أداة مبتكرة لتحقيق إجماع حول قرار مصيري

7 دقيقة
جلسات مناقشة
ميراج سي/غيتي إميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: يواجه القادة تحديات جوهرية في صناعة القرارات التي تؤثر في مستقبل المؤسسة، خاصة في خضم عدم اليقين الذي يعتري عالم الأعمال اليوم. ولأن حديثنا عن المستقبل فالبيانات غير مكتملة بطبيعتها، لذلك نعتمد غالباً على الافتراضات والقناعات الشخصية، ويخوض المسؤولون المناقشات بناءً على أفكار مسبّقة فيحرّفون مغزى البيانات لدعم وجهات نظرهم. فكيف يتسنى للقائد الوصول إلى وضوح رؤية بشأن تحديد الخيار الأفضل للمضي قدماً؟ يقدم لنا مؤلفو هذا المقال أداة سمّوها “جلسات السجال الاستراتيجي”، وهي جلسات مناقشة تفاعلية غامرة تستهدف مساعدة المجموعة على الاتفاق على رؤية واضحة في ظل الأوضاع الضبابية التي صرنا نألفها اليوم. تساعد هذه الجلسات فرق العمل على مواءمة الافتراضات الأساسية والاتفاق على مسار للمضي قدماً، وتحقيق التغييرين الفردي والجماعي.

ينهض كبار القادة اليوم بمهمة لا يحسدون عليها تتمثل في صنع قرارات حول قضايا استراتيجية صعبة، خاصة أنهم يشاركون في المناقشات بشأنها بناءً على أفكار مسّبقة فيحرفون مغزى البيانات بما يدعم وجهات نظرهم. نشهد ذلك دوماً في أثناء مساعدتنا فرق الإدارة العليا بالشركات في التعامل مع تغيير مزعزع: هل يجب عليهم تعزيز أعمالهم الأساسية أم تأسيس أعمال جديدة تكفل لهم النمو؟ هل عليهم الاستثمار في تقنية جديدة واعدة أم الاستمرار في سياسة الانتظار والترقب قبل حسم موقفهم؟ هذان سؤالان دقيقان، ولا يمكن تقديم إجابات شافية عنهما حتى بالإدراك المتأخر لمغزاهما.

لقد عملنا على مدار عقدين على صياغة أداة تساعد القادة في تجاوز تلك التحديات؛ ألا وهي “جلسات السجال الاستراتيجي”، وهي جلسات مناقشة تفاعلية غامرة تستهدف مساعدة المجموعة على الاتفاق على رؤية واضحة في ظل الأوضاع الضبابية التي صرنا نألفها اليوم. اخترنا اسم “السجال الاستراتيجي” لأنها مساحة مخصصة لتدارس الأفكار وتحليل الافتراضات والاستعداد لمواجهة تحديات المستقبل؛ تساعد هذه الجلسات فرق العمل على مواءمة الافتراضات الأساسية والاتفاق على مسار للمضي قدماً، وتحقيق التغييرين الفردي والجماعي.

على سبيل المثال، تكون جلسات السجال الاستراتيجي أداة نقاش فعالة للغاية عند تناول مسألة “العودة للعمل من المكتب” التي تتزايد حساسيتها. وكما هي الحال مع مثل هذه القرارات الاستراتيجية ذات التبعات، فلا إجابة “شافية” بعينها في هذا النقاش حول تحديد أسلوب العمل الأمثل؛ هل هو الافتراضي أم الهجين أم التقليدي الشخصي؟ لكن، من شأن تطبيق ثلاثة مبادئ أساسية أن يمكّن فرق الإدارة العليا وأصحاب المصلحة الأساسيين من خوض مناقشات بنّاءة والاتفاق على نهج عودة للعمل من المكتب يناسب سياق الشركة واحتياجاتها. نستعين بمثال العودة للعمل من المكتب ليساعدنا في توضيح كيفية تنفيذ جلسة سجال استراتيجي، ولكنه أسلوب قابل للتطبيق على أي حالة خلاف تواجه شركتك حالياً أو مستقبلاً. وإليك آليتها:

حوارات تستنير بالبيانات

تعد شركة أمازون نموذجاً ممتازاً للشركة التي تعقد حوارات تستنير بالبيانات، ومن يحضر الاجتماعات المهمة في أمازون يسترعي انتباهه أن الصمت يهيمن على بداياتها، إذ ينشغل الحاضرون بقراءة مذكّرة من 6 صفحات تصف المسألة الموضوع النقاش. ولا يوجد عرض تقديمي عبر شرائح باوربوينت، فلم يكن غرض من وضعوا هذه المذكرة عرض أي تفاصيل لأنهم مهتمون بتيسير سبل النقاش الصادق الصريح حول الموضوع.

