تحفيز الموظفين: نموذج جديد متين

14 دقيقة

يُعد جعل الأفراد يقدمون أفضل ما لديهم خلال العمل – حتى تحت أقسى الظروف – من أصعب التحديات التي تواجه المدراء وأكثرها استدامة على مر الزمن. والواقع أنّ فك طلاسم ما يحفزنا بما أننا بشر كان ولا يزال بمثابة أحجية لدهور خلت. وقد اجتهد عدد من أشهر المفكرين المؤثّرين تاريخياً في مجال السلوك البشري، مثل أرسطو وآدم سميث وسيغموند فرويد وأبراهام ماسلو، لفهم الدقائق التي تكتنفه وتركوا لنا تراثاً زاخراً تعلمنا منه السبب الذي يدفع الأفراد لأداء ما يؤدونه من أفعال. 

غير أن أولئك اللامعين لم يحظوا بميزة المعرفة المستقاة من علم الدماغ الحديث. فعلى الرغم من اعتماد نظرياتهم على التقصي الدقيق والتفحص المتوازن، إلا أنها لم تخرج عن إطار المراقبة المباشرة. تخيل محاولة استنتاج الطريقة التي تعمل بها السيارة اكتفاء بتفقد حركاتها (التشغيل، التوقف، التسارع، الاستدارة) دون أن تتاح لك الفرصة لتفكيك المحرك.

ولحسن الحظ، فقد فتحت لنا الأبحاث الجديدة العابرة للتخصصات في مجالات مثل علم الأعصاب وعلم الأحياء وعلم النفس النشوئي باباً لاختلاس النظر عن قرب وبتعمق أكبر، ما جعلنا قادرين على اكتساب مزيد من المعرفة حول الدماغ البشري. فكانت حصيلة تجميعنا الاستقرائي لتلك الأبحاث أن وصلنا إلى نتيجة مفادها أن هناك أربع حاجات أو دوافع عاطفية أساسية تقود وتحدد سلوك الأفراد، وهي نابعة في أصلها من تراثنا النشوئي المشترك. وكما قررها بول لورانس ونيتين نوريا في كتابهما الصادر عام 2002 "الدوافع: كيف تشكل الطبيعة البشرية خياراتنا" (Driven: How Human Nature Shapes Our Choices)، فإن تلك الحاجات تتضمن دوافع التملك (حيازة الأشياء النادرة، بما فيها الأمور غير المحسوسة مثل المكانة الاجتماعية)، ودوافع الارتباط (تكوين الصلات مع الأفراد والجماعات)، ودوافع الاستيعاب (إشباع فضولنا والشعور بالسيطرة على العالم من حولنا)، ودوافع التصدي (توفير الحماية ضد الأخطار الخارجية وتعزيز العدالة). إذ تكمن هذه الدوافع الأربعة خلف كل ما نقوم به. 

وعلى المدراء الذين يعملون جاهدين لتعزيز التحفيز أن يحيطوا علماً أنه من الصعب منازعة الحكمة التالية التي تحظى بالقبول وتدعمها البراهين التجريبية والتي تفيد بأن القوى العاملة المحفزة تعني أداء مؤسسياً أفضل. لكن ما هي الأفعال التي يمكن للمدراء اتخاذها بالتحديد لتلبية الدوافع الأربعة بما يؤدي إلى زيادة مجمل التحفيز الذي يستشعره موظفوهم؟

أتممنا مؤخراً دراستين كبيرتين كان هدفهما الحصول على إجابة لهذا التساؤل. إذ شملت الدراسة الأولى استبانة غطت 385 موظفاً في شركتين عالميتين، إحداهما عملاق في مجال الخدمات المالية وثانيهما شركة خدمات رائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات. أما الدراسة الثانية، فقد ضمت الاستبانة فيها موظفين من 300 شركة مصنفة ضمن قائمة فورتشن 500. ولتعريف التحفيز بشكل إجمالي، فقد ركزنا على أربعة مؤشرات له يشيع استخدامها في مكان العمل عند قياسه، وهي: الانخراط والرضا والالتزام والنية لترك العمل (الحالي). إذ يمثل الانخراط ما يضفيه الموظفون إلى وظائفهم من طاقة وجهد وحس مبادر. أما الرضا فهو يعكس المدى الذي يبلغه شعور الموظفين حول مواكبة الشركة لتطلعاتهم في العمل ومدى التزامها بتعاقدتها الصريحة والضمنية معهم. ويأتي الالتزام ليقيس مقدار انخراط الموظفين بالمواطنة المؤسسية. وأخيراً فالنية لترك العمل هي خير دليل على تقلب الموظفين في مناصبهم.

وقد أظهرت الدراستان بصورة لافتة كيف تُشكل قدرة المؤسسة – في المتوسط – على تلبية الدوافع الأربعة الأساسية حوالي 60% من تباينات الموظفين على صعيد مؤشرات التحفيز (شكلت النماذج السابقة حوالي 30%). كما وجدنا أن هناك دوافع معينة تؤثر على بعض مؤشرات التحفيز أكثر من سواها. على سبيل المثال، لتلبية دافع الارتباط الأثر الأكبر على التزام الموظف، بينما يرتبط تحقيق دافع الاستيعاب بصورة أوثق مع انخراط الموظف في عمله. إلا أن أفضل طريقة يمكن لأي شركة اتباعها لتحسين إجمالي نتائج التحفيز تتمثل في تلبية جميع الدوافع الأربعة بانسجام وتوافق. فتلك الدوافع مجتمعة تفوق في حجمها وقيمتها مجموع أجزائها متفرقة، بمعنى أن أي أداء ضعيف في إحداها سيُضعف بشدة أثر النتائج العالية التي تم إحرازها في الثلاثة الأخرى. 

فإذا انصرفنا إلى تعداد الآثار العملية لتصرفات المدراء، فعواقب إهمال أي من تلك الدوافع تبدو واضحة للعيان. فالأداء الرديء لشخص مثل بوب نارديلي في قيادة هوم ديبوت (Home Depot) يمكن إرجاعه بشكل جزئي إلى تركيزه غير المتهاود على دافع التملك على حساب باقي الدوافع. فبتأكيده المتمحور حول الأداء الفردي وأداء كل مخزن، حطّم بوب روح العلاقة الحميمة بين الموظفين (دافعهم إلى الارتباط) وهشّم حرصهم على تحصيل الخبرة الفنية (التي تعبر عن حاجتهم إلى الاستيعاب وأداء عمل ذي معنى). كما صنع بتصرفاته – بحسب ما تم نقله – بيئة عدائية تقاطعت في طبيعتها مع دافع التصدي: إذ لم يعد الموظفون شاعرين بالعدالة في أسلوب التعامل معهم. وحين ترك نارديلي الشركة، لم يكن أداء سعر سهم هوم ديبوت أفضل حالاً مما كان عند انضمامه إليها قبل ست سنوات. وفي غضون ذلك، فقد ربح منافس مباشر يدعى "لوز" (Lowe’s) مزيداً من الحصة السوقية عبر مقاربة شمولية انتهجها لتلبية الحاجات العاطفية لموظفيه من خلال نظام المكافآت، وثقافة الشركة، وأنظمة الإدارة، وتصميم الوظائف. 

وكما ينبغي للمؤسسة ككل أن تراعي الدوافع العاطفية الأساسية الأربعة، فكذلك يقع على عاتق المدراء الأمر ذاته بصفتهم الفردية. ومهما مثلت التقاليد المؤسسية عائقاً أمام المدراء نحو مراعاة ذلك، فالموظفون أذكياء بصورة كافية ليدركوا أن لدى مدرائهم المباشرين فسحة للمناورة. والواقع أن بحثنا أظهر أن للمدراء أثراً في إجمالي التحفيز يعادل في مفعوله أثر أي سياسة مؤسسية. وسوف نسلط الضوء في مقالنا هذا بشيء من التفصيل على الدوافع الأربعة لتحفيز الموظفين، والروافع التي يمكن للمدراء توظيفها في هذا الإطار، إضافة إلى الاستراتيجيات "المحلية" التي يمكن لها تعزيز التحفيز رغماً عن العوائق المؤسسية القائمة. 

الدوافع الأربعة الكامنة وراء التحفيز 

بسبب الارتباط الوثيق بين هذه الدوافع الأربعة وآلية عمل أدمغتنا، تتأثر عواطفنا بصورة مباشرة بمقدار تلبية كل منها، وعلى إثر ذلك يتبعها سلوكنا. لنلق نظرة على كل واحد منها لنفهم كيفية عمله. 

