تتعرّض الشركات حالياً إلى ضغوط لكي تتغيّر، فقد بات مطلوباً منها التخفيف من سعيها الوحيد إلى تحقيق المكاسب المالية، وإيلاء اهتمام أكبر بأثرها على الموظفين، والزبائن، والمجتمعات المحلية، والبيئة. ولم تعد ممارسة المسؤولية الاجتماعية للشركات بأسلوب هامشي كافية. كما أن هناك ضغوط تأتي من مختلف الاتجاهات، فهناك المستويات المتنامية من عدم المساواة، والبراهين المتزايدة على أنّ تأثيرات التغيّر المناخي ستكون كارثية، وإدراك المستثمرين أنّ تحقيق الأرباح على المدى القصير وضمان الاستدامة على المدى البعيد قد يكونان متناقضين. ولأسباب من هذا القبيل، بات عدد متزايد من قادة الشركات يفهمون الآن أنّهم يجب أن يتبنّوا أهدافاً مالية واجتماعية على حدّ سواء.
لكنّ تغيير طبيعة مؤسسة ما أمر في غاية الصعوبة. كيف يمكن لشركة لطالما ركّزت على الأرباح أن توازن بين هذين الهدفين؟ هذا الأمر يستدعي قلب نموذج العمل القائم رأساً على عقب. ومن غير المفاجئ أن يجد الباحثون أن الشركات تتخلّى بسرعة عن أهدافها الاجتماعية سعياً وراء الربح.
حدّد مجلس إدارة "جرامين فيوليا ووتر" هدفين منذ اللحظة الأولى، ألا وهما: توفير مياه شرب آمنة بسعر ميسّر إلى سكّان قرى ريفيّة، والمحافظة على استدامة العمليات من المبيعات دون الاعتماد على المنح. وقد حصل تضارب بين هذين الهدفين.
ومع ذلك، تنجح بعض الشركات في مساعيها الرامية إلى تحقيق كلا الهدفين. فشركة مثل شركة "باتاغونيا" (Patagonia) الأميركية لملابس الأنشطة الخارجية، على سبيل المثال، التي كانت تعطي الأولوية في بادئ الأمر للأهداف المالية، انتقلت إلى الانخراط في الأعمال الخيرية الاجتماعية بجدّية أكبر مع مرور الوقت. في حين بدأت شركات أخرى بأهداف اجتماعية لكن توجب عليها أن تكسب الإيرادات لكي تحافظ على استمراريتها. ومن الأمثلة الأبرز على ذلك "بنك غرامين" (Grameen Bank)، المصرف الحائز على جائزة نوبل، والمتخصّص بتقديم القروض المصغرة في بنغلادش. لقد أمضينا عقداً من الزمن في دراسة كيفية نجاح الشركات ذات التوجهات الاجتماعية، وما استنتجناه من الدراسات النوعية المعمّقة والتحاليل الكمّية قد يكون مفيداً للشركات التقليدية التي ترغب في تبنّي غاية مزدوجة.
فكرة المقالة بإيجاز
المشكلة
تتعرّض الشركات حالياً إلى ضغوط لكي تخفّف من سعيها الأحادي الجانب لتحقيق المكاسب المالية، ولكي تولي اهتماماً أكبر لأثرها على المجتمع. ولكن كيف يمكن لشركة أن توازن بين الاثنين؟.
البحث
درس الباحثون شركات منتشرة في أنحاء العالم تسعى إلى تحقيق أهداف مالية واجتماعية في الوقت ذاته. وقد توصّلوا إلى أن الشركات الناجحة بينها تتبنّى التزاماً بالقيمتين الاقتصادية والاجتماعية ضمن أنشطتها المؤسسية الأساسية.
الحل
يجب على الشركات الراغبة في النجاح مالياً والانخراط في فعل الخير أن تركّز على أربع ممارسات أساسية في الإدارة هي: وضع أهداف مزدوجة ورصدها، وتصميم الهيكل التنظيمي للمؤسسة بطريقة تدعم كلا النوعين من الأهداف، وتعيين الموظفين وتهيئتهم اجتماعياً لتبنّي هذه الأهداف، وممارسة القيادة المبنية على ذهنية مزدوجة.
يكشف بحثنا أنّ الشركات الناجحة التي تمتلك غاية مزدوجة تتمتّع بالقاسم المشترك التالي: فهي تتبنّى مقاربة نسمّيها التنظيم الهجين، الذي يشمل أربع روافع: وضع الأهداف الاجتماعية جنباً إلى جنب مع الأهداف المالية ورصدها، وتصميم الهيكل التنظيمي للمؤسسة بطريقة تدعم الأنشطة ذات التوجّهات الاجتماعية والمالية على حدّ سواء، وتعيين موظفين يتبنّون كلا النوعين من الأهداف وتهيئتهم اجتماعياً لتحقيقها، وممارسة القيادة المبنيّة على ذهنية مزدوجة. وإذا ما وُظفت هذه الروافع معاً، فستساعد الشركات على بناء ثقافة هجينة والمحافظة عليها، مع إعطاء القادة في الوقت نفسه الأدوات لكي يتعاملوا وبطريقة مثمرة مع التضارب الذي ينشأ بين الأهداف المالية والاجتماعية عندما يندمجان، ممّا يزيد من احتمال نجاح هذه المساعي.
وضع الأهداف ورصد التقدّم المحرز
تحتاج الشركات ذات الغاية المزدوجة إلى وضع أهداف مالية واجتماعية ورصد الأداء بشكل متواصل.
وضع الأهداف:
تُعتبرُ الأهداف المصاغة بشكل جيّد أداة أساسية من أدوات الإدارة. وهي تنبئ بالأمور المهمّة. ويمكن أن تسلّط الضوء على ما هو ناجح وما هو غير ناجح. يجب على هذه الأهداف أن تتجاوز الطموحات، وأن توضح الغاية المزدوجة التي تتبنّاها الشركة بالنسبة للموظفين، والزبائن، والمورّدين، والمستثمرين، والجهات الناظمة. وقد تحتاج الشركات إلى التجربة بهدف التوصّل إلى نموذج لوضع الأهداف ليكون مناسباً لها، وهو أمر تمكّنت شركة "جرامين فيوليا ووتر" (Grameen Veolia Water) من تحقيقه من خلال إعادة المعايرة المستمرة لأنشطتها المتمحورة حول أهداف صريحة.
