مررنا جميعاً بهذا الشعور: تحاول التركيز على مهمة محدَّدة، لكنك سرعان ما تجد نفسك تطل من النافذة متأملاً المارة، أو تتساءل عما ستأكله على العشاء أو تحلل مباراة الغولف التي لعبتها اليوم أو تتخيل لقاءك بأحبائك؛ كيف شرد عقلك لينتهي به المطاف في هذه المدينة الشاطئية في حين كان من المفترض أن ينشغل بالتفكير في استراتيجية الربع الأول؟

الفوضى هي رد الفعل الطبيعي المضاد للتركيز أو الانتباه، لكنها فوضى تقوم على بنية تنظيمية محدَّدة.  ولكي تتعلم رفع مستوى تركيزك، عليك أن تبدأ بفهم “البنية التنظيمية للإلهاء”؛ أي كيفية تشتُّت تركيزك في المقام الأول.

على مدار الأعوام العشرين الماضية من عملي طبيباً نفسياً سريرياً، ترأستُ ورش عمل ومجموعات تأمُّل لتعليم المشاركين من مختلف الفئات كيفية تحديد بنية تشتُّت تركيزهم، وتبيّن لي من خلال عملي مع الأطباء المعالجين الذين يتعاملون مع كبار السن أن فهم هذه البنية ساعدهم على التمييز بين احتياجات المرضى الذين يعيشون آخر أيامهم واستجاباتهم العاطفية. ساعدت هذه المهارة نفسها الأُسر على التخلُّص من مشاعر الاستياء وتفضيل التفاف بعضها على بعض، كما ساعدت قادة الشركات على توضيح أهدافهم الاستراتيجية واكتساب الشجاعة لتكوين العلاقات وإنهائها على المستويين الداخلي والخارجي، حتى إنها ساعدت لاعبي الغولف في الحفاظ على تركيزهم الذهني على اتجاه العصا وتركيزهم البصري على الكرة.

ونستعرض فيما يلي إعادة صياغة الحكمة التي ظهرت منذ أن لاحظ الناس أول مرة أن لديهم عقولاً، ولاحظوا في الوقت نفسه أن انتباه العقل قد يتشتّت بعيداً عن تركيزه المتعمَّد. لم تبدأ المشكلة بالهاتف الخلوي، على حد وصف الباحثة والمبتكرة كاثي ديفيدسون؛ فقد جاء في الأساطير اليونانية أن هرقل استطاع إلهاء أطلس وخداعه ليفقده تركيزه ويسلبه حريته،  وطلب هوميروس من سيرس إلهاء أوديسيوس عن رحلته، وقد لا تكون هذه أول أو آخر محاولة للإلهاء غير الأخلاقي في التاريخ.  شرح سقراط لأفلاطون في حواره الأخير أن العقل ينشطر عادةً إلى أجزاء عدة فيتشتت انتباهه، والغرض من الفلسفة هو “تجميع” القدرات الفكرية للعقل وتركيزها على الرغم من قوى الطرد المركزي، وأشار شكسبير أكثر من مرة إلى العقول المشتَّتة، منها على سبيل المثال ذلك المشهد المسرحي الذي يؤديه كلاوديوس بمسرحية هاملت.

ومن الملاحظ أن معظم المفكرين، مثل أفلاطون، لا يكتفون بالتذمُّر من الإلهاء فحسب، بل يشيرون ضمناً أو صراحة إلى طرق معالجة سلبياته أيضاً. وأكد جميع المهتمين بالتقاليد التأملية، بدايةً من غوتاما بوذا وصولاً إلى المؤسِّس المشارك لشركة هيدسبيس (Headspace)، آندي بوديكومب، أن الطريقة الأساسية للتعامل مع الإلهاء هي أن تقبل به أولاً، ما يعني ملاحظته؛ إذ تلاحظ الإلهاء ومن ثم تستعيد تركيزك مجدداً.

ويلخص النهج الذي أستخدمه الحكمة المستفادة من هذه التقاليد المتباينة ويختصرها، وفيه تبدأ ببساطة بملاحظة أن هناك 4 مراحل للانتباه والإلهاء تحدث في كل مرة تحاول فيها التركيز:

  1. أولاً، تختار التركيز. قد يتوجه تركيزك إلى أي شيء، في أيٍّ من مجالات الحياة. ومن المفترض أن يتوجه تركيزك في العمل على أحد الجوانب التي تخص العمل، فقد يتوجه تركيزك مثلاً إلى الشخصيات التي يجب دعوتها لحضور اجتماع مهم.
  2. عاجلاً أم آجلاً يتشتت انتباهك. لم تكن تخطط لهذا بكل تأكيد، لكنه حدث رغماً عنك (لو كنت تخطط لأمر كهذا عن عمد، لكانت تلك محاولة للتركيز على جانب آخر، وليست شروداً).
  3. تستفيق بعد برهة من الزمن على حقيقة أن عقلك قد تعرّض للشرود. لقد لاحظتَ الإلهاء، وأدركتَ كم كنتَ بعيداً كل البعد عن الشيء الذي أردت التركيز عليه في الأساس. أعيد وأكرر، لا يمكنك التخطيط لأمر كهذا أو اختياره.
  4. بعد الاستفاقة، يمكنك اختيار العودة إلى الموضوع الأصلي، مثل معاودة التركيز على الشخصيات التي يجب دعوتها لحضور الاجتماع. عندئذٍ يمكنك اختيار الاستسلام مجدداً والتركيز على شيء آخر تماماً. الأمر متروك لك؛ إنه اختيارك أنت.

إذا عدت إلى الموضوع الأصلي في الخطوة الرابعة، فسوف يتكرر الأمر برمَّته من جديد؛ وبالتالي يتشتت عقلك، عاجلاً أم آجلاً.

بمراجعة هذه الخطوات الأربع، ستلاحظ أن الخطوتين الأولى والرابعة تمثلان اختيارات واعية، بينما تمثل الخطوتان الثانية والثالثة اختيارات غير واعية تحدث رغماً عنك. تبدو القوة اللاواعية في الخطوة الثانية بالعمل، عندما “يشرد عقلك”، معادية للتركيز؛ والقوة المؤثرة في الخطوة الثالثة، عندما تلاحظ إلهاءك، لا تصبُّ في مصلحة تركيزك بالدرجة الأولى، لكنها تصبُّ في مصلحة حريتك بكل تأكيد؛ إذ تجعلك تستفيق على حقيقة أنك تبتعد عن موضوعك الأصلي، ثم تترك لك خيار العودة إلى التركيز على الموضوع الأصلي من عدمه.

وبمجرد ملاحظة هذه المراحل مراراً وتكراراً فور حدوثها، ستجد أن النمط يتغير. قد تلاحظ في البداية حدوث هذه المراحل الأربع دون أن تعيرها انتباهك، لكن مع الاهتمام المتكرر بالعملية، ستميل إلى الحفاظ على التركيز على الموضوع الأصلي لفترة أطول قبل أن يبدأ سريان مفعول الإلهاء. سيشرد ذهنك بعيداً عن الموضوع الأصلي لفترة أقصر من الزمن، قبل أن تستفيق مجدداً. وبعد أن تستفيق من الإلهاء، ستختار في كثير من الأحيان العودة إلى الموضوع الأصلي بدلاً من الاستسلام والتمادي في الشرود.

وإليك كيفية البدء بذلك: اختر موضوعاً؛ أي موضوع أو شيء تريد التركيز عليه وترى أنه سيفيدك في عملك، قد يكون قراراً شخصياً أو قراراً استراتيجياً أو حتى مشكلة إدارية. هذه هي الخطوة الأولى، أي مجال تركيزك. فكّر في الأمر بوضوح وبأسلوب إبداعي قدر الإمكان، بعد فترة وجيزة من الزمن، سوف يتشتت انتباهك؛ لكن ملاحظة الإلهاء وبنيته التنظيمية سيعززان تدريجياً قدرتك على الاستمرار في التركيز وتجنب الإلهاء في المقام الأول.