بشأن نموها وربحيتها في المستقبل. ومع تراجع عدد ملاك السيارات الأفراد، سيتراجع إجمالي عدد الأقساط التأمينية. ولما كان 94% من الحوادث منسوباً إلى الخطأ البشري، سيتراجع عدد الحوادث والمطالبات التأمينية وجسامتها، مما سيؤدي أيضاً إلى أقساط تأمينية أقل، إذ ستعمل شركات التأمين على تسعير تأمينها وفقاً للمخاطر الحقيقية.
نبذة عن هذه التوقعات
تُظهر توقعاتنا أن الانخفاض في الأقساط الفردية - نظراً لتراجع للملكية الخاصة للسيارات والمركبات الأكثر أماناً - سيبدأ عام 2026، إذ سوف يبدأ عدد كبير من المركبات ذاتية القيادة في الظهور، ومن الممكن أن تتكبد شركات التأمين خسائر قد تصل إلى 25 مليار دولار بحد أقصى. وهذه خسارة فادحة لسوق تقدر قيمتها تقريباً بـ 200 مليار دولار.
وفضلاً عن المركبات ذاتية القيادة التي ستقلص الحاجة إلى التأمين الفردي على السيارات، هناك توجهات أخرى، مثل التمدن والنقل التشاركي وعدم الاكتراث العام بامتلاك السيارات بين السائقين الشباب، تساعد أيضاً على تقليص الطلب، وتمارس ضغوطاً على الأقساط التأمينية. ورغم أن أبحاثنا ركزت على مركبات الركاب الخاصة، تجدر الإشارة إلى أن شركات الأساطيل التجارية الضخمة مثل "يو بي إس" (UPS) و"فيديكس" (FedEx)، وغيرها من شركات الشحن، من الأرجح أن تنتقل إلى المركبات ذاتية القيادة بوتيرة سريعة.
ولكن، هناك عامل يصب في مصلحة شركات التأمين على السيارات: ذلك أن التحول إلى المركبات ذاتية القيادة بالكامل سيكون تدريجياً. ومن الأرجح أن تمر سنين قبل أن تظهر المركبات كاملة القيادة الذاتية على الطرق السريعة الأميركية بأعداد كبيرة، ومن المرجح أن تتعايش مع المركبات تقليدية "القيادة" ومجموعة كبيرة من الأشكال المتنوعة للمركبات شبه ذاتية القيادة.
مراحل تبني المركبة ذاتية القيادة
إذا ألقينا نظرة على تبني المركبات ذاتية القيادة كنطاق كامل - يمثل الصفر (0) عالماً يتكون حصراً من مركبات تقليدية وخمسة (5) يمثل عالماً من المركبات ذاتية القيادة بالكامل - فسنجد أننا في مكان ما بين الصفر والواحد حالياً. تتحرك شركات تصنيع السيارات حالياً بشكل جدي باتجاه المرحلة الأولى التي تتمثل في التكيف مع بعض الميزات المستقلة.
وفي المرحلة الثانية، ستتم أتمتة ميزتين على الأقل (كالمكابح ومثبت السرعة)، وفي المرحلة الثالثة ستكون السيارات ذاتية القيادة جزئياً، ولو أن الحاجة ستقتضي وجود السائق لأغراض المراقبة والرصد.
ونرى أن المرحلة الرابعة هي التي ستمسي فيها المركبات ذاتية القيادة بالكامل، على أن يكون هناك "خيار بشري" للسائق/الراكب لتولي مسؤولية القيادة في أي وقت. والمرحلة الخامسة هي مرحلة الاستقلال الكامل، إذ لن تكون هناك حاجة للعنصر البشري، مما يعني اختفاء عجلة القيادة أو المكابح أو دواسات الوقود.
ونعتقد أن الانتقال عبر هذه المراحل سيكون تدريجياً، وأن شركات التأمين سيكون لديها بعض الوقت للتكيف والاستجابة للمستجدات. لكن توقعاتنا تفيد بأنه بحلول عام 2050، ستكون هناك مركبات ذاتية القيادة وشبه ذاتية القيادة تجوب الطرق أكثر بكثير من المركبات التقليدية.
البحث عن مصادر جديدة للإيرادات
رغم صعوبة التنبؤ بوتيرة تبني المركبات ذاتية القيادة، من الواضح أن أقساط التأمين على سيارات الأفراد ستتقلص بقدر كبير ومتصاعد على الأرجح. وهذا يعني أن شركات التأمين على السيارات تحتاج إلى إيجاد مصادر إيرادات جديدة تعوض التراجع في أقساط التأمين على سيارات الأفراد. من حسن الحظ أن ثمة فرص جديدة تلوح في الأفق أيضاً لشركات التأمين.
فمن خلال الاستعانة بفريق من معهد "ستيفنز"، حددنا ثلاثة جوانب تحمل في طياتها إمكانات كبيرة لشركات التأمين خلال الفترة بين عامي 2020 و2050:
1. الأمن السيبراني. بينما تزداد أتمتة السيارات، وتشتمل على المزيد والمزيد من العتاد والبرامج، من الممكن أن يضمن التأمين ضد السرقة السيبرانية وبرامج الفدية الخبيثة والقرصنة وسوء استخدام المعلومات وثيقة الصلة بالسيارات أقساطاً تأمينية سنوية تبلغ قيمتها 12 مليار دولار بحد أقصى. وقد يكون ذلك التأمين أكثر أهمية للأساطيل الكاملة، على سبيل المثال إذا نشرت أمازون أساطيل من المركبات ذاتية القيادة لتسليم الطرود.
2. المسؤولية القانونية عن المنتج. إن أجهزة الاستشعار والرقائق الإلكترونية المتعلقة بالسيارات غالية الثمن، غير أن الخطر الحقيقي الذي يهدد شركات تصنيع السيارات يكمن في احتمالات الفشل بسبب أخطاء البرامج وفيضان الذاكرة والعيوب الخوارزمية والمسؤولية الجسيمة المترتبة على ذلك. والتأمين ضد هذه الأخطار فرصة سنوية عظيمة قيمتها ملياري ونصف المليار دولار.
3. التأمين على البنية التحتية. إن نظم الخوادم السحابية والإشارات، وغير ذلك من التدابير الوقائية لحماية الركاب والسائقين، والتي سوف توضع موضع التنفيذ تضمن إيرادات سنوية تتمثل في أقساط قيمتها 500 مليون دولار لشركات التأمين على الممتلكات، والتأمين ضد الإصابات التي تؤمّن على قيمة العتاد والبرامج الجاري استخدامها. ومن الأرجح أن تكون الحاجة إلى توفير البنية التحتية العامة والتأمين عليها كبيرة، وأن تحقق إيرادات تتجاوز 500 مليون دولار، غير أن الحكومات عادةً "تُؤمّن تأميناً ذاتياً" ضد هذه المخاطر، ومن ثم من المرجح أن تكون فرصة التأمين التجاري أقل.
وإجمالاً، من الممكن أن تحقق تلك الجوانب إيرادات بقيمة 81 مليار دولار بحلول عام 2026 (بواقع 15 مليار سنوياً من عام 2020 حتى عام 2026، مع وجود بعض التقلبات)، ومن الممكن أن تعوض أكثر من الخسائر المتوقعة في الأقساط التأمينية وصولاً إلى عام 2050.
التخطيط لأجل مستقبل بلا سائق
في مستقبل تهيمن عليه المركبات ذاتية القيادة، ستواجه شركات التأمين على السيارات بعض الخيارات الاستراتيجية العصيبة. فيمكنها أن تواصل مزاولة أعمالها على النحو المعتاد، فتحارب من أجل فتات لا تفتأ تتضاءل، أو أن تغير أسلوب تفكيرها ونماذج عملها وتتكيف مع الوقائع الجديدة.
ومن المستحيل التنبؤ بسرعة التحول إلى بيئة بلا سائقين بالضبط، ولكن على شركات التأمين الشروع في تطوير نماذج اكتوارية تحدد مخاطر المراحل المختلفة للمركبات ذاتية القيادة وأسعارها. وفي الوقت ذاته، ينبغي عليها تطوير عروض جديدة للمنتجات في جوانب تتضمن التأمين السيبراني والمسؤولية القانونية عن المنتج بالنسبة للبرامج وأجهزة الاستشعار.
إننا نلمس أربع خطوات تستطيع شركات التأمين أن تخطوها الآن:
أولاً، تستطيع تلك الشركات تأسيس خبراتها في مجالي البيانات الكبيرة والتحليلات المحوسبة. إن التحرك بفعالية في سوق المركبات ذاتية القيادة يعني أن تكون قادراً على التحكم في البيانات التي تستخلصها تلك المركبات وتولدها نظم الاتصالات والبرامج التي تدعمها. والمشاركون في تلك السوق، الذين بوسعهم جمع هذه البيانات وتنظيمها وتحليلها، ستكون لديهم ميزات جوهرية على غيرهم ممن لديهم إمكانات أقل تطوراً.
ثانياً، تستطيع شركات التأمين تطوير إطار العمل الاكتواري والنماذج الضرورية، فقد رأينا بالفعل خصائص أمان ذاتية جزئياً، مثل نظم مكابح الطوارئ الآلية، وهي تبدل مستوى أمان المركبات الأحدث. وينبغي أن تستخدم شركات التأمين تقنيات اكتوارية ونمذجة متقدمة، على أن تكون جاهزة بينما تضاف إلى المركبات المزيد والمزيد من الخصائص الذاتية.
ثالثاً، على تلك الشركات استكشاف بيئة العمل المتكاملة لشركائها. ستحتاج شركات التأمين إلى التعاون بفعالية مع شركات تصنيع السيارات ومزودي نظم الاتصالات والبرامج والحكومات على مستويات عدة، والكثير من المؤسسات الأخرى. وشركات التأمين التي لا تقوم بذلك بالفعل، ينبغي عليها الانشغال بقوة بتحديد شركاء بيئة العمل والتخطيط لهم.
وأخيراً، ينبغي على تلك الشركات التفكير بشأن نماذج عملها. في الوقت الحالي، تتمتع شركات التأمين، التي تنبع إيراداتها في المقام الأول من وثائق تأمين السيارات الشخصية، بخبرة في التأمين ضد الآلاف من المخاطر البسيطة. قد يتعين على شركات التأمين تلك التحول إلى شركات تأمين تجاري كبرى تقدم وثائق تأمين ضد عدد محدود من الأخطار الكبيرة جداً. وسيتعين على شركات التأمين، التي سوف تواصل العمل في سوق المركبات الخاصة، إعادة النظر في جوانب تتضمن تطوير المنتج وإدارة وثائق التأمين والتوزيع.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الأقساط التأمينية، المتراجعة أعدادها على مستوى صناعة التأمين بأسرها، قد تفضي إلى زيادة في أعداد عمليات الاندماج والاستحواذ. فهناك العديد من شركات التأمين الأصغر حجماً التي من الممكن أن يؤول بها المآل إلى أن تستحوذ عليها شركات تأمين أكبر تسعى إلى الحفاظ على إيراداتها.
خلاصة القول، لا مفر من التغيير لشركات التأمين، غير أن التغيير يمكن أن يكون إيجابياً. إن شركات التأمين التي تطارد دوماً الفرص قصيرة ومتوسطة الأجل التي يتيحها التأمين السيبراني وتأمين المسؤولية القانونية عن المنتج - وفي الوقت ذاته تتخذ قرارات استراتيجية متأنية حيال بيئات العمل المتكاملة لشركاتها ونماذج تشغيلها والقيمة المقدمة - من الأرجح أن تزدهر أعمالها في بيئة بلا سائقين.