أنشئت هذه الشركة، التي توفّر مياه الشرب الآمنة في بنغلادش، عام 2008 على هيئة مشروع مشترك بين "بنك غرامين" (Grameen Bank) وشركة "فيوليا" (Veolia) التي توفّر خدمات المياه. أدركت شركة فيوليا التي تعمل بموجب عقود حكومية أنّه لم تكن هناك سلطات محلية مسؤولة عن توفير مياه الشرب إلى المناطق الريفية في ذلك الوقت. كان هدف الشراكة هو سد هذه الفجوة. وحدّد مجلس إدارتها هدفين للمشروع الجديد منذ اللحظة الأولى، ألا وهما: توفير مياه شرب آمنة بسعر ميسّر إلى سكّان قريتين ريفيتين، وهما غوالماري وبادوا على المدى الطويل، والمحافظة على استدامة العمليات من المبيعات دون الاعتماد على المنح.
حدث تضارب بين هذين الهدفين. فعندما أدرك المدراء مدى صعوبة تحقيق التعادل بين المصاريف والإيرادات في حال بيع المياه إلى الأسر الريفية بسعر زهيد جدّاً، ابتكروا نشاطاً جديداً لتوليد الإيرادات، ألا وهو بيع قوارير المياه المعبأة إلى المدارس والشركات في المناطق الحضرية القريبة. عند هذا الحد، ربما كان من المغري تركيز الانتباه والموارد على الشريحة السوقية الجديدة المُربحة على حساب الشريحة الأصلية. لكنّ القيادة لم تتزحزح عن موقفها. فقد كان الهدف الاجتماعي المعلن بوضوح للمشروع بمثابة تذكير لأعضاء مجلس الإدارة والمدراء أنّ الهدف من المبيعات في المناطق الحضرية هو دعم مبيعات القرى. في نهاية المطاف أمّنت هذه المبيعات الحضرية نصف إيرادات الشركة لتساعد بذلك "جرامين فيوليا ووتر" على تحقيق هدفها الاجتماعي.
ليس هناك من دليل عملي واحد موجود لصياغة الأهداف الاجتماعية. لكنّ تشير دراساتنا إلى قاعدتين عامّتين، الأولى، هي إجراء الأبحاث. غالباً ما يحاول القادة وضع الأهداف دون تكوين فهم عميق للاحتياجات الاجتماعية المحدّدة التي يحاولون تلبيتها، أو للكيفية التي ربّما يكونون قد أسهموا بها في الماضي في تراكم المشاكل. وتماماً كما يُجرون أبحاثاً سوقية لتحديد فرص تحقيق الربح، يجب عليهم دراسة هذه الاحتياجات الاجتماعية. ويجب أن يشارك المستفيدون المستهدفون في بحثهم هذا إلى جانب غيرهم من الجهات المعنية والخبراء.
قبل إطلاق "جرامين فيوليا ووتر" لعملياتها، أجرت بحثاً رئيساً لفهم مشاكل المياه في بنغلادش، وقابلت مسؤولين من القطاع العام، وخبراء في الصحة والمياه، إضافة إلى الاجتماع بمنظمات المجتمع المحلي. اكتشف المدراء أنّ بعض السكّان الريفيين لم يعانوا فقط جرّاء شرب المياه السطحية الملوّثة بالجراثيم (كما افترض الباحثون في بادئ الأمر)، وإنما عانوا أيضاً جرّاء شرب المياه من آبار حفرت في ثمانينيات القرن الماضي. وكانت بعض مياه الآبار، ورغم كونها رائقة ولا طعم لها، ملوّثة بشكل طبيعي بالزرنيخ، وكانت مصدراً أساسياً لإصابة البالغين بمرض السرطان، وللإعاقات الذهنية لدى الأطفال. قادت هذه المعلومة الشركة إلى تركيز نشاطها في قريتي غوالماري وبادوا، اللتين عانتا من كلا مصدري التلوث. لذلك حدّدت الشركة هدفها المتمثّل بتوفير إمكانية الحصول على المياه النظيفة بشكل دائم للجميع في هاتين القريتين.
القاعدة الثانية، هي تحديد أهداف واضحة ودائمة (وإن كان لا بدّ من تحديثها في ضوء أي تغيّر يطال البيئة). فالأثر سيكون محدوداً لو استهلك سكّان القرية المياه النظيفة لبضع سنوات فقط. ولكن لتحقيق تغيير إيجابي ملموس على صحتهم، فإنّهم بحاجة إلى الحصول على المياه النظيفة على مدار عقود.
رصد التقدّم المحرز:
ثمّة أمر آخر يضاهي وضع الأهداف في أهميته، ألا وهو تحديد مؤشرات الأداء الرئيسة وتكييفها بهدف ضمان إنجاز المستهدفات المحدّدة، سواء أكانت مالية أم اجتماعية. ورغم أنّنا نعرف كيف نقيس المبيعات، ونمو الإيرادات، والعائد على الأصول، إلا أنّه ليس هناك مقاييس مقبولة على نطاق واسع وموجودة حالياً للعديد من الأهداف الاجتماعية (وإن كان قد أُحرز المزيد من التقدّم في قياس الأثر البيئي). ومع ذلك، من الممكن تحديد مؤشرات أداء رئيسة مالية واجتماعية. فقد توصّل بحثنا إلى أنّ الشركات تستطيع النجاح عندما تكرّس وقتاً وجهداً كبيرين لتطوير عدد مقبول من المقاييس القابلة للتتبّع أثناء عملية وضع الأهداف، ومراجعتها بانتظام لتقييم مدى استمرار صلتها وكفايتها.
في "جرامين فيوليا ووتر"، تشاور المدراء مع أعضاء المجتمع الريفي الذين سعوا إلى خدمتهم، وكذلك مع الخبراء الأكاديميين قبل اعتماد أربعة مؤشرات أداء رئيسة هي: نسبة التمويل الذاتي للشركة (قدرتها على تمويل الاستثمارات المزمعة من مواردها الخاصّة)، وعدد القرى القادرة على الوصول إلى خدماتها، ونسبة الانتشار في المناطق الريفية، ونسبة الاستهلاك الريفي المنتظم (وهذا يقيس الأداءين المالي والاجتماعي). تخضع هذه المؤشرات الأربعة إلى تحديث شهري بهدف رصد العمليات. ويناقشها مجلس الإدارة كل ثلاثة أشهر لتشكّل موجّهاً لعملية اتخاذ القرارات الاستراتيجية.
التحلّي بذهنية التعلّم هو أمر أساسي لتطوير مؤشرات الأداء الرئيسة واستعمالها. كما أنّ الاستعداد للتجريب والتغيير بناءً على التجربة، سواء أكانت التجربة الذاتية أم من تجارب الآخرين، يساعد الشركات في تكوين فهم أفضل للمشاكل ولكيفية معالجتها. ومن الأمثلة الملائمة على استعمال هذه المقاربة في تحديد مقاييس الأداء الاجتماعي تجربة شركة "ديماجي" (Dimagi) التي تأسّست عام 2002 ويقودها جوناثان جاكسون وهو أحد مؤسسيها. توفّر هذه الشركة إلى المنظمات غير الحكومية والحكومات برمجيات بوسعهم استعمالها لتطوير تطبيقات للهاتف المحمول للعاملين الميدانيين في قطاع الرعاية الصحية في الدول النامية. في بادئ الأمر، كان المقياس الاجتماعي الأساسي لديماجي هو عدد المستخدمين النشطين، وكان الهدف من هذا المقياس هو الإشارة إلى عدد الأشخاص الذين أثّرت بهم التكنولوجيا إيجابياً. كان جاكسون يأمل بتحسين هذا المقياس، لأنّه لم ينجح في التمييز بين من استعملوا البيانات فعلياً لتحسين عملية تقديم الخدمة إلى المرضى، ومن جمعوها ولم يستخدموها.
خصّصت الشركة فريقاً متفرّغاً لقياس الأثر، وأوكلت إليه مهمّة تنقيح المؤشرات الرئيسة للأداء الاجتماعي. بعد عمليات الاستكشاف، وضع الفريق مقياساً هو "الأشهر التي ينشط فيها العامل"، بهدف قياس عدد مزوّدي الخدمات الصحية الذين كانوا يطبّقون تكنولوجيا "ديماجي" فعلياً. كما طبّقت أنظمة داخلية للبيانات لتتبّع المقياس في عموم المشاريع. لكن سرعان ما أدرك جاكسون أنّ هذا المقياس كان معيباً أيضاً، لأنّ المحصلة كانت خارج نطاق سيطرة "ديماجي"، فالطريقة التي استخدم العاملون بها البرمجية كانت أكثر اعتماداً على سلوكيات زبائن "ديماجي" من منظمات غير حكومية وحكومات من اعتمادها على سلوكيات "ديماجي" بحدّ ذاتها.
بعد أن تواصل جاكسون مع مشاريع اجتماعية أخرى طلباً للنصح، عاد إلى معيار عدد المستخدمين النشطين بوصفه المقياس الاجتماعي الأساسي للشركة، لكنّه جمعه مع كيان جديد – وهو فريق مراجعة الأثر – الذي ركّز على التحاليل والنقاشات النوعية الفصلية لأثر جميع المشاريع. كانت الغاية من هذه المراجعات ضمان عدم تركيز فريق ما دون مبرّر على الجوانب القابلة للقياس الكمّي في مشروع معيّن (الإيرادات، التكاليف، تواريخ الاستكمال) وإنما استكشاف مدى فاعلية عملية تقديم الخدمة، وكيفية تحسين ذلك من أجل تقديم دعم أفضل إلى العاملين الميدانيين في قطاع الرعاية الصحية أيضاً. كما يناقش الفريق الأشكال غير المباشرة للأثر أيضاً، مثل مساعدة المنظمات لتقويم مدى جاهزيتها لتبنّي التحوّل الرقمي.
في كل مرّة تبيع "ريفوليوشن فودز" وجبة غذائية صحّية إلى مدرسة يحصل أمران: فهي تعزّز صحّة طفل، وتجني المال. وبالتالي فإنّ نشاط الشركة الأساسي يقوم على توليد هذين النوعين من القيمة.
كما تعمل شركات ناجحة أخرى على تكملة مؤشرات الأداء الرئيسة لديها بإضافة تقويمات نوعية معمّقة لأدائها الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، وظّفت شركة الاستثمار المؤثر البرازيلية "فوكس كابيتال" (Vox Capital) جيسيكا سيلفا ريوس، وهي مديرة تنفيذية متفرّغة، لفهم أثر الشركة وقياسه، وقد عيّنتها مؤخراً كشريكة كاملة. كما تلجأ بعض الشركات أيضاً إلى استخدام مؤشرات اجتماعية خارجية طوّرتها منظمات غير حكومية مستقلة مثل، "المبادرة العالمية للتقارير" (Global Reporting Initiative)، و"هيئة المعايير المحاسبية للاستدامة" (Sustainability Accounting Standards Board)، و"بي لاب" (B Lab). على سبيل المثال، ترصد "فوكس كابيتال" ما إذا كان ترتيبها ضمن "النظام العالمي لتصنيف الاستثمار المؤثر" فوق المتوسّط بالمقارنة مع الصناديق الأخرى في الأسواق الناشئة، وتعدّل الأتعاب التي تتقاضاها من المستثمرين بناءً على ذلك.
تصميم الهيكل التنظيمي للمؤسسة
من المستحيل تقريباً النجاح على الجبهتين المالية والاجتماعية على المدى البعيد إذا لم تكن الشركة مصمّمة لدعم الاثنين. ويحتاج الوصول إلى تصميم فاعل أن تفكّروا لتحديد أي الأنشطة المؤسسية تحقّق قيمة اقتصادية، وأيّها يحقّق قيمة اجتماعية، ومدى الارتباط بين هذين النوعين من الأنشطة، وكيف ستحاولون الموازنة بينهما.
تحقيق التواؤم بين الأنشطة والهيكل التنظيمي:
تحقّق بعض الأنشطة قيمة اجتماعية واقتصادية في الوقت ذاته. وتحقّق أنواع أخرى نوعاً مهيمناً واحداً من القيمة. بالنسبة للأنشطة التي تحقّق كلا النوعين، عادة ما يكون الهيكل التنظيمي المتكامل خياراً معقولاً. وإلا، فإنّ الطريقة الفضلى غالباً هي إدارة الأنشطة بصورة منفصلة.
توفّر شركة "ريفوليوشن فودز" (Revolution Foods)، التي أسّستاها في عام 2006 كل من كريستين ريتشموند وكيرستن توبي، وجبات غداء مغذية إلى الطلاب ذوي الدخل المنخفض في الولايات المتّحدة الأميركية. أنشأت ريتشموند وتوبي الشركة لتلبية غاية اجتماعية، بعد أن لاحظتا كيف كانت الخيارات الغذائية السيئة تشكّل عائقاً بالنسبة للطلاب في المدارس التي لا تحصل على التمويل الكافي. في كل مرّة تبيعان وجبة غذائية صحّية إلى مدرسة يحصل أمران: تعزّزان صحّة طفل، وتجنيان المال. وبالتالي فإنّ نشاطهما الأساسي يقوم على توليد هذين النوعين من القيمة. ونتيجة لذلك، فقد اختارتا تبنّي هيكل متكامل، بوجود مدير وحيد مسؤول عن كفاءة التشغيل، ونمو الأعمال، والترويج لصحّة الأطفال. وغالباً ما يتفاعل مدراء الحسابات مع الطلاب في أنشطة مخصّصة للتوعية الغذائية (سواء بشكل مباشر أو عبر المنظمات المجتمعية)، ويعرّفونهم على أغذية جديدة، ويستمزجون رأيهم بخصوص المذاق. فتناول أغذية صحّية يحسّن سلامة الأطفال على المدى البعيد، ويدعم المبيعات في الوقت ذاته.
في المقابل، اكتشفت شركة "إنفي" (ENVIE) الفرنسية مع مرور الوقت أنّها بحاجة إلى الفصل بين هذه النوعين من الأنشطة. فهدف هذه الشركة، التي تأسّست عام 1984، كان إعادة دمج الأشخاص العاطلين عن العمل ضمن سوق العمل من خلال توظيفهم بعقود لمدّة عامين من أجل جمع الأجهزة المنزلية المستعملة وإصلاحها وبيعها في متاجر البضائع المستعملة. كما وفرت الشركة أيضاً الدعم والتدريب على إصلاح الأجهزة المنزلية، وعلى كيفية البحث عن وظيفة، وكيفية كتابة سيرة ذاتية، وكيفية خوض مقابلة عمل. إعادة بيع الأجهزة المنزلية هو ما يحقّق القيمة الاقتصادية. أمّا التدريب على تعزيز قدرة الأفراد على العثور على عمل خارج "إنفي" فهو ما يحقّق القيمة الاجتماعية، لكنّه لا يجعل الشركة تحقّق أرباحاً أكثر، إنما يزيد من تكاليفها.
في السنوات الأولى، كان يُطلب من الموظفين أداء وظيفتين: الأولى، هي تقديم الإرشادات التقنية إلى المستفيدين حول كيفية إصلاح الأجهزة أو تفكيكيها (قيمة اقتصادية)، والثانية هي تزويدهم بالدعم الاجتماعي (قيمة اجتماعية). ولكن كان من الصعب العثور على مشرفين ممن يمتلكون كلا النوعين من الخبرات الاجتماعية والتقنية. وحتى عند العثور على أشخاص يتمتعون بهما، وجد هؤلاء المشرفون صعوبة في الموازنة بين هذين الجانبين في وظائفهم. وبناءً عليه، قرّر مؤسسو "إنفي" إنشاء وحدتين مؤسسيتين منفصلتين، واحدة للدعم الاجتماعي، وواحدة للتصليح. يشرف على الأولى مرشدون اجتماعيون، فيما يشرف على الثانية خبراء تقنيون. أسهم هذا الأمر في زيادة فاعلية الشركة في تحقيق كلا النوعين من القيمة.
إفساح المجال للتفاوض:
تكمن المشكلة في أنّ التوترات تنشأ لا محالة– ولا سيما في الهيكليات القائمة على الاختلاف بين النوعين. وإذا ما تُرِكت هذه التوترات تتفاقم دون إيلاء الاهتمام المطلوب بها، فإنّها يمكن أن تقود المؤسسة إلى حالة من التوقّف عن العمل. من الأمثلة التي تدعو للتأمّل على ذلك بنك "بانكو سوليداريو" (Banco Solidario) البوليفي المتخصّص بتقديم القروض المصغرة. في تسعينيات القرن الماضي، أدّى الاستياء والاقتتال الدائمين بين المصرفيين (المعنيين بالرسوم والكفاءة)، والعاملين الاجتماعيين (المعنيين بمدى تيسّر القروض ومعيشة روّاد الأعمال الصغار) إلى تجميد عمل الشركة. فقد استقال مسؤولو القروض بأعداد كبيرة، وحصل هبوط في عدد المقترضين النشطين، وهبطت هوامش الأرباح. وقد وجدنا أنّ الشركات الناجحة التي تتبنّى غايات مزدوجة، تتجنّب هذا النوع من الشلل من خلال تكملة الهياكل المؤسسية التقليدية بآليات تسمح بإظهار التوتّرات إلى السطح والعمل على حلّها. لا تؤدّي هذه الآليات إلى اختفاء التوتّرات، وإنما تخرجها إلى العلن من خلال فسح المجال أمام الموظفين لكي يناقشوا المكاسب والخسائر من تحقيق القيمة الاقتصادية وتحقيق القيمة الاجتماعية. توفّر هذه المداولات صمّام أمان قوي، وهي قادرة على تسريع التوصّل إلى حل فاعل.
لنأخذ حالة شركة "فيفراكتيف" (Vivractif)، وهي شركة فرنسية أخرى تنشط في مجال دمج الأفراد في سوق العمل. تأسّست الشركة عام 1993، وهي توظّف العاطلين عن العمل لفترة طويلة، وتدرّبهم في منشآت لإعادة التدوير. لا يتقابل غالباً المسؤولون عن تحقيق هذا النوع أو ذاك من الأهداف في الشركة وجهاً لوجه. ففي حين أنّ المشرفين على الإنتاج كانوا يديرون العمّال من أجل تحقيق مستهدفات إعادة التدوير، كان المرشدون الاجتماعيون توّاقين إلى إبعادهم عن أرض المعمل لتقديم المشورة لهم وتدريبهم على مهارات البحث عن عمل. حدّدت الشركة اجتماعات فصلية كل ثلاثة أشهر بين المجموعتين ليكون بمقدورهم مناقشة التقدّم الذي أحرزه كل مستفيد، ومناقشة مشاكل التنسيق. وقد أتاح التخطيط للعمل المشترك لكلتا المجموعتين أن تتبادلا المعلومات بخصوص مواعيد المهل النهائية الهامّة (مثل تواريخ التسليم المتعلقة بالنشاط التجاري أو التدريبات الاجتماعية)، وأن تعثرا على حلول مشتركة لحالات التضارب القائمة بين المواعيد. أسهم هذا الأمر في تحسين الإنتاجية، وعزّز الأهداف الاجتماعية للشركة.
يمكن للمساحات المخصّصة للتفاوض أن تكون ناجحة في الشركات الكبيرة أيضاً. ففي أحد البنوك المتعدّدة الجنسيات الذي يقع مكتبه الرئيس في أوروبا، لا يتّخذ صنّاع القرار الذين يمثّلون كل فرع من الفروع المحلية القرارات الاستراتيجية بصورة جماعية إلا بعد نقاشات مكرّرة، تكون خلالها مجموعات مختلفة من الموظفين مسؤولة عن الدفاع عن الأهداف الاجتماعية أو الأهداف المالية للمؤسسة. وعندما يتحدّث الأفراد صراحة عن المشاكل، تمنع أدوارهم الموكلة إليهم تحوّل التوترات إلى توتّرات شخصية.
تعيين الموظفين وتهيئتهم اجتماعياً
يحتاج ترسيخ التركيز على الغاية المزدوجة ضمن طبيعة المؤسسة إلى فريق عمل يمتلك رؤى، وسلوكيات، وغايات مشتركة. كما أنّ التوظيف والتهيئة الاجتماعية أمران أساسيان من أجل إنجاز العمل على أكمل وجه.
التوظيف:
يميل الموظفون في الشركات ذات الأهداف المزدوجة إلى النجاح عندما يفهمون الرسالة التجارية والاجتماعية ويشعرون بالارتباط بها. وقد رأينا شركات تحشد جهود هكذا أشخاص من خلال توظيف ثلاثة أنواع من الأشخاص، وهم: الهجين، والمتخصّص، وعديم الخبرة.
يكون الأفراد الهجينون مزوّدين بالتدريب أو الخبرة في حقلي القيمة التجارية والاجتماعية، مثل العلوم البيئية، والطب، والإرشاد الاجتماعي، وهكذا دواليك. وعادة ما يكون هؤلاء الأشخاص قادرين على فهم المشاكل الموجودة لدى كلا الفريقين، وقادرين أيضاً على التواصل مع الموظفين وغيرهم من الجهات المعنيّة من أصحاب أي من هذين التوجّهين.
من الأمثلة الجيّدة على ذلك جان فرانسوا كونان. كان كونا قد عُيّن في أواخر ثمانينيات القرن الماضي لدى شركة "أديكو" (Adecco)، وهي واحدة من كبريات مجموعات العمل المؤقت في العالم، لأنه كان حاصلاً على مؤهلات في الصيانة الصناعية والموارد البشرية، وكان يمتلك خبرة كمدرّس وموجّه للأطفال المعرّضين لخطر الانحراف. وقد وظّفته الشركة للمساعدة في معالجة مشكلة قائمة منذ أمد طويل، ألا وهي أنّ عدداً كبيراً من عمّالها المؤقتين كانوا يفتقرون إلى المؤهلات القوية. أدّى كونا دوراً بارزاً في بناء شركة ذات غرض مزدوج تابعة لأديكو تساعد الأشخاص العاطلين عن العمل منذ أمد بعيد في الدخول من جديد إلى سوق العمل من خلال تعيينهم في وظائف مؤقتة. سمحت له خلفيته بالتفاعل بسلاسة مع قادة "أديكو" وعملائها من الشركات، إضافة إلى الشركاء المحليين (مثل المنظمات غير الربحية المكرّسة لإرشاد الشباب) ومن يسعون إلى خدمتهم. وهو يشغل حالياً منصب رئيس قسم المسؤولية والابتكار الاجتماعي في الشركة.
لكنّ الموظفين الهجينين قد لا يكونوا متوفرين دائماً ، وقد لا يكونون دائماً الخيار الأنسب. غالباً ما تستعين الشركات ذات الغايات المزدوجة بأشخاص من أصحاب المواهب المتخصّصة، ممّا يسمح لها بالاستفادة من الخبرة العميقة والشبكات الموجودة في كلّ مجال. تكمن نقطة الضعف الأساسية لهذه المقاربة في أنّها قد تقود إلى حالة تنازع بين المجموعات، التي قد لا تفهم معايير ومفردات وعوائق المجموعة الأخرى، ولاسيما إذا كانت المؤسسة تفصل الأنشطة الاقتصادية عن الأنشطة الاجتماعية. ونتيجة لذلك، فإنّ التوترات وأعداد الموظفين الذين قد يتركوا العمل في هذه الشركات تميل إلى أن تكون أعلى مما هي عليه في الشركات ذات الهيكلية المتكاملة، الأمر الذي ينجم عنه تأثيرات سلبية على الإيرادات.
وللتخفيف من أثر ذلك في "ديماجي"، يشرح جاكسون أولوية الغاية الاجتماعية لمؤسسته في أوّل تواصل يجريه مع أي خبير يعتزم تعيينه (كمطوّر البرمجيات على سبيل المثال). وبعد التوظيف، يؤمّن الفرص للخبير لكي يتعرّف على الجانب الاجتماعي من خلال الأحاديث الرسمية، واللقاءات غير الرسمية في المكتب، بل وحتى العمل الميداني وجهاً لوجه في المجتمعات المحلية غير المخدومة على نحو كافٍ التي تعمل "ديماجي" معها. كما استعانت "فوكس كابيتال" بمدراء يمتلكون قدرات تقنية (مثل إدارة الصناديق) ويفتقرون إلى الخبرة للعمل في بيئة تركّز على أداء رسالة اجتماعية. مع ذلك، فإنها تجري فحصاً منهجياً لقدرات المتقدّمين على تبنّي الثقافة الهجينة للشركة والتكيّف معها.
عندما تعيّن الشركات أفراداً عديمي الخبرة في القطاعين التجاري والاجتماعي، فإنّها تضعهم في وظائف للمبتدئين وتساعدهم على اكتساب القيم والمهارات المزدوجة. تبنّت مؤسسة القروض الصغيرة البوليفية "لوس آنديس إس أيه كاجا دي آهورو ي بريستامو" (Los Andes S.A. Caja de Ahorro y Préstamo)، التي تأسست عام 1995، هذه المقاربة، حيث وظّفت خرّيجين جامعيين لا يمتلكون أي خبرة مهنية ليعملوا كموظفي قروض. كان المنطق وراء ذلك أنهم سيتبنّون الثقافة المؤسسية الهجينة بسهولة أكبر بالمقارنة مع الموظفين ذوي الباع الطويل. بطبيعة الحال، هذه المقاربة لها قيودها. فالاستعانة بموظفين عديمي الخبرة ضمن مؤسسة ما قد يخفّض من إنتاجيتها. كما أنّ ذلك يتطلّب قدراً كبيراً من الاستثمار في التدريب.
ورغم أنّ استراتيجيات التوظيف يجب أن تُكيّف وفقاً للاحتياجات المحدّدة لقسم الموارد البشرية، إلا أننا لاحظنا أنّ هؤلاء الموظفين الهجينين يكونون عادة مناسبين تماماً لشغل مناصب الإدارة والتنسيق. في حين يمكن للمتخصّصين أن يقدّموا إسهامات مفيدة من خلال خبرتهم في مناصب الإدارة الوسطى في الهياكل المؤسسية القائمة على التمايز. أمّا الموظفين عديمي الخبرة، فأفضل مكان لهم هو وظائف المبتدئين، والتي لا يشكل التدريب فيها تحدٍّ كبير.
التهيئة الاجتماعية:
بعد أن ينضمّ الموظفون إلى المؤسسة ويصبحوا جزءاً منها، يمكن لعملية التهيئة الاجتماعية أن تكون مضنية ومتعبة. فكل موظف بحاجة إلى أن يفهم الأهداف المالية والاجتماعية بشكل من الأشكال، وأن يقدّرها، وأن يصبح قادراً على الإسهام في تحقيقها.
قد تشمل الطرق الرسمية للتهيئة الاجتماعية إقامة مناسبات على مستوى الشركة، مثل التجمّعات والرحلات الترفيهية السنوية العامّة التي تُشرح خلالها الأهداف والقيم المزدوجة، وتُناقش، وتقوّم، وتوضع ضمن سياقها المناسب. كما أنّ التدريبات المخصّصة لأهداف معيّنة يمكن أن تذكّر الموظفين، لا سيما من يمتلكون تخصّصات في قطاع واحد فحسب، بمدى الترابط بين الأنشطة المدرّة للإيرادات وتلك التي تحقّق القيمة الاجتماعية. ويمكن لبرامج التعلم بالمراقبة والملاحظة وغيرها من أشكال التدريب التجريبي أن تسهم في التقريب بين المجموعات المختلفة خدمة لغاية محدّدة. في "فيفراكتيف"، يُمضي العاملون الاجتماعيون يوماً واحداً على الأقل كل عام إلى جانب المشرفين على أعمال التدوير، والعكس صحيح، بحيث يتمكن كل واحد منهم من التعرف على الشركة وتجديد معرفته بها من منظور الطرف الآخر.
ثمّة مثال آخر من شركة "أوفتالمولوجيا سالاونو" (Oftalmología salauno)، المكسيكية التي تَشَارَكَ في تأسيسها عام 2011 كل من خافيير أوخيوسين وكارلوس أوريلانا لتوفير رعاية بالبصر بجودة عالية وتكلفة منخفضة إلى الأشخاص غير القادرين على تحمّل تكاليفها. ورغم أنّ المؤسّسَين أدركا الترابط بين الأهداف الاقتصادية والأهداف الاجتماعية، إلا أنّهما لاحظا أنّ بعض الأطباء ركّزوا فقط على العناية بالمرضى، في حين أنّ بعض المدراء لم يهتمّوا إلا بالتكاليف. لذلك، صاغا مجموعة من القواعد والمبادئ الأساسية وعرضاها خلال جلسة تدريبية استمرّت نهاراً كاملاً وشملت جميع الموظفين، وأوضحت هذه القواعد مدى الترابط الكبير بين الجوانب المالية والاجتماعية للشركة، ومنحت الموظفين لغة مشتركة لمناقشة التوترات التي قد تطرأ بينهم. لجأ بعد ذلك أوخيوسين وأوريلانا إلى استعمال هذه الجلسات التدريبية كجزء من عملية تدريب الموظفين الجدد، وهما مستمرّان في تعزيز المحتوى التدريبي من خلال التفاعلات اليومية.
ويمكن للمساحات المخصّصة للتفاوض أن تمنح فرصاً غير رسمية قيّمة للتهيئة الاجتماعية. ففي "فوكس كابيتال"، توجد فسحة زمنية أسبوعية تسمح لأي شخص أن يطرح سؤالاً إذا شعر أنّ ممارسات الشركة لا تتوافق مع الرسالة والقيم المؤسسية، أو إذا كان يشهد مقايضات بين الأهداف المالية والأهداف الاجتماعية. ولم يتوانَ الموظفون عن طرح مواضيع شائكة. فقد سأل البعض ما إذا كانت محفظة استثماراتها تؤكّد بصورة كافية على الرسائل الاجتماعية للأقسام التجارية، في حين شكّك البعض فيما إذا كان نهج الشركة لجمع رؤوس الأموال أخلاقياً.
دفعت هذه الحوارات الشريك المؤسس دانيال إيزو إلى التفكير بمبادئ شركة "فوكس" بطريقة نقدية. يقول دانييل: "في بادئ الأمر قلت إنّ الأمر لا يهم طالما أنّ المستثمرين لا رأي لهم فيما نفعله. لكنّ أحد الأشخاص طرح السؤال التالي: "هل ستقبل أن يأتيك مستثمر من كبار تجّار المخدّرات؟" بالطبع لا. إذاً هناك حدّ فاصل. لكن أين نرسم هذا الحدّ؟ هل نقبل الأموال من شركات متورطة بفضائح فساد في البرازيل؟ أو من أبناء وبنات كبار التنفيذيين في تلك الشركات؟".
وعلى المنوال ذاته، يخصّص بيرناردو بونجيان، الذي أنشأ مؤسسة "أفانتى" (Avante) البرازيلية للقروض المصغرة في 2012، إفطاراً شهرياً يمكن للموظفين فيه أن يجتمعوا وأن يطرحوا عليه الأسئلة. كما أنّه يعرض الأفكار التي تدور في رأسه على شكل رسائل يبعث بها إلى الموظفين ويناقش بها كل شيء، من مؤشرات الأداء الرئيسة في الشركة إلى مخاوفه بخصوص التدفقّات النقدية في الأشهر المقبلة. ويضع أوخيوسين وأوريلانا ملصقات في كل غرفة من غرف الاجتماعات تُظهر مصفوفة تضمّ المبادئ الأساسية الأربعة التي تتبنّاها شركة "أوفتالمولوجيا سالاونو" ألا وهي الالتزام، والخدمة، والانتشار، والقيمة. يسمح لهما ذلك بالإشارة إلى هذه المبادئ عندما تطرح نقاط بحاجة إلى قرار، ممّا يدعم وجود لغة مشتركة بين الموظفين.
وبغية تشجيع الموظفين على طرح الأسئلة، من الأهمية بمكان إيجاد بيئة يشعر فيها الناس بالأمان تجاه فكرة طرح قضايا إشكالية. وعندما يلحظ الموظفون حصول تغيّرات في التفكير وفي العمليات نتيجة هذه النقاشات، فإنهم يعرفون أنّ ما يقولونه يحظى بالتقدير.
ليست المناسبات والحوارات هي الطرق الوحيدة لتهيئة الموظفين اجتماعياً. فالترقيات والتعويضات هامّة أيضاً. ففي البنك التعاوني المتعدّد الجنسيات المذكور أعلاه، تحتاج الترقية إلى منصب المدير العام لفرع محلي إلى التميّز في تطوير الأعمال، وتخفيض التكاليف، وتحقيق الأرباح، مع إبداء التزام واضح بالأهداف الاجتماعية للشركة والاستعداد للعمل بروح من التعاون. وقد علّق أحد المرشّحين للترقية قائلاً: "رأيت العديد من الأشخاص اللامعين يفشلون لأنهم لم يتبنّوا قيمنا بشكل كافٍ".
تستند العلاوات المقدّمة إلى الأفراد في "فوكس كابيتال"، حالها حال العديد من الشركات الأخرى التي درسناها، إلى الأداءين المالي والاجتماعي. وعلاوة على ذلك، يصرح إيزو أنّه لا يريد لحالة عدم المساواة الاقتصادية التي تحاول "فوكس" تداركها في البرازيل أن تتكرّر داخل الشركة ذاتها. لذلك فإنّ الفرق الأقصى بين الحدّين الأعلى والأدنى لرواتب الموظفين وعلاواتهم يقف عند سقف يبلغ 10 أضعاف (في الولايات المتّحدة الأميركية وفي عام 2017 بلغ متوسط نسبة راتب الرئيس التنفيذي إلى العامل 312 إلى 1، وفقاً لمعهد السياسات الاقتصادية). وتستعمل شركات أخرى، مثل "ريفوليوشن فودز" الملكية المشتركة لتحفيز الموظفين وزيادة التزامهم بالأداء المزدوج. وبوسع أي موظّف متفرّغ يعمل بدوام كامل أن يصبح مساهماً من خلال خيارات الأسهم. ويؤمن ريتشموند وتوبي أن تشارك الملكية مع الموظفين، الذين يعيش العديد منهم في المجتمعات المحلية ذات الدخل المنخفض التي تخدمها الشركة، هو جزء لا يتجزّأ من رسالتهما الاجتماعية.
ممارسة القيادة المبنيّة على ذهنية مزدوجة
يجب على القادة التعامل مع التوتّرات التي تظهر بلا محالة أثناء سيرهم على درب تحقيق الأهداف المزدوجة. وغالباً ما تشمل هذه التوترات المنافسة على الموارد والتفاوت في الآراء بخصوص كيفية تحقيق هذه الأهداف. يجب على القادة تأكيد كلا الجانبين المالي والاجتماعي، وتجسيدهما وحمايتهما، إضافة إلى معالجة التوتّرات بطريقة فاعلة واستباقية.
اتخاذ القرارات:
يجب على القرارات الاستراتيجية أن تجسّد الأهداف المزدوجة. وفي حين أنّ الأهداف تعكس الطموحات، إلا إنّ القرارات تعتبر بمثابة برهان حقيقي على مدى التزام القادة بتحقيق الأهداف المحدّدة. ومن الأمثلة الجيّدة على ذلك تجربة كل من فرانسوا غيزلان موريلون وسيباستيان كوب.
أنشأ مورليو وكوب شركة "فيجا" (Veja) في 2004 لبيع الأحذية الرياضية المصنّعة ضمن ظروف عادلة تجارياً وصديقة للبيئة في تعاونيات صغيرة في البرازيل. وعندما أدركا أنّ الإعلانات تشكّل 70% من تكلفة الأحذية الرياضية التي تبيعها العلامات التجارية الرئيسة المعتادة، اتّخذا قراراً جريئاً بعدم الإعلان على الإطلاق. سمح لهما ذلك ببيع الأحذية الرياضية بسعر مشابه للسعر الذي يطلبه منافسوهما الكبار رغم أنّ تكاليف الإنتاج لديهما كانت تتراوح ما بين خمسة إلى سبعة أضعاف. ولكي تعوّض الشركة غياب الإعلانات التقليدية، أبرمت شراكة استراتيجية مع علامات تجارية فاخرة مثل "آغنيه بي" (agnès b.) و"ميدويل" (Madewell)، ومتاجر من قبيل "غاليري لافاييت" (Galeries Lafayette) لزيادة الظهور الإعلامي، وتنمية المبيعات، والتحوّل إلى تحقيق الأرباح.
في البداية، كان عملاء "فيجا" – من أصحاب متاجر التجزئة المتخصّصة ببيع الأحذية التي اعتادت التسويق للعلامات التجارية الرئيسة للأحذية الرياضية – متشكّكين. لذلك درّبت "فيجا" مندوبي المبيعات على كيفية تعريفهم بمنافع منتجاتها بالنسبة للناس والبيئة. ينظر العملاء ووسائل الإعلام الآن إلى قرار الشركة بعدم وضع أي إعلانات على أنّه برهان على التزام المؤسسين بأهدافهم الاجتماعية. الأمر الذي يعطي الشركة في نهاية المطاف الأثر الاجتماعي، ويجعلها قادرة على تحقيق الأرباح في الوقت ذاته.
كما قرّر موريلو وكوب أيضاً إبطاء نمو الشركة، على الرغم من تزايد الطلب من المستهلكين في الولايات المتّحدة الأميركية. فقد رفضا تخفيض معاييرهما الخاصّة بالتجارة العادلة والبيئة في سبيل بيع المزيد من الأحذية. وقرّرا عوضاً عن ذلك وضع مستهدفات للإنتاج تتماشى مع قدرة شركائهما في التجارة العادلة، مع العمل بشكل وثيق معهم لزيادة تلك القدرة، وضمان الوصول إلى معدّل نمو يتماشى والاستدامة المالية. أظهر ذلك القرار، للموظفين تحديداً، مدى الالتزام الحقيقي الموجود لدى قادة الشركة بأهدافهما المزدوجة. وبما أنّ الشريكين المؤسسين اتخذا قرارات جريئة، فإنّ كليهما شدّدا بذلك على أولويات الشركة وأوجدا الظروف التي تسمح بتحقيقها. كما أظهرا أنّ بالإمكان تجنّب واحد من أكثر الفخاخ شيوعاً التي تقع بها الشركات ذات الغرض المزدوج، ألا وهو إعطاء الأولوية للأرباح على حساب المجتمع عند الخضوع للضغوط.
اتّخذت "فيجا" قراراً جريئاً بعدم الإعلان على الإطلاق. وقد سمح لها ذلك ببيع الأحذية الرياضية بسعر يقارب السعر الذي كان يتقاضاه منافسوها الكبار رغم أنّ تكاليف الإنتاج لديها كانت تتراوح ما بين خمسة إلى سبعة أضعاف.
يُعتبرُ تقسيم الأرباح مجالاً آخر هامّاً بالنسبة لعملية صنع القرار. إذ يمكن وضع سقف لتوزيعات الأرباح لضمان عدم طغيان الأهداف المالية على الأهداف الاجتماعية. فعندما أسّس أوخيوسين وأوريلانا شركة "أوفتالمولوجيا سالاونو" تعهّدا بإعادة استثمار 100% من أرباحهما لمدّة سبع سنوات على الأقل، لذلك فإن المستثمرين الذين اختاروهما، وهم صندوق للاستثمار المؤثر، والبنك الدولي، وصندوق لإدارة الثروات الخاصّة، كانوا يعلمون أنّ الشركة لن تدفع توزيعات أرباح خلال تلك الفترة. يشرح أوخيوسين الأمر قائلاً: "يتوقّع مستثمرونا في نهاية المطاف تحقيق عوائد مالية واجتماعية على رأسمالهم. لكنّ التوافق بيننا بخصوص إعادة استثمار الأرباح بهدف تحسين شبكتنا من عيادات طب العيون وتنميتها ساعد في ضمان عدم سيطرة الأهداف المالية على غايتنا الاجتماعية".
إشراك مجلس الإدارة:
في الشركات الهجينة الناجحة، يُعتبر أعضاء مجلس الإدارة بمثابة أوصياء على الغاية المزدوجة. وبالتالي، يجب أن يُظهروا وبشكل جماعي مزيجاً من الخبرات التجارية والاجتماعية. لذلك، فإنّ التنوّع في مجلس الإدارة هو أمر في غاية الأهمية لتوجيه عناية الشركة نحو الأهداف الاجتماعية والمالية على حدّ سواء. ومع ذلك فإنّه يزيد من خطر حصول نزاع، لأنّ الأعضاء الذين يحملون آراءً مختلفة أميل إلى الاختلاف بشأن الأسلوب الأفضل للتنفيذ. وقد رأينا بعض الشركات التي مرّت بأزمات حوكمة أوصلتها إلى حالة من شبه الشلل عندما يحصل اختلاف قوي في الآراء بين أعضاء مجلس إدارة ذوي توجّهات اجتماعية واقتصادية ويتمتّعون بمستويات متساوية من النفوذ.
ومع ذلك فقد تمكّنت شركات أخرى من تجنّب هذه الأزمات بسبب وجود رئيس أو مدير تنفيذي يعمل بطريقة منهجية على جَسْرِ الهوّة بين المجموعتين. فقد مكّن القادة هاتين المجموعتين من التوصّل إلى تفاهم مشترك من خلال تعزيز التواصل والتبادل المتواصل للمعلومات بين الطرفين. هل تذكرون الشركة التابعة التي أنشأها جان فرانسوا كونان في "أديكو"؟ لقد دعا ممثلين من مؤسسات محلية بارزة غير ربحية للانضمام إلى مجلس الإدارة بصفة أقلية مساهمين، الأمر الذي مكّن الشركة من الاستفادة من خبراتهم الاجتماعية، وشبكاتهم، ومشروعيتهم. وساعد في حماية الرسالة الاجتماعية للشركة. لقد أسهمت الخبرة الهجينة التي كان يتمتّع بها كونا برأب الصدع بين المجموعتين من أعضاء مجلس الإدارة، ممّا عزّز الأرضية المشتركة من خلال تذكير كل مجموعة منهما باستمرار بأهمية المجموعة الأخرى.
خاتمة
تقع بعض العوائق الرئيسة الموجودة في درب التنظيم المبني على الذهنية المزدوجة خارج نطاق سيطرة الشركة. أحد هذه العوائق الأساسية هو أن منظومة الأعمال ما زالت مصمّمة بطريقة تعطي الأولوية لتكوين المزيد من الثروة للمساهمين. وقد اتّخذت "المبادرة العالمية للتقارير"، و"هيئة المعايير المحاسبية للاستدامة"، و"بي لاب" خطوات للتغلّب على بعض من هذه العوائق. فقد وضعت كل واحدة منها مقاييس لتتبّع أثر الشركات على حياة موظفيها، وزبائنها، والمجتمعات التي تخدمها، والبيئة، لتعطي بذلك المؤسسات أسساً للمقارنة ونقاط إرشاد يُهتدى بها. لذلك فإنّ ما على المحك هو ضمان ألا تلجأ الشركات إلى أسلوب انتقائي في اختيار المجالات الاجتماعية التي تركّز عليها اعتماداً على ما هو مريح بالنسبة لها.
لكنّ وكالات التصنيف ما هي إلا جزء من المنظومة. ورغم أنّ هناك الكثير من التغييرات الجارية – مثل منح وضع قانوني لشركات النفع العام في الولايات المتّحدة الأميركية، والشركات ذات الاهتمامات المجتمعية في المملكة المتّحدة، وجمعيات النفع العام في إيطاليا – إلا أنّ التشريعات، والمعايير التعليمية، والنماذج الاستثمارية، والمقاييس التي تحكم إنتاج القيمة الاقتصادية والقيمة الاجتماعية ما تزال إلى حد كبير متمايزة عن بعضها البعض. وحيث أنّ هناك عدداً متزايداً من الشركات المنخرطة في التنظيم الهجين، فإنّ الأنظمة التي تدعم قطاع الأعمال بحاجة إلى تغيير.
لكنّ تغيير المؤسسات والمنظومة التي تحيط بها مهمّة صعبة. ويجب على الشركات أن تحارب الجمود الموجود في الطرق المتأصّلة في التفكير والسلوك. لا شكّ أن المقايضات والتوتّرات أمر حتمي، واحتمال النجاح يزداد عندما يتعامل القادة مع هذه المقايضات والتوتّرات بشكل صريح ومباشر. ونحن عرضنا في هذه المقالة لأربع روافع الغاية منها أن تساعد وأن تكون مفيدة.