هذه المساحة الزمنية هي السمة الضرورية في جلسة سجال استراتيجي؛ فمثل هذه الجلسات لا تحبذ اللجوء إلى عرض تقديمي أو أي وسيلة من وسائل بث المعلومات في اتجاه واحد. كما أنها ليست فرصة للجدال يتنازع خلالها طرف بآرائه مع الطرف الآخر. في كتاب “في الحوار” (On Dialogue)، ذكر المؤلف الفيزيائي ديفيد بون أن الحوار ليس “مباراة في تنس الطاولة، حيث يتداول الطرفان الأفكار بينهما ذهاباً وإياباً بهدف انتصار أحدهما على الآخر، بل يتميز بصبغة تشاركية حيث التآزر لا التنافس”.

الغرض من هذا الحوار إشراك الأفراد في صناعة القرار. قبل نحو ثلاثين عاماً، أظهر بحث أجراه تشان كيم ورينيه موبورن أن الناس يفضلون العدالة “الإجرائية” (أي العملية العادلة) على العدالة “التوزيعية” (أي النتيجة العادلة)؛ فالحوارات الشاملة تعزز الالتزام حتى لو اختلف الأفراد في نهاية الحوار حول نتائج بعينها.

وبالرجوع إلى مثال “العودة للعمل من المكتب”، يظهر البحث أن 80% من الشركات ترى أن سياساتها الأولى في هذا الصدد كانت خاطئة، وأحد الأسباب هو أن 7% منها فحسب استفادت من آراء موظفيها في تحديد الاستراتيجية المتبعة. كلما اتسعت مجموعات الموظفين المشاركة في النقاش ارتفعت نسبة التأييد.

نسمي هذه النقاشات “حوارات مستنيرة بالبيانات” حتى لا ننسى أنه على الرغم من ضرورة طرح أفضل البيانات المتاحة على طاولة النقاش، فالبيانات التي تتناول المستقبل ناقصة بطبيعتها. لا مانع من أن تقدم أحدث الأبحاث حول الإنتاجية والمشاركة والإبداع وما إلى ذلك في بيئات مختلفة، وستجد نتائج متضاربة بكل تأكيد. هل تعزز سياسات العمل عن بُعد المشاركة أم تقلصها؟ عندما شرعت جينا ماغريغور، من مجلة فوربس، في مراجعة شاملة للأبحاث التي تناولت العمل من المنزل، لاحظت أن “من الممكن انتقاء الأبحاث بالطريقة التي تنتهي إلى تأييد أي من النتيجتين المتناقضتين”.

لكنك إن أمعنت النظر فربما ترى أنماطاً متكررة؛ خذ مثلاً نموذج المكتب المفتوح، إذ يتضح يوماً بعد يوم أنه لا يعزز الإبداع. والأرجح أن ترى غموضاً وفرصاً للابتكار؛ قال مدير الموارد البشرية في إحدى الشركات العميلة لدينا: “إن حددت لموظفيك أياماً من الأسبوع يمكنهم فيها، أو لا يمكنهم، العمل من المنزل، فأنت ما زلت تأمرهم وتسيطر عليهم. هذا ليس بنموذج العمل الهجين، لأن أساس العمل الهجين هو منح الحرية للموظفين”. ولدى شركة أخرى من عملائنا قسم يعمل موظفوه جميعاً من المكتب أسبوعاً من كل شهر، ومن ثم لهم حرية العمل من أي مكان شاؤوا خلال بقية الشهر. ونعرف من واقع بيانات العملاء أن الاتفاق بين الإدارة والموظفين على التوقعات يساعد في التخطيط ويتيح مساحة مريحة للتركيز الشديد وحسن توجيه وقت العمل، ما يعزز الإنتاجية والمشاركة.

منافسة بين الافتراضات لا القناعات

نسمي هذا التدريب “جلسات سجال استراتيجي”، ولكن ما محور السجال تحديداً؟ إنه الافتراضات. لنأخذ مثلاً المناقشة التي أجراها أحدنا، سكوت أنتوني، مع فريق عمل يضع استراتيجية لافتتاح سلسلة مقاهٍ في اليابان.

كان النقاش محتدماً بين أفراد الفريق.

قالت ريتشل: “أرى ألا ننفذ المشروع، علينا أن نوقفه”.

فبادر آشر رافضاً: “وأنا أرى بكل تأكيد أن علينا تنفيذه. والحقيقة أن المشكلة تكمن في أن من نستهدفهم لا يملكون الجرأة الكافية”.

ومن ثم، سألا زميلنا سكوت عن رأيه.

شَخَص الجميع بأبصارهم إلى سكوت. خاض ريتشل وآشر نقاش قناعات، وفي حين قد يربح أحد الطرفين مثل هذه المناقشات فالخاسر الدائم فيها هو الشركة، ما السبب؟ لأن تمسك الشخص بقناعاته يولّد لديه في نهاية المناقشة، بعد إدراكه أنه لم ينتصر فيها، شعوراً بأن الآخرين لا يهتمون به أو بآرائه، أو يرفضونه.

تقول الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال وخبيرة القيادة، ليندا هيل: “إن التنوع والخلاف من بين أهم مقومات الابتكار”، ولكن المنافسة التي تتخذ طابعاً شخصياً مفرطاً تمنع ما تسميه هيل “الاحتكاك الإبداعي”؛ أي تلاقح الأفكار الذي يوقد جذوة الإبداع. فعندما يأخذ الموظفون تلك المعارك على محمل شخصي للغاية، يتوهج الشرر الناتج عن الاحتكاك لأقصى درجة لكنه لن يغير وجهات النظر؛ ومن شأن خفض حرارة هذا الاحتكاك أن يفسح المجال للإبداع. والسبيل إلى ذلك هو ألا يناقش الحوار القناعات بل الافتراضات.

نعود إلى زميلي سكوت، الذي وضع حداً لذلك النقاش قبل أن يعيد طرحه في إطار جديد: قال لكل من ريتشل وآشر إن عليهما الاستعاضة عن كلمة “أعتقد” أو “أظن” في بداية الحديث بعبارات من قبيل “الافتراض الأساسي هو”.

فقالت ريتشل إن الافتراض الأساسي وراء تأكيدها هو أن متوسط ما سينفقه العميل الياباني العادي لا يصل إلى 1,000 ين (نحو 9 دولارات) لكل طلب في المقهى، فقال آشر إنه يتفق بالفعل مع افتراض ريتشل، وتبين أن محور افتراضه الأساسي يتعلق باحتمالات أن تكتسب المقاهي ولاء العملاء وتصبح زيارتهم إليها روتينية. طلبت ريتشل بيانات مقارنة من مقاهٍ أخرى، واستحسن آشر طلبها ووافق على التعمق في دراسته له، وأجمع الكل على الحاجة إلى إجراء تحليل أعمق لأداء النموذج الأولي للمقهى الذي افتتحته الشركة، وبعد جلسة عصف ذهني، توصلوا إلى أفكار لتجارب أخرى يمكن أن تعزز ثقتهم في هذا الافتراض الأساسي.

من الضروري في أي جلسة سجال استراتيجي تتناول مستقبل العمل البحث عن الافتراضات الأساسية للأساليب المختلفة، لذلك احرص على أن تحددها حتى يتسنى لك اختبارها، ولا تقبل عبارات من قبيل “من الأفضل العمل من المنزل” فحسب، بل طالب المتكلم بتقديم معلومات من قبيل “العمل عن بعد ليومين في الأسبوع يزيد معدلات مشاركة الموظفين بنسبة 10%”، أو “العمل من المكتب يوماً في الأسبوع يؤدي إلى زيادة 20% في التقييمات التي يتلقاها المهندسون”. كلما ازدادت دقة الافتراض ازدادت قدرتك على دراسته واختباره.

وللتركيز على الافتراضات بدلاً من الإجابات مزيتين؛ أولاهما أن تنتفي الجوانب الشخصية من النقاش، إذ تفصل من الناحية النفسية بين الشخص وحجته وتسمح بالاحتكاك الإبداعي البناء. أما الميزة الثانية فهي زيادة الاهتمام بالجوانب التي ترغب في أن تعمق معرفتك بها بالبحث أو التجريب المكثف.

تسليط الضوء على عدم التوافق

غالباً ما تختتم فرق العمل اجتماعاتها وأفرادها يظنون أنهم أكثر توافقاً مما هم في الواقع، لذلك عليهم تجنب التفكير الجماعي (حيث يوافقون على رأي جماعي جديد قبل إثبات جدواه)، والحذر من تأثير التسلسل الإداري (عندما يترددون في التشكيك في آراء رؤسائهم) والحذر كذلك من التكاسل الاجتماعي (الذي يسمى كذلك بـ “تأثير المتفرج”، حيث يلتزم الموظف الصمت خشية أن يتحدث فيُكلف بمزيد من المهام) كي تضيق الفجوة بين ما يفكر فيه الفرد وما يصرح به. ليس الهدف من جلسة السجال الاستراتيجي تحقيق إجماع عن غير دراية، بل تسليط الضوء على مواطن عدم التوافق الرئيسية.

أذكر من الأساليب المتبعة في هذا الصدد تمريناً يسمى “المشي على الخط”؛ نطرح مسألة استراتيجية رئيسية، مثل الإيرادات المستهدفة لمبادرة جديدة، ثم نرسم خطاً بشريط لاصق على الأرض، ونضع عليه علامات تميز المواقف المختلفة من هذه المسألة، ونطلب من الموظفين الوقوف عند العلامة التي تمثل وجهة نظرهم في الموضوع. وربما نقوم بذلك خلال الاجتماع نفسه؛ وفي بعض الأحيان نستعين باستطلاعات رأي مسبّقة حتى يلتزم بها الموظفون قبل دخول قاعة الاجتماعات. كما يمكن تطبيق هذا التمرين رقمياً بالكامل، وعادةً ما نطلب من صاحب المنصب الأعلى أن يكون آخر من يخطو على الخط (أو قد لا نطلب منه ذلك على الإطلاق)، لأننا تعلمنا أن الموظفين في العديد من الثقافات يحذون حذو رئيسهم دون تفكير. عندئذ، نسأل كل موظف عن سبب وقوفه عند العلامة التي اختارها.

حين عملنا مع شركة سويسكوم (Swisscom)، المشغل الرائد لشبكات الهواتف النقالة في سويسرا، فوجئ أعضاء الإدارة العليا عندما تبين لهم أن لكل منهم رأياً مختلفاً كلياً عن الباقين بشأن مسار نمو شركتهم للأعوام السبعة المقبلة؛ إذ رأى الجميع النقطة التي يقف عندها كل منهم على الخط، ما فتح الباب لمناقشات أكثر جدية حول الافتراضات الأساسية وطبيعة البيانات التي يمكن أن تغير وجهات النظر تلك. وبعد عدة جلسات سجال، توصل فريق الإدارة إلى إجماع على أحد مستهدفات النمو كان أعلى بكثير مما كان عليه يوم بدأت المجموعة اجتماعاتها، حتى إن أحد قادة الشركة وصف تلك النتيجة بأنها “لحظة بهجة وارتياح”.

قد تستفيد مواضيع “العودة إلى العمل من المكتب” من تمرين “المشي على الخط”؛ ابسط شريطاً لاصقاً على الأرض وميز عليه علامات تتدرج من الاعتراض الشديد حتى الاتفاق الشديد، ثم اطلب من الموظفين الوقوف عند العلامة التي تمثل موقفهم في مسائل من قبيل:

  • إنتاجية العمال (مقارنة بمشاركة الموظفين) هي المتغير الذي يجب علينا تحسينه.
  • التقارب المكاني يعزز الإبداع.
  • تزداد إنتاجية فرق العمل عندما يمضي أفرادها وقتاً أطول معاً.
  • المبيعات مهارة لا يتقنها إلا من تدرب عليها شخصياً.
  • يجب تنسيق أيام العمل من المكتب وتوزيعها وفقاً لتقدير الموظفين.
  • سوف يؤدي إجبار الموظفين على العمل من المكتب إلى رحيل أصحاب الأداء المتميز عن الشركة.
  • ينبغي أن يواجه الموظفون الذين لا يلتزمون بسياسات العودة إلى العمل من المكتب عواقب سلبية.
  • تتيح أيام العمل من المكتب مزيداً من فرص التعلم بفضل التوجيه والتدريب والإشراف.

ومن الطرق الأخرى لإظهار عدم التوافق تنفيذ تمرين روتيني في أثناء الاجتماعات؛ فعلى سبيل المثال، شارك سكوت وناتالي بصفة استشاريين في اجتماعات صناعة القرار في بنك دي بي إس (DBS Bank) الرائد في سنغافورة. في أثناء العروض التقديمية تظهر للحضور شريحة عشوائية لشخصية اسمها ريكون تطرح أسئلة مثل “ما الذي نسيناه؟” أو “ما الافتراض الأعلى خطورة؟” أو “ما وجهة النظر المقابلة؟” أو “ما الخطأ الذي قد يحدث؟”.

تنطوي صناعة القرار في غياب اليقين على تحديات جوهرية، كما تتيح فرصاً للشركات ذات الفكر الاستشرافي للتفوق على منافسيها واستباق التغيرات في السوق. وتساعد جلسات السجال الاستراتيجي الشركة في صياغة نظرتها الخاصة لمستقبل عملها، والانتقال من الجدل المتوتر إلى التقدم بخطى واثقة من خلال التجارب المركزة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .