تمثل مجمعات الأعمال محركاً حيوياً وديناميكياً للتنمية الاقتصادية، فهي ليست تجمعات جغرافية للشركات وقطاعات الأعمال المترابطة فحسب بل هي منظومات متكاملة تحفز الابتكار والأداء التنافسي. ونستكشف في هذا المقال إمكانات مجمعات الأعمال في دولة الإمارات العربية المتحدة ومنطقة دول مجلس التعاون الخليجي على نطاق أوسع.
تتكامل المراكز والمجمّعات الاقتصادية في أدوارها ورؤاها على نحو وثيق مع الاستراتيجيات المالية الوطنية، ولا سيّما في دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ تبنّت الدولة منذ وقت طويل نهج تأسيس مجمعات الأعمال في إطار مساعيها لتنويع مواردها وإيراداتها خارج قطاعي النفط والإنشاءات. ونجحت دولة الإمارات في تعزيز إسهام نحو 20 قطاعاً فرعياً أساسياً في الناتج المحلي الإجمالي والتوظيف، بدءاً من النفط والعقارات وصولاً إلى القطاعات الناشئة في مجال الأدوية وتصنيع الأغذية. وتتمتع هذه القطاعات بسجل حافل للاستثمار وبمسار مثير للإعجاب لإمكانات التصدير، وتمثّل محركات متنوعة لتحفيز النمو الاقتصادي وتنمية منظومات الأعمال في دولة الإمارات العربية المتحدة.
ومع ذلك، فإن الجوهر الحقيقي للإمكانات التي تتمتع بها مجمّعات الأعمال يمتد إلى ما هو أبعد من المقاييس الاقتصادية الأساسية ليشمل العوامل النوعية التي تعزز النمو التنافسي. وينعكس التزام دولة الإمارات العربية المتحدة بتطوير مجمعات الأعمال في نهجها المنظّم لتحديد وخلق البيئة والظروف المواتية التي تدعم المجمعات الناجحة، ومن أمثلة ذلك: الطلبان المحلي والعالمي القويان، وقاعدة العرض التنافسية والمقومات الرئيسة مثل رأس المال والمواهب، فضلاً عن الأطر التنظيمية الداعمة.
حالة استخدام لمجمعات الأعمال
أثبتت مجمعات الأعمال نجاحها في دعم النمو الاقتصادي في جميع أنحاء العالم. وتُعد مجمعات الأعمال في إقليم الباسك في إسبانيا مثالاً مميزاً جديراً بالذكر هنا. من خلال إنشاء مجمعات أعمال في قطاعات مثل الطاقة والطيران والتصنيع المتقدم، تمكنت منطقة الباسك من زيادة ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 3.3% سنوياً، ما أدى إلى زيادة الإنتاجية بنسبة 10% وخلق أكثر من 100 ألف فرصة عمل. ويُعد مجمع بيوبوليس للأعمال في سنغافورة مثالاً متميزاً آخر فقد أسهم في توفير أكثر من 14 ألف فرصة عمل منذ عام 2003 وتحقيق أكثر من 5 مليارات دولار من القيمة المضافة للاقتصاد المحلي.
ومن خلال تبنّي استراتيجية تتسم بالجرأة والابتكار كما هو معتاد في نهج دولة الإمارات خلال السنوات الماضية، يمكن للدولة ترسيخ مكانتها الريادية، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية، وتسريع وتيرة الابتكار، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وخلق فرص عمل جديدة.
ومع إدراكها الواضح لقربها من اقتصادات تُقدم تكاليف إنتاج أقل، تشهد دولة الإمارات تحولاً ملحوظاً نحو أنشطة الأعمال التي تنطوي على قيمة مضافة أعلى مدفوعة بالمعرفة. وفي الوقت نفسه، يُنظر إلى المنطقة على أنها مليئة بالفرص، حيث يُستغَل موقعها الجغرافي الاستراتيجي لما يمثله من حلقة وصل لطرق التجارة الرئيسة، فضلاً عن نسيجها الاقتصادي المتنوع ونهجها الاستباقي لتنمية مهارات مواردها البشرية وتكوين مجمّعات ومراكز أعمال ناجحة.
الإمارات العربية المتحدة مركزاً للتمويل والتكنولوجيا المالية
تعمل دولة الإمارات العربية المتحدة على تحويل تركيزها من القطاعات التقليدية إلى اقتصاد قائم على المعرفة. وقد خطت الدولة خطوات كبيرة نحو ترسيخ مكانتها لتكون مركزاً رائداً للتمويل والتقنيات المالية. وتتوافق استراتيجيتها المالية على نحو وثيق مع أهداف المجمعات الاقتصادية، الأمر الذي من شأنه تعزيز الابتكار والارتقاء بالأداء التنافسي. وتضم دولة الإمارات أكثر من 650 شركة في مجال التقنيات المالية، وتهدف إلى أن تصبح من بين أفضل خمسة مراكز عالمية للتقنيات المالية.
وتركز الاستراتيجية في المقام الأول على فهم طلب السوق وتلبيته، وتعزيز القدرة التنافسية للقطاعات الداعمة، وضمان توافر المقومات الأساسية مثل رأس المال والمواهب، إضافة إلى خلق بيئة تنظيمية مواتية تضمن نمو منظومات الأعمال وازدهارها.
وتتميز رؤية دولة الإمارات العربية المتحدة واستراتيجيتها في تطوير مجمّعات الأعمال بأنها تشمل قطاعات قائمة وناشئة. ويوازن هذا النهج الاستراتيجي بين الحاجة إلى تحقيق مكاسب اقتصادية فورية والسعي إلى تحقيق نمو مستدام طويل الأجل. ويُعد سوق أبوظبي العالمي ومركز دبي المالي العالمي ركيزتين أساسيتين في تنفيذ هذه الاستراتيجية. وتبذل هذه المناطق المالية الحرة البارزة جهوداً حثيثة لدعم قطاع التقنيات المالية المزدهر في الدولة وتعزيزه. وتقدّم مبادرات مثل برنامج "فينتك هايف في مركز دبي المالي العالمي" وصندوق التكنولوجيا المالية الذي أطلقه مركز دبي المالي العالمي بقيمة 100 مليون دولار أميركي ومبادرة المختبر التنظيمي لسوق أبوظبي العالمي "ريغ لاب فينتيك ساندبوكس" وبرنامج "بلغ آند بلاي" لمسرعات الأعمال في سوق أبوظبي العالمي أمثلة على تلك الإسهامات الكبيرة. واستكمالاً لهذه الجهود، أنشأت دولة الإمارات العربية المتحدة أكثر من 40 منطقة اقتصادية خاصة. وتتخطى هذه المناطق في رؤيتها وأهدافها المنظومات المتخصصة، إذ تعمل على تزويد الشركات بالبنية التحتية الأساسية والأطر التنظيمية الشاملة وخدمات الدعم، بما يضمن خلق بيئة مواتية لدعم نمو الأعمال وتحفيز الابتكار.
وتبشّر الرؤى الاستراتيجية التي تركز على تأسيس مجمعات الأعمال وتطويرها في دولة الإمارات العربية المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي بعصر جديد من التنمية الاقتصادية. ومن المتوقع أن يتسم هذا العصر بمزيد من الابتكار والتنويع والنمو المستدام. ومع استمرار المنطقة في الاستفادة من مبادراتها الاستراتيجية، يبرز نهج تطوير مجمعات ومراكز الأعمال بوصفه استراتيجية أثبتت نجاحها في تعزيز التحول الاقتصادي. وبالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي عموماً، يُعد هذا النهج أكثر من مجرد ضرورة اقتصادية؛ بل هو مسار مليء بالرؤى من شأنه تعزيز مكانتها نظراً لأنها دول محورية على الساحة الاقتصادية العالمية مستقبلاً.