  1. دافع التملك

جميعنا نستشعر ذلك الدافع في نفوسنا إلى تملك البضائع النادرة التي تغذي إحساسنا بالعافية والصحة. فتتملكنا الفرحة عندما نلبي نداء هذا الدافع، ونعاني السخط حين نفشل في ري عطشنا منه. ولا ينحصر انطباق هذه الظاهرة في الأمور المحسوسة الملموسة كالطعام والثياب والمأوى والمال، بل يتعداها إلى تجاربنا مع السفر والترفيه – غير متناسين ما يطرأ علينا من أحداث تحسن في مستوانا الاجتماعي مثل الحصول على ترقية وامتلاك مكتب فخم في الزاوية أو مقعد في مجلس إدارة الشركة. ويميل هذا الدافع لأن يكون نسبياً (فترانا دائماً نقارن ما بين أيدينا بما عند غيرنا) وغير قابل للارتواء (فنحن نطلب المزيد منه دوماً). وهو ما يفسر عدم اكتفاء الأفراد بمعرفة حزمة الراتب الخاصة بهم وامتداد عيونهم إلى معرفة ما يحصل عليه أقرانهم. كما يضيف ذلك إشارة تفسر صعوبة وضع حد أعلى للرواتب في المؤسسات. 

  1. دافع الارتباط

يقتصر ارتباط الكثير من الحيوانات على والديها أو جماعة قرابتها أو القبيلة التي تنتمي إليها، بينما يتميز البشر عن غيرهم بامتداد وشائجهم إلى مجاميع أكبر كالمؤسسات والروابط والقوميات. وعادة ما يرتبط تحقيق دافع الارتباط بالعواطف الإيجابية كالمحبة والاهتمام، في حين يرتبط فقد هذا الدافع بالعواطف السلبية كالوحدة والشذوذ عن المجموع. أما في العمل، فيمكن إرجاع النمو الهائل في التحفيز إلى دافع الاتباط عندما يشعر الموظفون بالفخر لانتمائهم إلى المؤسسة، وكذلك الأمر في سقوط معنوياتهم حين تخدعهم الشركات التي يعملون فيها. وذلك يفسر ما يقاسيه الموظفون للخروج من عزلة التقسيمات الإدارية والوظيفية في شركاتهم: إذ يغدو الأفراد أشد التصاقاً بالمجموعات التي ينتمون إليها. ومع ذلك، فهذا لا ينفي حقيقة أن القدرة على الانتماء للمجاميع الأكبر قد تقود الموظفين أحياناً إلى الاعتناء بمصلحة المؤسسة ككل أكثر من التقسيمات أو الفرق الجزئية التي ينتمون إليها في إطار ذات الشركة.  

  1. دافع الاستيعاب

لدينا رغبة جامحة في فهم العالم المحيط بنا، ولتركيب النظريات وإنشاء التفسيرات – العلمية والدينية والثقافية – التي تجعل الأحداث قابلة للاستيعاب وتطرح عدداً من الأفعال والردود المنطقية إزاءها. يتملكنا الإحباط حين تبدو الأمور مبهمة غامضة، ونشعر بالنشاط عادة إذا ما واجهنا تحدياً لمحاولة فك رموزها ومعرفة أسرارها. وفي مكان العمل، يتمثل دافع الاستيعاب في الرغبة في تقديم إسهام ذي معنى. فيتحفز الموظفون حين تطرح وظائفهم تحديات عليهم التغلب عليها وحين تمكنهم من النمو والتعلم، وتغور معنوياتهم إذا كانت وظائفهم رتيبة كئيبة أو تقود إلى نهاية لا معنى لها. والغالب في الموظفين الموهوبين أنهم يتركون شركاتهم بحثاً عن تحديات جديدة في مكان آخر إذا ما شعروا بأنفسهم محاصرين في وظائفهم التي يعملون فيها. 

  1. دافع التصدي

من الطبيعي لنا جميعاً أن ندافع عن أنفسنا وممتلكاتنا وإنجازاتنا، وعن أُسرنا وأصدقائنا، وعن أفكارنا ومعتقداتنا في مواجهة أي أخطار خارجية محدقة بهم. وتعود جذور هذا الدافع إلى الرد الغريزي "قاتل أو اهرب" الذي نتشارك فيه مع سائر الحيوانات. إلا أن هذا الدافع لا ينحصر في البشر على هيئة سلوك عدواني أو دفاعي، بل يتعداه إلى سعيهم لإنشاء مؤسسات تدعم الحرية، وتمتلك أهدافاً وغايات واضحة، وتسمح للناس بالتعبير عن أفكارهم وآرائهم. وتعطي تلبية دافع التصدي شعوراً بالأمان والثقة، فيما يولد افتقاده عواطف سلبية عارمة كالخوف والضغينة. كما يشرح هذا الدافع الكثير حول مقاومة الأفراد للتغيير، وهو أحد الأسباب التي قد تقود الموظفين إلى الإحساس بالجزع الشديد عند احتمال دخول شركتهم في عملية اندماج أو استحواذ مع شركة أخرى – وهو تغيير بالغ الأهمية – حتى إذا كان ذلك الاتفاق يمثل طوق النجاة الأخير الذي سيحفظ المؤسسة من الغرق. على سبيل المثال، قد تسمع في يوم ما ثناء عليك بأنك من أصحاب الأداء العالي وأنه لا غنى عنك لنجاح الشركة، ثم يصلك في اليوم التالي خبر الاستغناء عن خدماتك بسبب إعادة الهيكلة، وهو تحد مباشر – بكل ما فيه من مفاجأة وإبهام وتغيير – لدافع التصدي في نفسك. وبهذا لا يبدو غريباً حين يعمد صائدو المواهب إلى استهداف الموظفين (بعروض العمل) خلال تلك الفترات الانتقالية، لما يعلمونه من شعور الموظفين بانهيار دفاعاتهم وأنهم باتوا تحت رحمة مدراء يتخذون قرارات الإبقاء على الموظفين أو الاستغناء عنهم بشكل عشوائي في الظاهر. 

يتمتع كل دافع من تلك الدوافع الأربعة التي وصفناها سابقاً باستقلاليته عن سواه، فلا يمكن ترتيب الدوافع من حيث الأهمية، ولا الاستعاضة بأحدها عن الآخر. إذ ليس من الممكن أن تدفع لموظفيك رواتب عالية ثم تأمل أن تجد منهم حماسة كبيرة تجاه أعمالهم في مؤسسة لا يُحتضن فيها الارتباط، أو تبدو أعمالها دون معنى، أو يعاني أفرادها من غياب الأمان. وليس كافياً أن تُعين موظفيك على الارتباط كالجسد الواحد في حين أنهم يتقاضون ما لا يسد الرمق أو يكدحون في وظائف مملة إلى حد السقم. وهذا لا يعني أنك لن تتمكن من قسر الأفراد على العمل تحت هكذا ظروف – فقد يكونون بحاجة إلى المال أو لا يملكون بدائل في الوقت الراهن – لكنك لن تأخذ أحسن ما عندهم، وسوف تخاطر بفقدانهم جميعاً بمجرد ظهور أي فرصة أفضل. وبالتالي، لتحفيز الموظفين إلى أبعد مدى، فلا بد من الاهتمام بالدوافع الأربعة جميعاً. 

الروافع المؤسسية للتحفيز

على الرغم من محورية تلبية كل من تلك الدوافع العاطفية الأساسية للموظفين في أي مؤسسة، فإن بحثنا يشير إلى أن كل دافع يمكن تحقيقه بشكل أفضل عبر رافعة مؤسسية محددة.

نظام المكافآت

يمكن تلبية دافع التملك بأسهل السبل عبر نظام المكافآت الخاص بالمؤسسة، بما يحويه من فاعلية في التفريق بين المتميزين في أدائهم والمقصرين فيه، وبربطه المكافآت بالأداء، وبفتحه أبواب التقدم والنمو لأفضل الأفراد. عندما استحوذ البنك الملكي الاسكتلندي (Royal Bank of Scotland) على نات ويست (NatWest)، كان في الواقع يرث شركة يقوم نظام المكافآت فيها على المحسوبيات والمكانة والأقدمية. فأنفذ البنك الملكي الاسكتلندي نظاماً جديداً يُحمّل المدراء المسؤولية عن تحقيق أهداف معينة ويكافيء الأداء الجيد الذي يتجاوز المعدل. فما كان من منسوبي نات ويست السابقين إلا أن احتضنوا شركتهم الجديدة – إلى حد غير اعتيادي بعد حصول الاستحواذ – بما يمكن أن يُعزى جزئياً إلى صرامة نظام المكافآت الجديد عدا عن تقدير هذا النظام للإنجاز الفردي.

مثال آخر يأتينا من شركة "سونوكو" (Sonoco) المتخصصة في حلول التوضيب للمنتجات الصناعية والاستهلاكية، والتي استطاعت القيام بتحول على مستوى المؤسسة مثلت الجهود المنسقة لتلبية دافع التملك جزءاً لا يتجزأ منه. إذ بادرت إلى إنشاء علاقات واضحة جداً بين الأداء والمكافآت. تاريخياً كان للشركة أهداف موضوعة في مجال الأداء التجاري، غير أن الحوافز لم تقم بدورها في المكافأة على تحقيقها. وفي عام 1995، وتحت قيادة سينثيا هارتلي التي تولت حديثاً منصب نائب الرئيس في الموارد البشرية، وضعت سونوكو نظام الدفع بحسب الأداء "pay-for-performance" بناء على مقاييس فردية وجماعية. فارتفع رضا الموظفين وانخراطهم في العمل كما أشارت نتائج استبيان دوري داخلي. وفي عام 2005، برز اسم سونوكو على قائمة هويت أسوشيتس (Hewitt Associates) كواحدة من أفضل 20 مؤسسة في الولايات المتحدة في إدارة المواهب. وبهذا صارت واحدة من الشركات الوسطى القليلة التي حفلت بها قائمة ضمت لاعبين كبار من أمثال "ثري أم" و"جي إي" و"جونسون آند جونسون" و"ديل" و"آي بي أم"

الثقافة

تتمثل الطريقة الفضلى لتلبية دافع الارتباط – توليد إحساس قوي بالصداقة الحميمة – في خلق ثقافة تشجع عمل الفريق والتعاون والانفتاح وبناء الصداقات. إذ قام البنك الملكي الاسكتلندي بتحطيم ذهنية الانعزال في موظفيه الجدد القادمين من نات ويست عبر تعيين موظفين من الشركتين للعمل معاً في مشاريع محددة المعالم لخفض النفقات وزيادة الإيرادات. وهو ما مثّل انطلاقة لكلا الشركتين، فشجعت الهيكلية الجديدة الأفراد على الانعتاق من علائقهم القديمة وتكوين روابط جديدة. ولتقديم قدوة حسنة للجميع، فقد دأبت الهيئة التنفيذية (التي تضم تنفيذيين من كلا الشركتين) على الاجتماع صباح كل يوم اثنين لمناقشة القضايا العالقة وحسمها، متجاوزة بذلك البيروقراطية وتعقيدات السياسات الداخلية التي يمكن لها أن تتسبب في إعاقة اتخاذ القرار في المستويات العليا من الإدارة. 

ومثال آخر للأعمال التجارية التي تمتلك ثقافة نموذجية يتمثل في سلسلة محال "ويغمانز" (Wegmans) التي حافظت على وجودها لعقد من الزمن ضمن القائمة السنوية التي تصدر عن مجلة فورتشين حول "أفضل مئة شركة للعمل فيها". إذ تحرص الأسرة المالكة للعمل التجاري على جعل الجو الأسري عنصراً حاضراً في ثقافة الشركة على امتدادها. ولطالما عبّر الموظفون عن اهتمام الإدارة بهم وعن اهتمامهم أنفسهم ببعضهم البعض، وهو ما يعد دليلاً على وجود حس عمل الفريق وروح الانتماء.

تصميم الوظيفة

يمكن تلبية دافع الاستيعاب بأفضل طريقة عبر تصميم الوظائف التي تجمع بين المعنى والإمتاع والتحدي. مثلاً، على الرغم من ضبط البنك الملكي الاسكتلندي لنفقاته كأكثر ما يكون خلال عملية اندماجه مع نات ويست، إلا أنه استثمر بسخاء في منشأة لكلية أعمال متقدمة تجاور مبناه الرئيس ويتاح لموظفيه الاستفادة من برامجها. وهو ما لم ينعكس حصراً في نجاح الشركة في تلبية دافع الارتباط، وإنما مثل تحدياً جعل موظفيها يُعملون تفكيرهم بصورة أوسع للإسهام في إفادة زملائهم في العمل وكذا الزبائن والمستثمرين.

ويبرز سيرك دي سوليه (Cirque du Soleil) أيضاً في التزامه على جعل الوظائف جامعة بين التحدي والإشباع لطموح أصحابها. فعلى الرغم من التمرين المضني ومواعيد الأداء المنهكة، إلا أنه يجتذب المؤدين ويحافظ عليهم من خلال استيعاب إبداعاتهم ودفعهم قُدماً إلى إتقان ما يقومون به. ولموظفي السيرك رأياً مسموعاً في كيفية تنظيم الأنشطة المختلفة، كما يُسمح لهم بالتنقل لأداء عروض مختلفة بهدف تعلم مهارات جديدة. إضافة إلى ذلك، يتم باستمرار جمعهم مع كبار الفنانين والمؤدين العالميين في هذا المضمار.

عمليات إدارة الأداء وتخصيص الموارد

إن إدارة الأداء وتخصيص الموارد عبر عمليات تتسم بالعدل والموثوقية والشفافية يساعد في تلبية دافع التصدي عند الأفراد. فقد اجتهد البنك الملكي الاسكتلندي مثلاً في جعل عمليات اتخاذ القرار عنده بالغة الوضوح. فقد لا يوافق الموظفون على قرار بعينه، كإيقاف المضي في مشروع صغير أو خاص، ومع ذلك فهم قادرون على فهم المنطق الذي أدى إلى مثل هذا القرار. أما مبادرات التكنولوجيا الجديدة في ذات المصرف، فهي تخضع لمراجعة فرق عابرة للتخصصات الوظيفية التي تتخذ بدورها القرارات تبعاً لمعايير واضحة، مثل مستوى الأثر على الأداء المالي للشركة. وخلال الاستبيانات، عبّر الموظفون عن عدالة العملية وشفافية معايير التمويل. وعلى الرغم من أن البنك الملكي الاسكتلندي مؤسسة مرهقة للموظفين، إلا أن موظفيها يرون بأنها عادلة كذلك.

كما تبرز أيضاً شركة "آفلاك" (Aflac) باسمها الذي لا يكاد يغادر القائمة السنوية لمجلة فورتشين حول "أفضل مئة شركة للعمل فيها"، إذ تتميز آفلاك في مواءمتها بين الروافع المؤسسية من جهة والدوافع العاطفية من جهة أخرى على عدة جبهات. (للتعرف على طرق عملية وواقعية تفصّل كيف يمكن لشركتك استخدام روافعها التحفيزية، راجع الشكل التوضيحي "كيف تلبي الدوافع التي تحفز الموظفين"). إذ يتم تقدير الأداء الفردي اللامع ومكافأته في آفلاك بأساليب غاية في الظهور والعلانية، بما يستهدف دافع التملك لدى الأفراد. أما جهود بناء الثقافة في الشركة، مثل "أسبوع تقدير الموظف"، فهي ترمي بوضوح إلى خلق شعور بالترابط. كما تلبي الشركة دافع الاستيعاب من خلال الاستثمار السخي في مجال التدريب والتطوير. إذ لا يقتصر عمل مندوبي المبيعات على البيع فحسب، بل تتاح لهم الفرص لاكتساب مهارات جديدة عبر ممارسة الإدارة وتوظيف الأفراد وتصميم المناهج التدريبية الخاصة بتأهيل المندوبين الجدد. وفيما يخص دافع التصدي، فالشركة تسعى جاهدة لتحسين جودة حياة موظفيها. بل وتذهب إلى أبعد من التدريب والمنح الدراسية، فتوفر مكاناً لرعاية الأطفال ضمن موقع العمل بما يسهم في تعزيز التوازن بين الحياة الشخصية والعمل. وترعى جانب الثقة عبر سياسة تمنع تسريح الموظفين. فالفلسفة المعلنة للشركة هي فلسفة تتمحور حول الموظف، بمعنى الاهتمام به في المقام الأول. وفي المقابل، فالشركة تؤمن أن الموظفين سيقومون بما عليهم من توفير الاهتمام اللازم بالزبائن.

توضح الأمثلة المقتبسة من الشركات التي اخترنا عرض ممارساتها في هذا المقال ما للروافع المؤسسية من أثر على التحفيز بالإجمال، لكن يبرز من بينها مثال شركة آفلاك كحالة نموذجية للممارسات المنسقة بصورة تجعلها تخدم وتلبي جميع الدوافع الأربعة للموظفين. وبحسب بياناتنا، فانتهاج مقاربة شاملة من هذا القبيل هو السبيل الأفضل. فحين يعرب الموظفون عن تحسن ولو طفيف في تلبية أي من الدوافع الأربعة، يتحسن إجمالي التحفيز لديهم بمقدار مماثل. إلا أن التفوق في ذلك مقارنة بالشركات الأخرى إنما يتأتى من اجتماع الأثر العائد إلى الدوافع الأربعة. ولا يمكن تفسير هذا الأثر بمجرد تلبية عدد أكثر من الدوافع، وإنما بالأفعال التي تتخذ على عدة جبهات والتي يظهر أنه يقوي بعضها بعضاً. فالمقاربة الكلية تزيد في قيمتها على مجموع الأجزاء المكونة لها، حتى إذا كان العمل على كل جزء منها يضيف قيمة بحد ذاته. خذ مثلاً شركة كانت تصنف في المرتبة الخمسين من مئة في مجال تحفيز الموظفين. حين يقيّم العاملون فيها تصميم الوظيفة (الرافعة الأكثر تأثيراً على دافع الاستيعاب) بمقياس متدرج من صفر إلى خمسة، تسهم كل نقطة إضافية بما يعادل 5% في التحسين المبدئي للتحفيز، مع قفزة متواضعة لتصنيف الشركة من المرتبة الخمسين إلى السادسة والخمسين. لكنك إذا حسنت الأداء في جميع الدوافع الأربعة، فستحصل على 21% في التحسين المبدئي للتحفيز، مع قفزة كبرى إلى المرتبة الثامنة والثمانين. (تظهر مكاسب الترتيب في الشكل التوضيحي "كيف تقوم بخطوات جبارة في تحفيز الموظفين"). وهو ما يمثل ميزة تنافسية كبرى لأي شركة من ناحية رضا الموظفين، وانخراطهم في أعمالهم، والتزامهم بما عليهم، وعدم رغبتهم في الاستقالة.

[su_accordion] [su_spoiler title="

كيف تقوم بخطوات جبارة في تحفيز الموظفين

" open="no" style="default" icon="plus" anchor="" class=""]يكمن السر وراء صعود شركتك إلى مرتبة سامقة فيما يتعلق بتحفيز الموظفين في تحسين فاعليتها في تلبية الدوافع العاطفية الأساسية الأربعة جميعها وليس واحداً منها فحسب. خذ مثلاً شركة كانت تصنف في المرتبة الخمسين من مائة في مجال تحفيز الموظفين مقارنة بغيرها. يساعد تحسين يقتصر على تصميم الوظيفة (الرافعة الأكثر تأثيراً على دافع الاستيعاب) في إحداث نقلة متواضعة إلى السادسة والخمسين. لكن تحسين الأداء في جميع الدوافع الأربعة، يتسبب في تحقيق نقلة نوعية إلى المرتبة الثامنة والثمانين.[/su_spoiler] [/su_accordion]

دور المدير المباشر

يشير بحثنا إلى أن المؤسسات لا تمتلك صفة احتكارية مطلقة حين يتعلق الأمر بتحفيز الموظفين أو تلبية الدوافع العاطفية للأفراد. فنظرة الموظفين إلى مدرائهم المباشرين لا تقل أهمية عن ذلك. إذ يدرك الأفراد وجود عدد من العوامل المؤسسية التي تؤثر في تحفيزهم وأن بعضاً منها يقع خارج سيطرة الشخص المشرف عليهم، إلا أنهم يفرقون بين تلك العوامل عند الشروع في تقييم قدرة أحد المشرفين على استدامة تحفيزهم. وقد ساوى الموظفون المشاركون في دراستنا بين أهمية تلبية رؤسائهم لدوافعهم الأربعة وسياسات المؤسسة. وبمعنى آخر، أدرك الموظفون أن للمدير قولاً في الكيفية التي تطبق بواسطتها عمليات الشركة وسياساتها. (راجع الشكل التوضيحي "للمدراء المباشرين أثرهم أيضاً").

لا يتوقع الموظفون من مشرفيهم امتلاك قدرة استثنائية لتغيير نظام المكافآت في الشركة أو ثقافتها أو تصميم الوظائف أو نظم الإدارة. وفي حين أن للمدراء فسحة للمناورة ضمن نطاق تأثيرهم، يلجأ بعضهم إلى التعلل بالأنظمة غير الفعالة، بينما يكافح البعض الآخر لاستخراج كل ما بوسعه من نموذج العمل الذي تشوبه العيوب. إذ يمكن للمدراء مثلاً إنشاء رابط بين المكافآت والأداء في مجالات الشكر والتقدير واختيار المهمات. كما يمكنهم تخصيص مجموعة علاوات بأسلوب يميز بين أصحاب الأداء العالي وأصحاب الأداء الرديء. وبصورة مماثلة، يمكن للمدير القيام بأفعال تشجع عمل الفريق وتجعل للعمل معنى أرقى ومتعة أكبر حتى في ظل ثقافة طاحنة تقدس الأداء ولا ترعى نمو صداقة حميمة بين الموظفين. بل إن العديد من المشرفين يحظون بتقدير موظفيهم جرّاء نجاحهم في رعاية بيئة عمل محلية عالية التحفيز على الرغم من قصور الشركة ككل في هذا المضمار. وبالمقابل، يخلق بعض المدراء جواً خانقاً في دوائر عملهم وإن تميزت المؤسسة التي هم فيها بارتفاع التحفيز.

وعلى الرغم من نظر الموظفين إلى العناصر المختلفة في مؤسستهم على أنها تتناول دوافع متباينة، إلا أنهم يتوقعون من مدرائهم أن يبذلوا غاية ما في وسعهم لتلبية الدوافع الأربعة ضمن القيود المؤسسية المحيطة بهم. إذ أظهرت استبياناتنا ميل الموظفين إلى خفض تصنيف أي مدير بشدة إذا ما لاحظوا تدهور أداءه مقارنة بأقرانه ولو في تلبية واحد من الدوافع، وإن كانت المؤسسة ككل حافلة بالقيود. فالموظفون عادلون بحق إذا ما تعلق الأمر برؤية الصورة بشمولها والسياق الذي يعمل فيه المدير ضمن مؤسسة تتجاوز في حجمها حدود عملهم، لكنك تجد أولئك الموظفين ذاتهم يقدمون تقييماً بالغ الصرامة والدقة حول مدرائهم يتجاوز تلك المحاذير. وباختصار، فالموظفون واقعيون في تحديد ما لا يطيقه مدراؤهم وكذلك في تحديد ما ينبغي عليهم فعله لتلبية جميع الحاجات الأساسية لمرؤوسيهم. 

على سبيل المثال، أظهر أحد المدراء في شركة الخدمات المالية التي درسناها تفوقاً على أقرانه في تلبية دوافع مرؤوسيه للتملك والارتباط والاستيعاب. ومع ذلك، أشار مرؤوسوه بأن قدرته على تناول دافع التصدي لديهم كان دون المعدل الوسطي لسواه من المدراء في الشركة. ونتيجة لذلك، كانت مستويات الانخراط في العمل والالتزام المؤسسي في مجموعته أدنى مما هي عليه في الشركة ككل. فعلى الرغم من تفوق هذا المدير في تلبية ثلاثة دوافع من أصل أربعة، إلا أن ضعفه النسبي في أحدها أدى إلى انحطاط المعدل الإجمالي للتحفيز في مجموعته.

يطرح نموذجنا مسألة تحفيز الموظفين على أنها تتأثر بمنظومة معقدة من العوامل الإدارية والمؤسسية. فإذا سلمنا بقدرة القوى العاملة المحفزة على تعزيز أداء الشركة، فسوف تساعد الرؤى التي فصلها مقالنا حول السلوك البشري في تمكين الشركات والتنفيذيين من الحصول على أفضل ما لدى الموظفين عبر تلبية حاجاتهم الأساسية. 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي